من أعمال النساء السوريات في مشروع "فجة خرق"- ارفع صوتك
من أعمال النساء السوريات في مشروع "فجة خرق"- ارفع صوتك

يلخص مشغل "فجة خرق" التراث الشعبي والعودة إلى الزمن الجميل، حيث النول والسنارة والخيوط والأقمشة الملونة، وصناعة مشغولات يدوية صديقة للبيئة، تنتجها مجموعة سيدات في محافظة السويداء السورية، عبر إعادة تدوير قطع الأقمشة القديمة وتحويلها لأعمال فنية.

ويقوم مشغل "فجّة خِرَق" لإعادة إحياء التراث بتجديد صنع "فجج الخرق"، وهي البسط التي كانت تصنع من قبل الجدات منذ زمن، ولكن بتصاميم جديدة تجمع بين الحداثة والتقليد، إضافة إلى تصنيع البسط اليدوية على النول أو بالسنارة، وبعض الأعمال اليدوية كالمفارش والأغطية والإكسسوارات وسواها، وجميعها تعتمد على إعادة استخدام وتدوير الأقمشة.

 

فكرة ارتبطت بحركة الوافدين

بدأت فكرة إحياء التراث وإعادة التدوير قبل انطلاق المشروع بوقت طويل، تقول خلود هنيدي مؤسسة ومديرة "فجّة خِرق" لـ"ارفع صوتك": "ارتبطت الفكرة بحركة قدوم الوافدين والوافدات من عدة مدنٍ سورية إلى محافظة السويداء هرباً من القصف والتدمير، باعتبار أن السويداء أكثر أمناً ولم تتعرّض لويلات الحرب المباشرة، حينها اكتظت المدينة بعائلات بلا معيل، أو عائلات ذات دخلٍ يكاد لا يكفي لأبسط متطلباتها".

"كان لا بد من التفكير ببناء علاقات صحية بين الوافدين الغرباء عن جو السويداء، الذين توجّسوا من وجودهم في مكان جديد، لا يعرفه الكثير منهم حتى على الخريطة، وبين أهالي المدينة الذين لم يألفوا سابقا وجود هيئاتٍ غريبة بينهم"، تضيف هنيدي.

وبهذا التقت الحاجة عند النساء الوافدات للعمل، مع رغبة هنيدي القديمة، وحلمها بإعادة العمل على حرفة تراثية تكاد تكون منقرضة، لتحتل مكانا جديدا خدميا وجماليا، فكانت ورشة "فجة خرق" التي استطاعت العمل بتبرعات الأصدقاء والأقارب، وبإشراف مشترك بينها وبين إحدى صديقاتها التي تمتلك الشغف ذاته، وبجهود خمس نساء، سرعان ما ازداد عددهن إلى ثمانية، من السيدات الوافدات وسيدات المجتمع المحلي.

من ورش العمل في المشروع- ارفع صوتك
من ورش العمل في المشروع- ارفع صوتك

 

مساحة للبوح

تبيّن هنيدي أيضاً، وهي أخصائية نفسية، كيف حولت مكان العمل إلى مساحة للبوح والتعبير وطلب المساعدة.

تقول: "قد يبدو مجال العمل النفسي بعيداً عن العمل اليدوي الفني، لكني أرى بينهما قربا من نوعٍ خاص، وهذا ما جعل العمل على بناء العلاقة من أبرز النشاطات في ورشة فجّة خِرَق، فهموم النساء واحدة هنا، حيث المخاوف، وهموم تربية الأولاد خصوصا للأمهات الوحيدات، وتأمين متطلبات العيش وغيرها".

هذا الأمر "أشعر النساء بداية بالطمأنينة وساعدهن على المواجهة، كما خلق وجود السيدات معاً خلال أيام العمل في الورشة مساحة واسعة للكلام، فكانت الأحاديث بينهن أشبه بالبوح، كما ساعدهن دوري كأخصائية نفسية أيضا على التعبير بحرية أكبر، وعلى طلب المساعدة إذا ما احتجنها فيما يخص تفاصيل حياتهن وصعوباتها"، تتابع هنيدي.

من لوحات معرض "قصاقيص"- ارفع صوتك
من لوحات معرض "قصاقيص"- ارفع صوتك

"قصاقيص"

خلقت الأحاديث الممتدة طوال يوم العمل تقاربا وطمأنينة بين النساء العاملات وجعلتهن مقربات بما يكفي لتشارك كل واحدة منهن قصتها مع الأخريات، ولاحقا قمن بتحويل هذه القصص إلى لوحات بألوان زاهية صنعنها بأنفسهن، في سرد لتجاربهن الموجعة مع كل خيط وغرزة إبرة وحركة مقص وشاركنها في معرض بعنوان "قصاقيص".  

تقول هنيدي: "كان لكلٍ منهن حكايتها وذاكرتها المثقلة بصور الأحبة الذين غيّبتهم الحرب، بصور البيوت التي اضطررن لتركها وبتفاصيلها الصغيرة، المؤن التي بقيت على الرفوف، ثياب الأولاد الملوّنة التي لم يسمح الوقت لجمعها من الخزائن، ألبومات الصور والتذكارات الصغيرة، وقصص الرحيل عن المكان المحبوب دون ترف إلقاء النظرة الأخيرة". 

هذا العمل الفني المشترك، شجع أخريات للانضمام بقصصهن أيضاً، ليصبح عدد السيدات ثلاثين، قمن برواية الحكايا ثم تعلّم كتابتها، ولاحقاً تحولها لرسومات على الورق، من أجل نسجها على القماش في آخر مرحلة.

تعتبر هنيدي أن أهمية "قصاقيص"، في تقديمها إضاءات على قضايا النساء بطريقة مختلفة، "فكان المعرض الذي ضم ثلاثين عملا فنيا أشبه بتظاهرة لمناصرة هذه القضايا، وترك هذا أثرا طيبا ضمن مجتمع السويداء المهتم من جهة، ولدى النساء أنفسهن"، حسب تعبيرها.

 

إنتاجات فجة خرق

تقول هنيدي إن أهم ما تنتجه ورشة "فجّة خرق" البساط التقليدي المصنوع على النول باستخدام قصاصات من بقايا الأقمشة، إذ تقوم السيدات بقص القماش الذي يحصلن عليه عادة، إما من محلات الأقمشة وورشات الخياطة والتنجيد، أو من تبرعات الأصدقاء بثياب أو أقمشة قديمة لديهم، إلى شرائح بعرض 1 أو 2 سم، ووصل الشرائح ببعضها وإعادة نسجها، وتقوم السيدات أيضا باستخدام أنواع أخرى من الأنوال مثل نول المسامير، بالإضافة إلى الكروشيه، كما يضاف إلى صناعة البسط قطع تزينيه أخرى للطاولات والأرائك والأسرّة والستائر وغيرها، وجميع هذه المنتجات تستخدم شرائح القماش المعاد تدويره.

وتشير إلى مشاركة الورشة بعدة معارض وبازارات سواء في السويداء نفسها أو في العاصمة دمشق، إذ لقيت ترحيبا جيدا من المهتمين والمهتمات بهذا النوع من الحرف الفنية وبفكرة إحياء التراث وإعادة التدوير.

"هناك أشخاص كُثر يعبرون عن رغبتهم باقتناء قطع فنية، ويشترونها بالفعل، وهناك من يرغب بذلك ويعجز عنه بسبب جملة الظروف الصعبة التي نعيشها والتي قد تجعل من اقتناء قطعة تزيين مشروعا مؤجلا"، تضيف هنيدي.

وتؤكد أن "ما يجعل مشروع فجّة خرق مختلفا، تحقيقه لعدة حاجات في الوقت نفسه، إذ قام كاستجابة لضرورة العمل على السلم الأهلي، واستطاع أن يحقق نجاحا خاصا، كونه خلق مساحة آمنة للتعبير، وكذلك حقق وجودا نوعيا تجلى في استعداد عدد كبير من المحيطين بالمشروع لدعمه بكافة السبل الممكنة، وساهم أيضا في جعل فكرة إحياء التراث ممكنة ومتاحة للراغبين بذلك فعليا، بالإضافة إلى ما يقدمه في المجال البيئي عبر إعادة التدوير".

أما التحدي الأكبر الذي يواجه المشروع والمشاريع الأخرى المشابهة، فتبين هنيدي أنه الوضع الاقتصادي المتأزم الذي يبعده في نظر الكثيرين عن أن يكون أولوية، وهناك صعوبة تتجلى في محاولة البعض التعامل مع موضوع التراث "كبريستيج" أو "موضة"، وهذا ما يجعل الوضع أصعب في تمييز الغث من السمين، وفق تعبيرها، مردفةً "هناك صعوبات تتعلق بإمكانية نشر الحرفة وجعل المنتج كما كان تاريخيا، أي وسيلة لتدفئة بيوت الفقراء وتزيينها".

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".