مرت قبل أيام الذكرى الخامسة والتسعون لاكتشاف مدينة أوغاريت في موقع رأس شمرا، قرب مدينة اللاذقية على الساحل السوري، وقد ساهمت ترجمة ملاحمها وأساطيرها في الكشف عن معتقدات الكنعانيين القدماء، الأمر الذي ساعد الباحثين على إعادة النظر في تاريخ الأديان.
قصة الاكتشاف
كانت أوغاريت قبل عام 1928 مكاناً مبهماً ورد ذكره في وثائق مملكة ماري العمورية، قرب دير الزور السورية، حين زارها ملك ماري زمري ليم في العام 1765 قبل الميلاد، كما ورد ذكرها في رسائل تل العمارنة المكتشفة في مصر. لكن مكانها ظل مجهولا دائما.
وعرفت أوغاريت كذلك بوجود صلات وثيقة بينها وبين المملكة الحثية، كما حافظت على العلاقات التجارية والدبلوماسية مع قبرص التي كانت تسمى آنذاك ألاشيا، وبلغت عصرها الذهبي خلال الفترة من 1450 وحتى تدميرها 1185 قبل الميلاد نتيجة عوامل ما تزال غير محسومة بين هجوم شعوب البحر، أو الصراع الداخلي، أو كارثة طبيعية مدمرة.
رغم كل ذلك، ومنذ تدميرها لم يستطع أحد أن يحدد موقع أوغاريت إلى أن ضرب فلاح سوري في شهر مارس عام 1928 بسكة محراثه قبراً خمن لتوه أنه موقع أثري، وسرعان ما انتشر الخبر في اللاذقية، ووصل إلى سلطات الانتداب الفرنسي التي أوفدت يوم 28 مارس منقباً آثارياً يدعى ليون ألباني، أمضى يومين استخرج فيهما عدداً من القطع والجرار الفخارية، وخمن أنها تعود للحضارة الميسينية، وهي حضارة جزر اليونان القديمة.
بعد عام أرسلت السلطات الفرنسية بعثة استكشافية بقيادة عالم الآثار كلود شيفر، وعضوية ألباني نفسه، استغرقت خمسة أسابيع كانت كافية للتدليل على أن الموقع غاية في الأهمية ويحتاج إلى مزيد من الوقت لسبر خفاياه. وقد استمر فريق شيفر بالعمل في الموقع سنوات طويلة، منذ ذلك التاريخ وحتى عام 1970، لم تقطعها سوى أعوام الحرب العالمية الثانية، لتكشف التنقيبات عن مدينة متكاملة، ووثائق على ألواح طينية مسمارية، وأبجدية اعتبرت الأقدم في ذلك الوقت، وتماثيل كثيرة، دينية، وملكية، وحلي، ومصوغات، وأثاث عاجي ملكي.
كنعانيون قدماء
سكن أوغاريت كنعانيون قدماء منذ مطلع عصر البرونز القديم، بين عامي 2900 و2000 ق.م، ودلت على ذلك آثار القسم الشرقي من التل الذي تقوم عليه المدينة. وأكد لوح طيني من موقع تل أبو صلابيخ العراقي، وكذلك لوح من مدينة إيبلا في إدلب السورية أن المدينة عرفت باسمها أوغاريت منذ ذلك الوقت، ومعنى اسمها مشتق من اللغة الآكادية من المصدر "أغارو" أي الحقل.
وفي عصر البرونز الوسيط، من عام 2000 حتى عام 1600 ق.م، توسعت المدينة لتشغل كامل مساحة التل. وفي المرحلة الأخيرة من العصر البرونزي تحولت المدينة إلى مركز تجارة كبير، واستقرت فيها إلى جانب الكنعانيين جالية حورية (الحوريون من شعوب الأناضول القديمة) تركت بعض وثائقها في المدينة. وفي هذه الفترة، أقامت أوغاريت علاقات ودية مع مصر. وكان لها في القرن الخامس عشر ق.م. ملك اسمه أبيران، وفي مطلع القرن الرابع عشر كان ملكها يدعى عمّيستمر. وأشهر ملوكها هو نقم أد الثاني من عام 1370 إلى 1335 ق.م.
مكتبة مسمارية
بلغ عدد الرُّقم (مفردها رقيم ومعناه لوح طيني) المسمارية التي عثر عليها في أرشيفات المدينة حتى العام 1988 حوالي 3557 رقيما فخاريا، إضافة إلى بعض النصوص المكتوبة على أنصاب حجرية وأسلحة، وأوان مختلفة. وهذه الوثائق المكتوبة هي التي أعطت أوغاريت هذه الأهمية والشهرة العالمية.
وقد طورت أوغاريت أبجدية مسمارية مكونة من ثلاثين حرفاً، عثر عليها مرتبة وفق الترتيب الأبجدي المعروف بالعربية والفينيقية والسريانية وغيرها من لغات الشرق، حيث عدها الدارسون التطور الأبرز عن المقاطع الصوتية المعروفة في لغات بلاد ما بين النهرين.
وتتميز الوثائق المكتوبة بتنوعها الشديد بين اقتصادية، وتجارية، ودبلوماسية. لكن الأهم من كل ذلك، هو الوثائق الدينية التي تنطوي على أربع ملاحم هي: ملحمة بعل وتتكون من عدة أجزاء، وملحمة مولد الآلهة، وملحمة عرس القمر، وملحمة الرفائيين. ومنها قصة دانيال وأقهات، وقصة كرت، ومنها نصوص شعائرية وسحرية، وقوائم بأسماء الآلهة.
بالاضافة إلى ذلك، هناك قطع أدبية تشمل قصائد، وحكما، وأمثالا، ونصوصا تعليمية، ومعاجم لغوية بين الأوغاريتية، والسومرية، والآكادية، والحورية، ونصوصا ذات طابع علمي موسوعي فيها تعريفات بأسماء الأسماك، والطيور المعروفة آنذاك، والأقمشة المستعملة، وأسماء أشهر السنة، وقوائم تشتمل على الأوزان، والمساحات، والأحجام. وهناك أيضاً نص في الطب البيطري يتعلق بمعالجة الخيول.
الحياة الدينية
اكتشفت بعثات التنقيب عدداً من المعابد. أهمها معبدان على مرتفع المدينة، بينهما بيت الكاهن الأكبر، وهما معبد الإله إيل ومعه معبد الإله دجن، ومعبد الإله بعل في الجهة الشمالية الغربية. وكشفت الوثائق عن أسرار العبادات والآلهة في أوغاريت، وبينت نصوص الملاحم والأساطير وظائف الآلهة واختصاصاتها والتي تتضمن مشتركات كثيرة مع ديانات المنطقة.
ورغم أن ملحمة بعل ناقصة في بعض التفاصيل بسبب تحطم أحد الرُّقُم؛ إلا أنها في العموم واضحة إذ تصور الصراع بين إله الخصب بعل، وإله الموت "موت" الذي يسكن العالم السفلي، ويموت بعل بعد معركته مع "موت"، وتعلم أخته عنات بالأمر فتطلب من كبير الآلهة إيل أن يحييه، ولكنه لا يستجيب، فتهبط من السماء لتنتقم من "موت"، وتبحث عن بعل إلى أن تجده بمساعدة ربة الشمس "شبش"، فيزدهر الكون من جديد، ويعود إليه خصبه.
وفي مقطع آخر، يخوض بعل ومعه عنات معركة تثبيت ملكه على جبل صافون ببناء قصر له هناك، ذلك أن عشيرة زوجة إيل كانت تريد الجبل لابنها يم إله البحر، ولكن في نهاية المطاف ينتصر بعل، ويعترف الجميع به ملكاً للسموات والأرض، والآلهة والبشر، وينزل "موت" إلى العالم السفلي من جديد.
أقهات ودانيال
تروي قصة أقهات استجابة الآلهة لتضرّع دانيال بعد اليوم السابع من اعتكافه وإقامته الطقوس، وإشفاق الإله بعل عليه، فتهبه الآلهة ولداً يرثه، يسميه "أقهات". وعندما يصبح فتى يافعاً يولع بالصيد ويبرع في فنونه، فيقدّم إليه والده القوس المصنوعة من أرز لبنان، وأوتار الثور البري، وقرون الماعز الجبلي، الذي أهداه له إله الحِرَف والفنون كوثر حاسيس.
وتعرض عنات (أخت الإله بعل) على أقهات الخلود مقابل القوس، لكنه يرفض، وعندها تنتقم منه وتقتله، وحزناً عليه وعقاباً لقتلته تدخل الأرض دورة جفاف لسبع سنوات يموت فيها الزرع، وتصفرُّ الحقول، وتحوِّم العقبان، فتقرّر أخته فجت الانتقام لأخيها، فتمطر السماء، ويعمّ الخير من جديد. ويربط بعض الدارسين بين هذه الملحمة وبعض ما ورد في سفر حزقيال في الكتاب اليهودي المقدس.
وتعالج قصة الملك كرت الصراع بين جيل الآباء والأبناء، وتبدأ القصة من الرغبة الجامحة عند هذا الملك كي يعيد تأسيس أسرة جديدة، بعد أن فقد أسرته في حرب وقعت ضده، ويرى في منامه رؤيا يحاول أن يحققها بقيادة جيوشه لحصار ملك أدوم حتى يستجيب له ويزوجه ابنته حورية، ولكن حادثاً يقع له في ختام حياته، إذ ينازعه ابنه الملك وهو مريض، الأمر الذي يجعله يعيد النظر في العلاقات الإنسانية ويتأمل في طبائع البشر.
تقاطعات مع التوراة
منذ اكتمال ترجمة الملاحم والقصص الأوغاريتية لاحظ الكثير من الباحثين تقاطعات مع بعض قصص أسفار العهد القديم، ووجد آخرون حلاً لمعاني كلمات غامضة أسهمت في فك طلاسم بعض الأسفار. وقد وضع الباحث البريطاني بيتر كريغ كتاباً بعنوان "أوغاريت والعهد القديم" ترجمه إلى العربية قبل فترة الباحث المعروف فراس السواح.
ويؤكد كريغ في كتابه أهمية الإحاطة بنصوص أوغاريت لفهم الكتاب المقدس أكثر. وفي ذلك يقول: "من النادر اليوم ألا نجد في الشروحات والتعليقات على كتاب العهد القديم إشارات متعددة إلى مواقع أثرية، مثل قُمران قرب البحر الميت وأوغاريت على الساحل السوري قرب مدينة اللاذقية. إن موقع قُمران صار اسماً معروفاً إلى حدٍّ ما، أما موقع أوغاريت الذي لا يقل عنه أهميةً، فلم يحظَ بالشهرة التي حظي بها قُمران على الرغم من أن اكتشافه قد ساهم إلى حدٍّ كبير في إعادة ترجمة وتفسير الكثير من كلمات ومقاطع كتاب العهد القديم".
ويرى كريغ أن "أوغاريت واحدةً من مدنٍ كثيرة ملأت عالم الكتاب المقدس، ولكن أهميتها تكمن في تلك الثروة من النصوص الأدبية التي أضافت الكثير إلى معلوماتنا عن عالم الكتاب المقدس، وإلى درجةٍ فاقت ما قدمه أي موقعٍ أثري آخر في شرقي المتوسط، وساعدت على ملء الفجوات بين العالم القديم والعالم الحديث".