صورة تعبيرية لعملات تركية في أحد المصارف السورية في بلدة سرمدا التابعة لمحافظة إدلب- أرشيف
صورة تعبيرية لعملات تركية في أحد المصارف السورية في بلدة سرمدا التابعة لمحافظة إدلب- أرشيف

يُمسك الحاج وليد بكور مجموعة من الأوراق النقدية التركية، ويتساءل متعجّباً "كم يمكن لهذه الأوراق أن تصمد؟"، في إشارة إلى حالتها المُهترئة، وهي معضلة يعاني منها سكان شمال غرب سوريا منذ شهور طويلة.

يقول بكور، الذي يملك بقالة صغيرة في ريف إدلب الشمالي، إن "معاناة سكان المنطقة من اهتراء العملة تتزايد مع كثرة تداولها بين الأيدي، وعدم وجود دفعات جديدة بحالة أفضل".

"لذلك فإن الناس يتعاملون في عدّها وحملها بحذر شديد خشية تمزقها، خاصة إن كانت من فئات 50 أو 100 ليرة، التي تعادل أجرة عامل لأيام في بعض الأحيان"، يضيف بكور لـ"ارفع صوتك".

ويوضح: "نتداولها لأن ما باليد حيلة، ورغم ذلك فإن بعض التجار يرفضون البيع بالفئات الكبيرة منها، ويطالبون الزبون بدفع فئات أصغر، خوفاً من تلفها والتعرض لخسائر كبيرة".

وبقالة بكور تقع على طريق عام بعيدة عن المتاجر الأخرى، يقول "لا يستطيع الزبون الذهاب بعيداً لصرف 100 ليرة مثلاً، لذلك أقبلها منه كنوع من تخفيف العبء عنه، لكن ذلك يسبب لي مشكلة أثناء التعامل مع تجار الجملة الذين يفحصون النقود ورقة ورقة".

 

حلول شخصية

بدأ تداول العملة التركية في شمال وشمال غرب سوريا منذ يونيو 2020، لتكون بديلاً عن العملة السورية التي انهارت قيمتها بشكل لافت آنذاك، حيث وصل سعرها إلى 3500 مقابل الدولار الأميركي، بالتزامن مع بدء تطبيق الحزمة الأولى من قانون العقوبات الأمريكية المعروف بـ "قيصر".

كانت العملة التركية حلاً إسعافياً لتفادي خسارة التجار جرّاء الانهيار المتواصل، بينما لم يجد السكان في مناطق أرياف إدلب وحلب الشمالية إشكالاً في هذه الخطوة، لأن الكثير من تلك المناطق تتعامل بالليرة التركية قبل ذلك القرار.

وبعد أكثر من ثلاث سنوات على تطبيق تداول العملة التركية، يجد السكان في إدلب وريف حلب الغربي، الخاضعة لسيطرة "هيئة تحرير الشام"، معاناة متفاقمة، جراء تدوير نفس الكتلة المالية من الأوراق، وعدم وصول دفعات جديدة من العملة إلا على نطاق شخصي وضيق من خلال بعض التجار.

وتُعد الفئات الصغيرة (أقل من 50 ليرة)، الأكثر تضرراً، بسبب كثرة تداولها بين الناس بشكل يومي ومتكرر.

زاد المشكلة أن العملة التركية ليس فيها نماذج معدنية سوى فئة الليرة، لذلك فإن الاستعاضة عن العملة المهترئة تبدو مهمة مستحيلة.

ويلجأ بعض التجار وأصحاب المحلات لتبديل الأوراق المهترئة التي يأخذونها من الزبائن لدى بعض مكاتب الصرافة، غير أن هذه العملية لا تكون مجانية، إذ يدفعون عمولة على الاستبدال تصل إلى نحو 10% من المبلغ المُستبدل، وقد تكون هذه العمولة جزءاً كبيراً من مرابح التاجر.

يقول الباحث السياسي والاقتصادي حيان حبابة، لـ"ارفع صوتك"، إن مؤسسة النقد في إدلب تسعى لوضع حلول من أجل استبدال العملة المهترئة، لكنها تبقى "دون المستوى المنشود من الأهالي"، بحسب تعبيره.

ويوضح: "أحد هذه الحلول، أن مؤسسة النقد تستبدل العملة المهترئة لكن تدفع مقابل ذلك مبالغ لإجراء عمليات الاستبدال من البنوك التركية، فينتج عن ذلك فاقد اقتصادي، يعود الضرر فيه مباشرة إلى السكان، الذين يدفعون بدورهم لمؤسسة النقد مقابل الحصول على عملة قابلة للتداول".

"لا أظن أن مؤسسة النقد في إدلب قادرة على إيجاد حل جذري لمشكلة العملة المهترئة، لأنها أساساً لا تتعامل مع جهات اقتصادية تركية رسمية، إنما مع بنوك خاصة، ما يعني أن الخسائر جراء عملية الاستبدال لن يقوم أحد بتعويضها"، يتابع حبانة.  

والمؤسسة العامة لإدارة النقد وحماية المستهلك في إدلب، تابعة لـ"حكومة الإنقاذ" المسؤولة عن إدارة المنطقة، ويحمّلها الأهالي المسؤولية عن وضع الليرة التركية، بسبب غياب التنسيق والتواصل مع البنك المركزي التركي لضخ أوراق جديدة بين الحين والآخر.

وأنشأت "حكومة الإنقاذ" هذه المؤسسة عام 2017، بهدف تنظيم عمليات الصرافة ومنع الاحتكار والتلاعب بأسعار العملات، في حين أن عملها على أرض الواقع يقتصر على متابعة عمل شركات الصرافة والحوالات المالية، ومنحها التراخيص.

ويطالب السكان في محافظة إدلب منذ شهور بإنشاء صرّافات وبنوك تركية مصغّرة معروفة باسم  "PTT"، على غرار وجود هذه الصرافات في المناطق التي يسيطر عليها "الجيش الوطني السوري" المدعوم من تركيا، ليتم من خلالها توزيع بطاقات مصرفية يستخدمها السكان في عمليات البيع والشراء، وهو أمر من شأنه تقليص تداول العملات الورقية.

مواضيع ذات صلة:

صورة تعبيرية من إحدى قرى الشمال السوري- فرانس برس
صورة تعبيرية من إحدى قرى الشمال السوري- فرانس برس

منذ عدة أيام دخل الطفل بشار الجبر (15 عاما)، قطعة أرض مهجورة في قرية موزان شرق محافظة دير الزور، كانت تستعمل في السابق كنقطة عسكرية، وبينما كان يجمع الخردة، انفجر به لغم أرضي، فقتله. 

وقبلها بأيام قُتل محمد مرعي العسول (37 عاما) أثناء عمله في أحد الأراضي الزراعية في بلدة الغارية الغربية بريف محافظة درعا الشرقي، بعد انفجار جسم من مخلفات الحرب.

أحداث عديدة مشابهة وضحايا كثر للألغام ومخلفات الحرب تشهدها مناطق النزاع في سوريا، تركت تأثيرات كارثية على الحياة اليومية للمدنيين، متسببة بالعديد من الوفيات والإعاقات الدائمة، غالبيتهم من المزارعين والعاملين في مواسم القطاف وجامعي الكمأة والخردة والأطفال.

كما تشكل الألغام تهديداً مستمراً للاستدامة البيئية والموارد الطبيعية والحياة النباتية والحيوانية. وبحسب تقرير مرصد الألغام الأرضية (Mine Action Review)، سجلت سوريا أكبر عدد من ضحايا الألغام المضادة للأفراد ومخلفات الحرب.

وكشف في تقريره السنوي، أنه خلال الفترة الممتدة بين عام 2022 والنصف الأول من 2023، سجلت سوريا للعام الثالث على التوالي، أكبر عدد من الضحايا الجدد للألغام المضادة للأفراد أو مخلفات الحرب القابلة للانفجار، ووثق وقوع 834 ضحية في سوريا، كما تم تحديد 42 مجتمعاً ملوثاً بالذخائر المتفجرة في المناطق التي ضربها الزلزال.

إزالة الذخائر غير المنفجرة 

تقوم فرق الدفاع المدني السوري (منظمة الخوذ البيضاء) بجهود حثيثة لإزالة الذخائر غير المنفجرة، ومسح المناطق الملوثة بمخلفات الحرب، بالإضافة إلى حملات توعية مستمرة حول أشكال هذه المخلفات وخطرها، وكيفية التصرف السليم في حال مصادفتها.

وتزداد كثافة هذهِ الحملات في مواسم الحصاد وقطاف الزيتون لتمكين المزارعين من العمل في أرضهم بسلام، إضافة إلى توفير السلامة العامة للمدنيين والأطفال، وتعزيز التنمية المستدامة في مناطق شمال غربي سوريا، بحسب منشورات المنظمة.

وتبين في تقرير حول الألغام في سوريا، أن هناك الآلاف من الذخائر التي تقصف بها المدن والأراضي الزراعية إضافة إلى الألغام، "لا تنفجر وتشكل تهديدا طويل الأمد على المدنيين والبيئة، كما تُعدُ حاجزاً بين المزارع ومحصوله وبين الطفل ومدرسته ومسرح لهوه".

ويشير الدفاع المدني إلى أن فرقه قامت حتى تاريخ صدور التقرير في منتصف شهر نوفمبر الماضي، بالتخلص من أكثر من 24 ألف ذخيرة متنوعة أغلبها قنابل عنقودية، كما وثقت فرق الذخائر  خلال السنوات الماضية استخدام أكثر من 60 نوع من الذخائر المتنوعة، بينها أكثر من 11 نوعا من القنابل العنقودية المحرمة دولياً، التي استخدمها النظام وروسيا.

كذلك بين التقرير أنه ومنذ بداية العام الحالي حتى نهاية شهر أكتوبر الماضي، أتلفت فرق المنظمة  أكثر من 894 ذخيرة متنوعة، بينها 119 ذخيرة خلال أكتوبر وحده.

وأفاد أنه ومنذ بداية العام الحالي حتى منتصف شهر نوفمبر الماضي، وثقت فرق الدفاع المدني 15 انفجاراً لمخلفات الحرب في شمال غربي سوريا، أدت لمقتل 4 أطفال ورجلين، وإصابة 23 مدنياً بينهم 16 طفلاً و3 نساء.

خرائط حقول الألغام

بدورها، وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في أبريل الفائت، انتشار الألغام الأرضية على مساحات واسعة في العديد من المحافظات السورية، وقامت بتجهيز خرائط تحدد مواقع تواجد حقول الألغام، ومواقع انتشار مخلفات الذخائر العنقودية كي يتم تجنبها من قبل السكان المحليين.

يقول فضل عبد الغني مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان لـ"ارفع صوتك": "استغرق تحديد المواقع التي تتواجد فيها حقول الألغام في سوريا جهداً كبيراً، امتد لحوالي سنة، وكان لتقريرنا هدفان، الأول أن تقوم القوى المسيطرة بالبناء على هذا التقرير والمتابعة بإزالة حقول الألغام، والثاني إطلاع السكان على هذه الخرائط والتوعية بوجودها من أجل تجنبها".

ويعتبر عبد الغني أن التجاوب مع التقرير والخرائط التي تم إعدادها كان "ضعيفا ودون المستوى المأمول بشكل كبير جدا"، لهذا "ما زلنا نسجل حوادث وإصابات ووفيات بسبب الألغام"، كما يقول.

وبينت الشبكة السورية في تقريرها، أن ما لا ما لا يقل عن 3353 مدنياً بينهم 889 طفلاً، و335 سيدة (أنثى بالغة)، و8 من الكوادر الطبية، و7 من كوادر الدفاع المدني، و9 من الكوادر الإعلامية، قتلوا في المئات من حوادث انفجار الألغام الأرضية المضادة للأفراد في سوريا،  بينهم 382 مدنياً قتلوا على يد قوات الحلف السوري الروسي، إثر انفجار مخلفات ذخائر عنقودية.

موسم الزيتون: الحصاد المُميت

لم يكن الطفل شادي السيد علي (12 عاما) يتوقع أن ينفجر به لغم أرضي، أثناء رحلته لقطاف الزيتون في أطراف مدينته بنش الواقعة في ريف إدلب شمال سوريا.

يقول إنه كان برفقة أخيه، حين رأى جسما غريبا فرماه بعيدا، فسقط على صخرة وانفجر، متسببا ببتر قدمه اليسرى ويده اليمنى.

آلام شديدة عاناها شادي الذي توقف عن الدراسة لمدة سنتين، حتى تم تركيب طرفين صناعيين له، ولكن الألم ما زال يرافقه بشكل مستمر حتى اليوم، ويحرمه من عيش طفولته بشكل طبيعي.

يبين الناشط عزيز الأسمر، من مدينة  بنش، لـ"ارفع صوتك"، أن هناك الكثير من الحالات في المدينة كحالة شادي، ومعظم الضحايا مدنيون، غالبيتهم من الرعاة والمزارعين. 

ويضيف: "هذا النزف مستمر منذ بداية الثورة حتى الآن وكل فترة نسمع عن مقتل طفل أو شاب أو بتر أقدامهم وأيديهم نتيجة هذه الألغام". 

ويؤكد أنه في وقت سابق من العام الماضي عثر أربعة أطفال على لغم أو إحدى مخلفات الحرب أثناء جمعهم الخردة، وأحضروها إلى المنزل، وأثناء عبثهم بها انفجرت وتسببت بمقتلهم جميعا.

يتابع الأسمر، أن "هناك حملات توعية كبيرة حول الألغام من المنظمات والهيئات المدنية والدفاع المدني، لتعريف الناس بشكلها وأماكن تواجدها، مع التشديد على ضرورة إبلاغ الجهات المختصة حين يرون لغما، ولكن الأقدار وفضول الأطفال يتسبب بهذه الحوادث".

ويوضح: "كل قرية أو مدينة في الشمال السوري تعاني من إصابات نتيجة الألغام المتفجرة التي زرعها النظام قبل مغادرة مدينة إدلب،  كذلك هناك العديد من ضحايا مخلفات القنابل العنقودية، ومعظمهم من المزارعين ورعاة الغنم الذين يصادفون اللغم أثناء عملهم. وكونهم لا يعرفون شكله يصبحون ضحايا له، أما العسكريون فهم بطبيعة الحال يعرفون أماكن توزع الألغام ويعرفون شكلها، لذلك قليلا ما تكون هناك إصابات بينهم".