علاء القاضي، أو دادا أتمان شاريا، كما يطلق على نفسه. (مصدر الصورة: وسائل التواصل الاجتماعي).
علاء القاضي، أو دادا أتمان شاريا، كما يطلق على نفسه. (مصدر الصورة: وسائل التواصل الاجتماعي).

في مطلع الشهر الماضي، ظهر رجل وامرأة بلباس الرهبان الهندوس في الجامع الأموي بدمشق، وهما يؤديان بعض طقوس التأمل، الأمر الذي خلق عاصفة من الاستنكار في الشارع السوري. ورأى الكثيرون أن هذا "الظهور الغريب" للرجل الغامض والمرأة التي ترافقه ما هو إلا "إمعان من النظام في إسباغ طابع سياحي على هذا المعلم الإسلامي السني الشهير، كنتيجة من نتائج انتصار النظام ومعه الحرس الثوري الإيراني على الثورة السورية".

ويحاجج أصحاب هذا الرأي بأن انتهاك رمزية الجامع الأموي، الذي بني في أيام الخليفة الوليد بن عبد الملك عام 705 م، بدأت منذ عام 1965 حين تحول هذا المسجد عام 1965 إلى بؤرة عصيان مدني للدمشقيين ضد حكم حزب البعث. ومنذ ذلك التاريخ، منع من الخطابة فيه شيوخ دمشق المعروفون، وأوكلت المهمة لأي خطيب مغمور يتلو ورقة مكتوبة سلفا من جانب مكتب الإعداد القطري في حزب البعث.

ويتابع أصحاب هذا الرأي القول إن هذه القاعدة لم تكسر إلاَّ في عام 2005 حين أقنع الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي رئيس النظام السوري بشار الأسد بإعادة خطبة الجمعة في "الأموي" إلى سابق عهدها، كـ"خطبة حقيقية" يلقيها شيخ من مشايخ دمشق ذوي المكانة الدينية والاجتماعية. وهو ما تحقق على أرض الواقع، ولكن بالتناوب بين أربعة شيوخ هم الشيخ البوطي نفسه (اغتيل عام 2012)، والشيخ سارية الرفاعي، والشيخ راتب النابلسي، والشيخ كريم راجح، والثلاثة الأخيرون من أبرز شيوخ المعارضة السورية. ولكن مع بداية الثورة السورية توقفت هذه الخطب.

 

ضجة عارمة

 

بعد الضجة العارمة التي اجتاحت القنوات التلفزيونية والإذاعات السورية، وصفحات التواصل الاجتماعي، أصدرت وزارة الأوقاف بياناً أوضحت فيه أن "المجموعة التي دخلت إلى الجامع الأموي وتم تصويرها فيه، دخلت ضمن وفود الزائرين والسياح الذين يزورون الجامع ويقدرون بالآلاف".

وشددت الوزارة على أن "التصوير تم من دون علم إدارة الجامع الأموي أو التنسيق معها"، ولفتت إلى أن إدارة الجامع، وحين تنبهت لذلك، قامت بتنبيه السياح المعنيين ومنعهم من التصوير أو ممارسة الطقوس الغريبة التي قاموا بها".

وأشارت الوزارة إلى أنها "وجهت إدارة الجامع الأموي لمنع تكرار مثل هذه الظاهرة، وتنبيه كافة الزائرين إلى ضرورة الالتزام بالقواعد والآداب التي تحافظ على حرمة وقدسية الجامع الأموي".

لكن سرعان ما اتضح أن من وصف بـ"الراهب الهندوسي" ليس سائحاً أجنبياً، إنما شاب سوري من محافظة السويداء، ذات الأغلبية الدرزية، يدعى علاء القاضي، وقد اتخذ له اسم "داد أتمان أشاريا" بعد أن تخلى عن مشروعه التجاري الناجح في الإمارات العربية المتحدة والتحق ببعض المراكز الروحية في الهند والفلبين قادته إلى الدخول في معتزلات طويلة من التأمل هناك، ليعود قبل عامين إلى سوريا، وليبدأ بالدعوة إلى تعميم تجربته الروحية.

 

 روحية "الأموي"

 

نفى علاء القاضي، أو "دادا أتمان" كما يطلق على نفسه، في تصريحات لـ "ارفع صوتك" أي علاقة له بالنظام أو أي ارتباط بأجندات سياسية. وقال إن زيارته للجامع الأموي، هي زيارة إلى مكان ذي خصوصية روحية تقصده الناس للراحة الروحية، "فهو قبل أن يكون جامعاً؛ كان كنيسة، وقبل ذلك معبداً رومانياً، وقبل ذلك معبد آرامياً". لذلك، يقول دادا أتمان، إن التاريخ العريق للمكان هو وحده الذي شجعه على أن يقوم بجلسة التأمل التي أغضبت الكثيرين.

ويضيف: "لم أشعر بالخوف من خوض تجربة التأمل في الجامع الأموي، فهو مكان أنتمي له وهو ثمرة من ثمار أسلافنا، ولا شك في أن ثمة شيئا مميزا في هذا المكان الذي يبدو وكأنه مكان مثالي منذ فجر التاريخ للبحث عن الله وإدراكه".

 

"لست من أتباع ساي بابا"

 

قبل نحو عقدين من الزمن انتشرت في محافظة السويداء منشورات دعائية للمعلم الروحي الهندي الشهير ساي بابا. تظهر المنشورات صورا لثلاثة أشخاص وتزعم أنهم كلهم ساي بابا في ثلاث "حيوات سابقة" (فكرة التقمص أو تناسخ الأرواح التي تؤمن بها أيضا الطائفة الدرزية وينتمي إليها علاء القاضي). وقد سافر بعض الشبان من هذه محافظة السويداء إلى الهند للقاء هذا المعلم الذي كان مريدوه ينتظرون أمام قصره أسابيع، وربما أشهر لكي يحظوا بفرصة النظر إليه عن كثب، وإن تمكنوا من السلام عليه، تكون زيارتهم قد حققت هدفها.

لكن علاء القاضي ينفي أن يكون تأثر بساي بابا أو أنه من أتباع مدرسته على الرغم من "إيمانه" هو نفسه بأنه "خاض تجربة التقمص"، وما زال يذكر أشياء عن حيواته السابقة كما يقول، لكنه لا يريد الخوض فيها.

وعلى الرغم من أن الديانة الدرزية تتضمن فكرة التأمل وتنقية النفس، والإيمان بتناسخ الأرواح، إلا أن علاء القاضي لا يرى بأن خلفيته الدينية هي التي قادته إلى هذا الطريق، بل ما يسميه "نزوعه إلى مصدر الوجود"، كما قال. وشدد القاضي في تصريحاته أنه "خرج كلياً من فكرة الطائفية إلى فكرة الكونية"، فالله بحسب تعبيره: "موجود في كل الوجود، وهو مصدري، وقد كشفت نفسي للشمس بعيداً عن أي عرق أو لون أو لغة أو ثقافة أو معتقد أو عائلة".

ويتابع دادا أتمان : "أردت أن أنتمي للمظلة الكونية فقط، أن تحب الجميع وتؤاخي الجميع، وتكون أقرب للجميع، وعلى مسافة واحدة من الجميع".

ويعلل سبب رفضه الحديث عن "حيواته السابقة" بالقول "إن التجربة الروحية تخاض، ولا يتم الحديث عنها، لأن الحديث سوف يبقى قاصراً ويدخلك في جدل يفقد الحالة الروحية معناها"!.

 

"فوق الأديان"

 

في رده على الاتهامات التي طالته بمحاولة تأسيس ديانة جديدة؛ يقول علاء القاضي إن "دعوته تتجاوز فكرة الأديان". فالبشرية، بحسب تعبيره "بحاجة إلى أن تعرف أن مقدرات الوجود هي ملك مشترك للبشرية جمعاء، وأن الخلاص هو في بناء حضارة كونية واحدة، وإيمان بالمصدر الإلهي"، مشدداً على أن تطور الجنس البشري سيؤدي حتماً إلى إزالة جميع الحدود والفوارق بين الناس.

ويوضح القاضي عناصر الطريقة الروحية التي يتبعها بقوله: "الممارسة الروحية تخرجنا من وهم الانفصال عن المصدر الإلهي. كلما اقتربنا من ذاتنا اقتربنا أكثر من الجوهر الكلي. لقد علمتني الممارسة الروحية أن أخرج من الانتماءات المحدودة، وأن أنمي جسدي بشكل صحي وصحيح، وألا أؤذي باقي الكائنات. ما أدعو إليه وأدرب الآخرين عليه هو الابتعاد عن المشاعر الدنيا، كل اللغات هي لغتي، كل الألوان هي لوني، الحب هو حب كلي".

ويضيف: "التأمل الذي نمارسه يساعد على ضبط الذات وتطويرها. الممارسة الروحية التي نمارسها هدفها خدمة الوجود، لأن الله موجود في كل مكان، التأمل يساعد على توسيع العقل ليشكل كل الوجود".

 

تجاوز آثار الحرب

 

يطمح علاء القاضي أن يساعد بلاده على تجاوز آثار الحرب، وهو يعتقد بأن تجربة الحرب خير بحد ذاتها، لأن "الله يريد لنا الخير بالشدة والرخاء" بحسب تعبيره. ويتابع القول: "إن التجارب الصعبة هي توقظنا وتنبهنا إلى مواطن النقص التي كانت فينا، والجوهر لا يظهر معدنه إلا بعد اختبار الصعوبات والتحديات".

ولا ينكر علاء القاضي أن ظهوره في المشهد السوري أثار استهجان الكثير من السوريين وغضبهم، مؤكداً أن ما أسماها "مشاعر الرعب" التي ظهرت على الكثيرين؛ "أظهرت هشاشة المنظومات التقليدية في المجتمع السوري".

وفي ذلك يقول: " حس نظرية المؤامرة عال لدى هؤلاء. لقد توقعت منذ البداية أن تواجهني مثل هذه الاتهامات، فأي جديد يتعرض للمقاومة، وفي فلسفة التأمل التي أمارسها فإن "الدارما" تتضمن صعوبات. وأنا شخصياً لا أريد أن أتحدى أحد، وليست لدي أي أفكار أو مشاريع مسبقة، وسبب ردود الأفعال الرافضة لظهوري هي عدم المعرفة، فلو عرفوني لما وقفوا ضدي".

ومع ذلك، يقول إن هناك أناس كثيرين من داخل سوريا وخارجها بدأوا بالبحث عنه لكي يتعلموا منه خوض التجربة الروحية. وأن قاعدة مريديه تتوسع يوماً بعد يوم، وأنه بدأ بمشاريع خيرية بسيطة تتضمن إطعام مشردين ومعاقين، وحملات تشجير، وإطعام حيوانات، وزيارات دعم، وإرشاد للمدمنين والمساجين.

وحول اسمه الغريب الذي تبناه "دادا أتمان شاريا" قال إن دادا تعني الأخ المقدر للمعلمين الروحيين، وأتمان تعني جوهر الروح، وأن تبنيه لهذا الاسم يعكس إيمانه بالفكرة الكونية، وتخليه عن أي انتماءات عائلية أو طائفية أو قبيلة.

 

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".