صورة أرشيفية لطالبات في إحدى الجامعات السورية
صورة أرشيفية لطالبات سوريات في جامعة "البعث" بمدينة حمص- تعبيرية

لم تمض ثلاثة أشهر على تخرج رياض الرهونجي (24 عاما)، من كلية الهندسة بجامعة دمشق، حتى أعدّ حقيبته للهجرة. 

يقول رياض وهو من نازحي مدينة دوما في ريف دمشق، إنه قرر اللحاق بإخوته الثلاثة الذين هاجروا طلبا للرزق في دولة الإمارات.

ويضيف لـ"ارفع صوتك": "الهجرة هي كل ما خططت له بعد انتهاء دراستي، لأن فرص التطور والعمل في الخارج أكبر بكثير، والمدخول أعلى، والبنية التحتية متوفرة، كذلك الأمن والأمان، وهي من أكثر الأسباب التي تدفع الناس للهجرة".

"ولو أمكن صح للجميع مغادرة سوريا لفعلوا، لكن فرص هجرة الخريجين وأصحاب الكفاءات أعلى من غيرهم، بسبب قدرتهم على البحث عن الفرص والتواصل وتلقي العروض"، يبيّن رياض.

ويشير إلى أن "الكثير" من الكوادر التعليمية في الجامعة التي درس بها هاجرت، موضحاً: "في كل سنة، كنا نلاحظ غياب بعض الدكاترة والمعيدين، وقدوم أشخاص جدد بخبرة وكفاءة أقل.. الكل يعمل بجهد للخروج من بلد يُعتبر مقبرة الكفاءات والطموح والتقدم".

وذكر موقع "Global Economy"، المتخصص بدراسة الآفاق الاقتصادية للبلدان، في مؤشره حول ارتفاع معدلات هجرة الأدمغة والكوادر العلمية في العالم، أن سوريا من بين أكثر الدول العربية تصديرا للكفاءات وهجرة الأدمغة، حيث حلت في المرتبة 11 عالمياً، والأولى عربياً.

من جهته، يقول الطبيب يحيى، الذي يعمل في أحد مشافي العاصمة السورية، وطلب عدم ذكر اسمه الكامل: "من الطبيعي أن تحتل سوريا مركزا متقدما بين الدول العربية في هجرة العقول، والسبب هو التضخم وتدني الرواتب وفقدان قيمة العملة، كذلك الوضع الأمني غير المستتب في الكثير من المناطق".

ويشرح لـ"ارفع صوتك":  "البعض مطلوب للخدمة العسكرية، والبعض يبحث عن مستقبل أفضل لأن الراتب لا يكفي أياما، وعليه أن يعمل بمهن أخرى بعيدة عن مجال دراسته".

ويحذر الطبيب في الوقت ذاته، من "هجرة الكفاءات وصلت إلى مرحلة خطيرة في القطاع الطبي والتمريضي، فبعض المشافي تعمل بطبيب تخدير واحد، وبعضها دون طبيب، ويجري الاعتماد على المتدربين بديلا عن الطبيب بسبب نقص الكفاءات المهاجرة".

"الكثير من زملائي هاجروا، ولولا ارتباطي بوالديّ المسنين لهاجرتُ أيضاً، وأتوقع أنه سيأتي يوم نستورد أشخاصاً من الخارج لندير شركاتنا ومشافينا وأعمالنا مقابل رواتب فلكية"، يتابع يحيى.

نقص على جميع المستويات

يبين الخبير الاقتصادي السوري يونس الكريم في حديثه لـ"ارفع صوتك"، أن هجرة الكفاءات في سوريا ليست وليدة الأزمة الممتدة منذ 12 سنة، إذ "كانت جزءا أساسيا من طبيعة سوريا وسواها من البلدان النامية، لأنها لا تملك ثروات وطنية تفيد أبناءها، وذلك نتيجة الفساد والديكتاتورية، ولأسباب سياسية عدة وعقود وصاية دولية".

ويضيف: "لم تكن هناك محاولات لتحسين الوضع عبر استثمار الثروات المحلية، وكانت النظرة الوطنية مشوهة ولا تعدو كونها خطابات رنانة، فيما الوضع مشبع بالفساد، ويتمثل بالرجل غير المناسب في المكان غير المناسب وفي الوقت غير المناسب، وهذه ثلاثية صعبة الحل، وتشير إلى عدم وجود أمل يرجى في المستقبل".

ويشير الكريم إلى أن "هجرة الكفاءات والأدمغة كانت المتنفس الوحيد لتحسين دخل المواطنين،  حتى أن الدولة السورية تشجع هذا الأمر، باعتباره جزءا من منظومة اقتصاد العالم الثالث، حيث يتم رفد الدول المتقدمة بالاحتياجات من الموارد البشرية، مقابل أن تصدر تلك الدول القطع الأجنبي (العملة الأجنبية) للدول النامية لتتمكن من تلبية احتياجاتها".

ويوضح: "نلاحظ على سبيل المثال أنه في الثمانينيات وتحديدا في الفترة بين 1981 و1985 انهار الاقتصاد السوري ولم يستطع إنقاذه سوى حوالات الأفراد السوريين في الخارج، ما يشير إلى حجم الحوالات ودورها في الاقتصاد. وفي عام 2000 شكل حجم هجرة الكفاءات أكثر من 35%، وإذا دخلنا بتفاصيل الأرقام سنتفاجأ مثلا بأن نسبة هجرة الجامعيين كانت 50%، أما الأطباء فكان يهاجر منهم 6500 كل سنة".

"بالتالي نلاحظ أن الدولة كانت تعي أهمية تأمين كوادر علمية، كنوع من التجارة، لكن لم تكن تهتم بتطوير هذه التجارة، وتحسين بنية الكفاءات التي لديها، بحيث تحقق عائدات أكبر، كما أنها تركت الأمر لسعي الأفراد، وكان هذا الدخل غير مستقر وغير مستدام، ولا يمكن التعويل عليه كمورد من موارد دخل الدولة"، يتابع الكريم.

"خداع وابتزاز".. معاناة أطباء سوريين هاجروا للعمل في العراق
لم يكن الطبيب السوري إبراهيم، البالغ من العمر 43 عاما يتوقع أن ينتهي الأمر به في العراق مهددا بالترحيل في أي لحظة، وهو الذي غادر سوريا منتصف العام الحالي بهدف البحث عن فرصة أفضل له ولعائلته، نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة وانهيار العملة السورية وتضاؤل الرواتب.

ويؤكد الخبير الاقتصادي أن ذلك الأمر "انكشف خلال الثورة السورية، حيث هاجر الكثير من الكفاءات إلى أوروبا، لكن لم يلق المهاجرون اهتماماً من الدول التي وصلوا إليها، فتُرك الأمر للحظ".

ويحذر الكريم من تداعيات هذه الهجرات بقوله: "سوريا اليوم لديها نقص في الموارد البشرية على جميع المستويات، بدءا من قطاع التعليم وقطاع الدراسات العليا والدكاترة الأكاديميين الذين يدرسون في الجامعات، وصولا إلى القطاعات المختلفة، فعندما هاجرت هذه الكفاءات ولم تلق الفرص المناسبة اختفت، وبذلك أضاعت سوريا الحوالات المالية التي تأتي من الأفراد وأضاعت تحسين البنى التحتية التي تشكل الموارد البشرية جزءا أساسيا فيها".

ويرى أن سوريا "تحتاج إلى استيراد هذه الكفاءات، ومواءمة القطاع الذي يمكن استيراده مع البنى التحتية المتوفرة، وهذا الأمر سيكلفها الكثير من الأموال"، لافتاً في الوقت ذاته، إلى دراسة أعدها صندوق النقد الدولي حول العراق وهو وضع شبيه بسوريا، تبيّن الدراسة أن لا إمكانيات متوفرة حالياً للنهوض، إذ تحتاج البلد إلى ضخ المزيد من الأموال.

ويشرح الكريم: "يقصد في هذه الدراسة أنه لا بد من توفير بنية سياسية مستقرة، ونحن نعلم أن الدولة التي يوجد فيها حروب أهليه تحتاج إلى فترة أطول بكثير للتعافي مقارنة بالدولة في فترة الاستعمار، لأن الاستعمار يحاول المحافظة على بناء وتطوير البنية التحتية، أما في سوريا فالخسارة كبيرة، كونها أضاعت الدخل الذي يأتي من الخارج، وأضاعت فرصة الحصول على المزيد من الأموال لبناء بنية تحتية جديدة، وأضاعت فرص تطوير المهارات وإيجاد بديل لتلك التي غادرت البلاد ولم تلق فرصا مناسبة".

ويعتبر أن كلفة إيجاد كفاءات وطنية لخدمة إعادة الإعمار "مكلفة جدا"، وتفوق بكثير كلفة استيراد شركات متخصصة لتعبئة النقص، ولكن الفرق هو "الاستدامة"، مردفاً "هذا الأمر سيشكل عقبة أمام استقرار الميزانيات، فدول الخليج على سبيل المثال لديها ثروة نفطية منذ عدة عقود، ولكنها لم تستطع أن تبني الكفاءات البشرية إلا منذ فترة قريبة، بالتالي ستحتاج سوريا إلى هذا أيضا، ولكن الفرق أن دول الخليج استطاعت استيراد الكفاءات البشرية، بينما سوريا لن تستطيع".

ويقول الكريم، إن ما يشهده البلد اليوم "هدوء نسبي"، ورغم أنه لم يعد هناك معارك بين الطرفين من الشعب السوري، لكن "القبضة الأمنية لا تزال تلعب دوراً، والبنى التحتية وعمل الكفاءات والأدمغة غير متوفر، والفساد هو أحد أهم الأسباب الطاردة للكفاءات، كذلك عملية الاغتيال على الهوية، وانخفاض الدخل، وصعوبة التنقل، وعدم وجود بنى لتطوير هذه الكفاءات، وأيضا عدم وجود مواد أولية لعملها، سواء التعليمية والكتب والأبحاث، أو الطبية كالأدوية والمختبرات، أو الهندسية كالمواد الأولية للتطوير والمساحات، وعدم وجود قوانين ترعى عمل الكفاءات"

ويختم الخبير الاقتصادي حديثه بالتشديد، على "البيئة السورية غير صالحة لبقاء الكفاءات، بالتالي ستستمر هذه الهجرة، وستنعكس سلبا على العديد من المهن التي تحتاجها سوريا بشكل كبير حاليا ومستقبلا، وستظهر بانخفاض مستوى الصحة، ومستوى الطبابة ومستوى جودة الحياة، وتردّي الوضع المعيشي".

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".