صورة أرشيفية لسوريين يصطفون عند صراف آلي- فرانس برس 2013
صورة أرشيفية لسوريين يصطفون عند صراف آلي- فرانس برس 2013

"نُمضي ساعات طويلة وأياماً في بعض الأحيان للحصول على الراتب الشهري من الصرافات الآلية، ولا يبدو أن هذه المشكلة ستُحلّ"، يقول السوري سليمان النكدلي، الذي يقطن في مدينة حمص، الواقعة تحت سلطة النظام.

النكدلي (46 عاماً)، موظف حكومي ينتظر مثل مئات الآلاف راتبه الشهري ليستطيع تأمين معيشة عائلته "لأيام معدودة، يبين لـ"ارفع صوتك": "رغم أن الراتب لا يكفينا لعدة أيام في الشهر، إلا إننا لا نحصل عليه إلا بشق الأنفس، وأصبح الحصول على الراتب الشهري بحد ذاته وظيفة مُرهقة نعيش تفاصيلها على رأس كل شهر".

وكانت صحيفة "الوطن" الموالية للنظام السوري، قالت إن عشرات الشكاوى وصلت خلال الآونة الأخيرة من أهالي محافظة حمص (مدينة وريفاً)، تتحدث بمجملها عن معاناتهم من الانتظار الطويل والازدحام الكبير على الصرافات الآلية للحصول على معاشاتهم الشهرية، وعودتهم في كثير من الأحيان إلى منازلهم دون قبض رواتبهم، وتكرار هذا الأمر لعدة أيام متتالية قبل الظفر بمعاشاهم.

وأشار عدد من المشتكين، للصحيفة، إلى أن المشكلة لا تقتصر على الازدحام والانتظار، إنما أيضاً على "كثرة تعطل هذه الصرافات وخروجها عن الخدمة، وخلوّها من النقود من جهة أخرى، الأمر الذي يدفع المتعاملين معها إلى عملية بحث طويلة عن الصرّاف المناسب".

يتابع النكدلي: "عملية البحث عن هذا الصراف المناسب قد تطول لأيام، وبعض الموظفين باتوا يقسِمون أنفسهم إلى مجموعات تطوف في المدينة بحثاً عنه، لكي يوفّروا على أنفسهم الجهد والوقت".

وللصحيفة نفسها، قال أحد مديري المصارف في محافظة حمص، إن "أهم أسباب توقف عمل الصرافات، الانقطاع الطويل للتيار الكهربائي وعدم القدرة على تشغيل المولّدات إلا ضمن أوقات الدوام، إضافة إلى مشكلات شبكة الإنترنت وأخرى تتعلق بالبرمجة في بعض الصرافات، جراء تغيير فئات النقود".

في مطلع أكتوبر الحالي، أعلن مدير الدفع الإلكتروني في المصرف العقاري السوري سامر سليمان، أن المصرف "رفع سقف السحب اليومي لبطاقات المصرف العقاري إلى نصف مليون ليرة سورية، بدلًا من 200 ألف ليرة، تماشياً مع رفع سقف الرواتب والأجور، وضماناً لتوفير خدمات إضافية للمستفيدين من خدمات المصرف".

في الوقت نفسه، أكد سليمان، أن "عدم وجود صرافات حالية تتيح سحب المبلغ دفعة واحدة"، موضحاً: "توجد صرافات آلية تدعم عمليات سحب تصل لحدود 300 ألف ليرة للسحبة الواحدة، وأخرى 200 ألف ليرة، لكن حتى يستطيع حامل بطاقات المصرف العقاري الاستفادة من الخدمة، يجب عليه سحب المبلغ على دفعتين خلال يوم واحد، ما يُعد في حد ذاته إشكالية كبرى للموظفين، الذين بالكاد يجدون صرافاً تحت الخدمة، وبالكاد يصلون إليه في ظل طوابير طويلة قد يطول الوقوف عندها إلى ساعات".  

وفي سبتمبر الماضي، أوردت صحيفة "الثورة" الرسمية، أن صرافات المصرف العقاري في منطقة المزة بالعاصمة دمشق لا تعمل، بسبب خضوعها  لـ "التحديث البرمجي"، فيما صرّح مدير بالقطاع المصرفي لصحيفة "الوطن"، أن سوء الخدمات المقدّمة في الصرافات سببه أن الحكومة لم تفلح  بإيجاد حلول جذرية لها حتى الآن.

وتعاني مناطق النظام السوري من سلسلة مشاكل خدمية تضاف إلى الانهيار الاقتصادي والأزمة المعيشية الحادة، ونظراً لغياب التيار الكهربائي وارتباط كل خدمات الاتصال والإنترنت والبرمجة به، تظهر أوجُه الخلل في عدة قطاعات حكومية، من بينها مرافق البنوك والصرافات الآلية.

يضيف النكدلي، أنه ليس آملاً بإيجاد حلول عما قريب، مشيراً إلى أن "العالم يسابق الزمن في ثورة التكنولوجيا والاتصالات، ونحن في سوريا ربما نعود في وقت قريب إلى نمط العيش في القرون الوسطى"، على حدّ تعبيره.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية من إحدى قرى الشمال السوري- فرانس برس
صورة تعبيرية من إحدى قرى الشمال السوري- فرانس برس

منذ عدة أيام دخل الطفل بشار الجبر (15 عاما)، قطعة أرض مهجورة في قرية موزان شرق محافظة دير الزور، كانت تستعمل في السابق كنقطة عسكرية، وبينما كان يجمع الخردة، انفجر به لغم أرضي، فقتله. 

وقبلها بأيام قُتل محمد مرعي العسول (37 عاما) أثناء عمله في أحد الأراضي الزراعية في بلدة الغارية الغربية بريف محافظة درعا الشرقي، بعد انفجار جسم من مخلفات الحرب.

أحداث عديدة مشابهة وضحايا كثر للألغام ومخلفات الحرب تشهدها مناطق النزاع في سوريا، تركت تأثيرات كارثية على الحياة اليومية للمدنيين، متسببة بالعديد من الوفيات والإعاقات الدائمة، غالبيتهم من المزارعين والعاملين في مواسم القطاف وجامعي الكمأة والخردة والأطفال.

كما تشكل الألغام تهديداً مستمراً للاستدامة البيئية والموارد الطبيعية والحياة النباتية والحيوانية. وبحسب تقرير مرصد الألغام الأرضية (Mine Action Review)، سجلت سوريا أكبر عدد من ضحايا الألغام المضادة للأفراد ومخلفات الحرب.

وكشف في تقريره السنوي، أنه خلال الفترة الممتدة بين عام 2022 والنصف الأول من 2023، سجلت سوريا للعام الثالث على التوالي، أكبر عدد من الضحايا الجدد للألغام المضادة للأفراد أو مخلفات الحرب القابلة للانفجار، ووثق وقوع 834 ضحية في سوريا، كما تم تحديد 42 مجتمعاً ملوثاً بالذخائر المتفجرة في المناطق التي ضربها الزلزال.

إزالة الذخائر غير المنفجرة 

تقوم فرق الدفاع المدني السوري (منظمة الخوذ البيضاء) بجهود حثيثة لإزالة الذخائر غير المنفجرة، ومسح المناطق الملوثة بمخلفات الحرب، بالإضافة إلى حملات توعية مستمرة حول أشكال هذه المخلفات وخطرها، وكيفية التصرف السليم في حال مصادفتها.

وتزداد كثافة هذهِ الحملات في مواسم الحصاد وقطاف الزيتون لتمكين المزارعين من العمل في أرضهم بسلام، إضافة إلى توفير السلامة العامة للمدنيين والأطفال، وتعزيز التنمية المستدامة في مناطق شمال غربي سوريا، بحسب منشورات المنظمة.

وتبين في تقرير حول الألغام في سوريا، أن هناك الآلاف من الذخائر التي تقصف بها المدن والأراضي الزراعية إضافة إلى الألغام، "لا تنفجر وتشكل تهديدا طويل الأمد على المدنيين والبيئة، كما تُعدُ حاجزاً بين المزارع ومحصوله وبين الطفل ومدرسته ومسرح لهوه".

ويشير الدفاع المدني إلى أن فرقه قامت حتى تاريخ صدور التقرير في منتصف شهر نوفمبر الماضي، بالتخلص من أكثر من 24 ألف ذخيرة متنوعة أغلبها قنابل عنقودية، كما وثقت فرق الذخائر  خلال السنوات الماضية استخدام أكثر من 60 نوع من الذخائر المتنوعة، بينها أكثر من 11 نوعا من القنابل العنقودية المحرمة دولياً، التي استخدمها النظام وروسيا.

كذلك بين التقرير أنه ومنذ بداية العام الحالي حتى نهاية شهر أكتوبر الماضي، أتلفت فرق المنظمة  أكثر من 894 ذخيرة متنوعة، بينها 119 ذخيرة خلال أكتوبر وحده.

وأفاد أنه ومنذ بداية العام الحالي حتى منتصف شهر نوفمبر الماضي، وثقت فرق الدفاع المدني 15 انفجاراً لمخلفات الحرب في شمال غربي سوريا، أدت لمقتل 4 أطفال ورجلين، وإصابة 23 مدنياً بينهم 16 طفلاً و3 نساء.

خرائط حقول الألغام

بدورها، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في أبريل الفائت، انتشار الألغام الأرضية على مساحات واسعة في العديد من المحافظات السورية، وقامت بتجهيز خرائط تحدد مواقع تواجد حقول الألغام، ومواقع انتشار مخلفات الذخائر العنقودية كي يتم تجنبها من قبل السكان المحليين.

يقول فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان لـ"ارفع صوتك": "استغرق تحديد المواقع التي تتواجد فيها حقول الألغام في سوريا جهداً كبيراً، امتد لحوالي سنة، وكان لتقريرنا هدفان، الأول أن تقوم القوى المسيطرة بالبناء على هذا التقرير والمتابعة بإزالة حقول الألغام، والثاني إطلاع السكان على هذه الخرائط والتوعية بوجودها من أجل تجنبها".

ويعتبر عبد الغني أن التجاوب مع التقرير والخرائط التي تم إعدادها كان "ضعيفا ودون المستوى المأمول بشكل كبير جدا"، لهذا "ما زلنا نسجل حوادث وإصابات ووفيات بسبب الألغام"، كما يقول.

وبينت الشبكة السورية في تقريرها، أن ما لا ما لا يقل عن 3353 مدنياً بينهم 889 طفلاً، و335 سيدة (أنثى بالغة)، و8 من الكوادر الطبية، و7 من كوادر الدفاع المدني، و9 من الكوادر الإعلامية، قتلوا في المئات من حوادث انفجار الألغام الأرضية المضادة للأفراد في سوريا،  بينهم 382 مدنياً قتلوا على يد قوات الحلف السوري الروسي، إثر انفجار مخلفات ذخائر عنقودية.

موسم الزيتون: الحصاد المُميت

لم يكن الطفل شادي السيد علي (12 عاما) يتوقع أن ينفجر به لغم أرضي، أثناء رحلته لقطاف الزيتون في أطراف مدينته بنش الواقعة في ريف إدلب شمال سوريا.

يقول إنه كان برفقة أخيه، حين رأى جسما غريبا فرماه بعيدا، فسقط على صخرة وانفجر، متسببا ببتر قدمه اليسرى ويده اليمنى.

آلام شديدة عاناها شادي الذي توقف عن الدراسة لمدة سنتين، حتى تم تركيب طرفين صناعيين له، ولكن الألم ما زال يرافقه بشكل مستمر حتى اليوم، ويحرمه من عيش طفولته بشكل طبيعي.

يبين الناشط عزيز الأسمر، من مدينة  بنش، لـ"ارفع صوتك"، أن هناك الكثير من الحالات في المدينة كحالة شادي، ومعظم الضحايا مدنيون، غالبيتهم من الرعاة والمزارعين. 

ويضيف: "هذا النزف مستمر منذ بداية الثورة حتى الآن وكل فترة نسمع عن مقتل طفل أو شاب أو بتر أقدامهم وأيديهم نتيجة هذه الألغام". 

ويؤكد أنه في وقت سابق من العام الماضي عثر أربعة أطفال على لغم أو إحدى مخلفات الحرب أثناء جمعهم الخردة، وأحضروها إلى المنزل، وأثناء عبثهم بها انفجرت وتسببت بمقتلهم جميعا.

يتابع الأسمر، أن "هناك حملات توعية كبيرة حول الألغام من المنظمات والهيئات المدنية والدفاع المدني، لتعريف الناس بشكلها وأماكن تواجدها، مع التشديد على ضرورة إبلاغ الجهات المختصة حين يرون لغما، ولكن الأقدار وفضول الأطفال يتسبب بهذه الحوادث".

ويوضح: "كل قرية أو مدينة في الشمال السوري تعاني من إصابات نتيجة الألغام المتفجرة التي زرعها النظام قبل مغادرة مدينة إدلب،  كذلك هناك العديد من ضحايا مخلفات القنابل العنقودية، ومعظمهم من المزارعين ورعاة الغنم الذين يصادفون اللغم أثناء عملهم. وكونهم لا يعرفون شكله يصبحون ضحايا له، أما العسكريون فهم بطبيعة الحال يعرفون أماكن توزع الألغام ويعرفون شكلها، لذلك قليلا ما تكون هناك إصابات بينهم".