منذ عام 2016، بدأت المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية في شمال البلاد باستخدام العملة التركية تدريجيا، عقب تدخل أنقرة العسكري في سوريا.
لكن بدءا من شهر يونيو 2020، بات التعامل رسميا بالليرة التركية أمرا واقعا في جميع المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة، بما في ذلك محافظة إدلب الخاضعة لهيئة تحرير الشام.
ولم تعترض "حكومة الإنقاذ" هناك على استخدام الليرة التركية بديلا عن الليرة السورية. هكذا، باتت إدلب والمناطق الممتدة من جرابلس في ريف حلب الشمالي الشرقي إلى عفرين في الريف الشمالي الغربي، تستخدم الليرة التركية في محاولة لمعالجة الأزمات الناتجة عن الانهيارات المتتالية التي تعرضت لها الليرة السورية منذ بداية النزاع في البلاد عام 2011.
لكن، وبعد أشهر قليلة من هذا التحول المالي، بدأت الانهيارات تضرب الليرة التركية. ومعها بدأت الأزمة تتعمق خصوصا وأن الوضع الاقتصادي الهش في مناطق الشمال ليس بمقدوره معالجة أي انهيارات اقتصادية، لغياب أية جهة رسمية فاعلة في تأطير المسار النقدي والاقتصادي وضبطه ضمن قوانين نافذة، ما فتح الباب أمام جملة من الأزمات، سنحاول في هذا التقرير استعراضها.
التأثيرات الأولية
ظهر جليا بعد أشهر قليلة من انتقال الشمال السوري للتداول بالليرة التركية مدى هشاشة العملة التركية أيضا وضعفها أمام أي هزات أو توترات سياسية أو اقتصادية. لمواجهة التأثير الذي ضرب الاقتصاد التركي اتخذت الحكومة هناك إجراءات للحد منه، مثل الزيادة في الأجور، ودعم الفئات الأقل دخلا.
أما في مناطق الشمال السوري، ونظرا لغياب المنظومة الحكومية المؤسساتية، فإن الوضع تردى حتى بلغ حدا استدعى تدخل عدة جهات للتحذير من الأزمة الكبيرة التي يتعرض لها الشمال السوري.
وحذر فريق "منسقو استجابة سوريا" من تزايد عجز القدرة الشرائية للمدنيين في شمال غربي سوريا. وأكد تقرير للفريق في يونيو الماضي أن الفقر ازداد في تلك المناطق إلى مستويات جديدة ما رفع نسبة العائلات الواقعة تحت خط الفقر إلى نحو 86 في المئة.
هيثم النجار يعمل في مكتب حوالات في مدينة إعزاز بريف حلب قال لـ"ارفع صوتك" إن "المشكلة في استخدام العملة التركية هي القيمة الفعلية للشراء في هذه المناطق. فكل يوم، تختلف الأسعار مع اختلاف أسعار الصرف. لذلك تتأثر القدرة الشرائية، وهذا ما جعل أسعار المنتجات في مناطقنا تخضع لمنطق البورصة، ما شكل عبئا على المواطنين، خاصة مع تدني الدخل وتعمق الأزمة الاقتصادية".
وإلى جانب التأثير السلبي لليرة التركية نتيجة انهياراتها المتتالية، برزت مشكلة أخرى؛ وهي الأوراق النقدية التركية التالفة بسبب تداولها لمدة ثلاث سنوات أو أكثر، ليجد السوريون أنفسهم أمام صعوبة استخدام الأوراق النقدية التركية في عمليات البيع والشراء وصرف العملة، بسبب رفض بعض التجار وأصحاب الخدمات قبول الأوراق الموجودة بين أيدي المواطنين لاهترائها وقدمها".
سليم أبو محمد، وهو بائع خضر، قال لـ"ارفع صوتك": "يوميا يأتينا زبائن بعملات ورقية تركية مهترئة، ونحاول بشتى الطرق مع الزبون عدم قبول العملة بسبب صعوبة تصريفها. ولكن نضطر إلى قبولها أحيانا لأننا نعلم أنه فعلا لا يحمل غيرها من النقود بسبب قلة الأوراق النقدية الجديدة".
أصل المشكلة
يقول المستشار والخبير الاقتصادي أسامة القاضي لـ"ارفع صوتك": "العملة تستخدم كأداة للتداول والادخار. واستخدام الليرة التركية في الشمال الغربي السوري، كان بسبب عدم استقرار الليرة السورية. لذا اعتمد الناس على عملة أكثر استقرارا وهي العملة التركية".
ويضيف: "في حالة الشمال السوري، فإن المشكلة ليست بالعملة بحد ذاتها بقدر ما هي في مشكلة غياب الإدارة المركزية في المناطق التي يتم تداول العملة فيها، وعدم وجود سيادة، وبسبب إدارة الفصائل البدائية التي تضيع موارد الدولة، حيث لا توجد هناك حكومة واحدة مدنية تدير المعابر والرسوم الجمركية وأسعار العملات ومداخيل هذه المناطق. فإدارة تلك المناطق سيئة، ولا ينعكس أي نشاط اقتصادي بالضرورة على مستوى معيشة الأفراد، لأنه لا يوجد أي طريقة إعادة توزيع للمداخيل والثروات في تلك المنطقة".
ويتابع المحلل الاقتصادي: "على اعتبارها منطقة نفوذ تركي، فسبب اعتماد الليرة التركية عملة رئيسة لأن مداخيل عناصر الجيش الوطني والقضاء والمعلمات والمجالس المحلية وكل كوادر القطاع العام، تدفع له الحكومة التركية، فبات لزاما على المنطقة استخدام الليرة التركية".
ويؤكد القاضي: "الناس في كل منطقة أسرى للعملة التي يتم تداولها. فإذا فقدت قيمتها سيتأثر من يتداولها، والتضخم داخل تركيا بلغ مستويات مرتفعة وصلت إلى 80%، وسيؤثر سلبا على مناطق الشمال السوري أكثر من المجتمع التركي بسبب وجود حكومة مركزية في تركيا تعمل على السيطرة والتخفيف من التأثير السلبي على الأتراك إن كان بزيادة الحد الأدنى للأجور ودعم الأفراد والمؤسسات"، لذلك الخاسر الأساسي بهذه المعادلة هو المواطن السوري الذي يعيش في مناطق شمال سوريا.