شهدت سوريا بين عامي 2011 - 2018 موجات هجرة كبيرة لأسباب أمنية وعسكرية، غير أن مسارها لم يتوقف مع ثبوت الخرائط العسكرية بشكل نسبي بعد عام 2020. لكن الأسباب اتخذت مسارات مختلفة، تتعلق هذه المرة بالوضع الاقتصادي الخانق، الذي تفاقم مع بدء حزمات العقوبات الأميركية بموجب قانون "قيصر"، وتردّي الأوضاع المعيشية والخدمية إلى مستويات أقرب للمجاعة.
أسهم ذلك بصناعة موجات هجرة جديدة للشباب، تحديداً في مناطق سيطرة النظام السوري، هرباً من التجنيد الإجباري من ناحية، وبحثاً عن فرص عمل تؤمّن الحد الأدنى للحياة من جهة أخرى.
يقول إسماعيل سعدو (39 عاماً)، وهو من مدينة حمص، إن "الراتب الشهري لم يعُد يكفي دفع أجرة المواصلات".
قبل شهرين وصل سعدو مهاجراً إلى تركيا "هرباً من جحيم القلّة والحاجة"، على حد تعبيره. يضيف لـ"ارفع صوتك": "بقيت في سوريا طيلة سنوات الحرب، لأنّي أفضّل البقاء والحفاظ على وظيفة في مؤسسة حكومية تابعة للنظام".
"لكنّي نادم جداً، لأنني لم أهاجر مسبقاً كما فعلت الملايين" يتابع سعدو الذي يشير إلى أن "الوظيفة التي أبقته، أصبح عائدها بالكاد يكفي أجرة المواصلات من بيته لمكان عمله، كأنه يعمل بالمجّان" على حد تعبيره.
ويوضح أن "قرار الهجرة وترك الوظيفة الحكومية، ليس حالة نادرة في مناطق النظام، فالعشرات من أقاربه وأصدقائه فعلوا الشيء نفسه، لأن البقاء بمثابة الانتحار البطيء".
موقف النظام السوري
موجة الهجرة الأخيرة تركت آثارا اجتماعية واقتصادية كبيرة في بنية المجتمع السوري، وفي هيكلية حكومة النظام كذلك، بسبب الفراغ الكبير في الدوائر الحكومية، مع عزوف المقيمين عن العمل فيها، وتوجه الكثيرين نحو الأعمال الخاصة، التي تؤمّن رغم رداءة واردها المالي، نسبة أكبر من رواتب الوظيفة العامة.
ذكرت صحيفة "البعث" السورية التابعة للنظام، مؤخراً، أن "الحكومة تمضي قُدماً نحو إعداد دراسة للاستعانة بالكفاءات المُحالة إلى التقاعد قبل خمس سنوات، في محاولة لسدّ الفجوات الإدارية والإنتاجية التي ضربت جميع المؤسّسات الحكومية، من قطاع التعليم إلى الصحة إلى قطاع الخدمات العامة".
وأضافت في تقريرها، أن "وزارة التنمية الإدارية تجتهد لوضع التشطيبات النهائية على الدراسة، بالتنسيق مع الوزارات والمؤسسات المعنية، بحكم الضرورة والحاجة للاستعانة بخبرات عتيقة وعميقة، تُسهم في ترميم فجوة بعض الاختلالات الإدارية والإنتاجية التي تعاني منها الكثير من المؤسّسات الحكومية، بفعل تعرّض مفاصلها ومواردها البشرية لرضٍ كبيرٍ جراء موجات التسرب الواسعة ونقص الكوادر، ورفض الشبان العمل بالوظيفة لمحدودية الرواتب".
ماذا يقول الخبراء؟
لم تحدّد صحيفة "البعث" أرقاماً معيّنة لحاجة الدوائر الحكومية إلى موظفين متقاعدين، وسط تساؤلات عن سبب استبعاد الشباب العاطلين عن العمل من هذه الخطة، واللجوء إلى أشخاص تجاوزوا الستّين من العمر (سنّ التقاعد الرسمي وفق القانون السوري).
يقول ماهر العبد الله (اسم مستعار لمدير فرعي في إحدى شركات الغزل والنسيج الحكومية)، لـ"ارفع صوتك"، إن "شركات الغزل والنسيج العامة سعت خلال السنوات السابقة إلى رفد مصانعها بموظفين شباب لتعويض النقص، لكن ذلك لم ينجح، |لأسباب عدة".
ويضيف أن "عزوف الشباب عن العمل عن هذه المؤسسات، بسبب الجهد الذي يتطلبه العمل، والوقت الطويل جداً، مع راتب شهري قليل جداً (لا يتجاوز 15 دولاراً شهرياً في أحسن الأحوال)، إضافة إلى مشكلة تخص العمل نفسه، تتعلق بعدم كفاءة الشباب في القيام بالكثير من المهام التي تحتاج خبرة كافية لتحقيق الإنتاج المطلوب".
يقول الخبير الاقتصادي والمالي فراس شعبو، إن "الأزمة الإدارية والإنتاجية في مؤسسات النظام السوري، نتيجة طبيعية ليس فقط لظروف الحرب وأثرها الاقتصادي المدمّر، بل أيضاً بمحافظة النظام السوري على عقليته الأمنية السابقة التي كانت قبل الثورة، ولم يستطع التخلص منها رغم كل ما حلّ بالبلاد، فما يزال الشخص الذي ينتقد الظروف أو يتحدث خارج رغبة النظام يتعرض للاعتقال".
ويؤكد شعبو لـ"ارفع صوتك" أن "خسارة الشباب والكفاءات والعقول في سوريا، خسارة طويلة الأمد وذات أثر كارثي على البلاد، لأنها تتعلق بخسارة رأس المال البشري".
يتابع: "حاول النظام خلال السنوات السابقة معالجة النزيف الحاصل في مؤسساته وقطاعاته الخدمية عبر السماح للشباب بتأدية التجنيد الإجباري في المؤسسة التي يعملون فيها، سواء في الجامعات أو المشافي أو الدوائر القضائية".
ويتوقع شعبو أن يلجأ النظام السوري فيما بعد إلى إصدار قانون يرفع سن التقاعد من 60 لـ65 عاماً لسدّ هذه الثغرات.
وتعليقاً على خطة الحكومة لحل أزمة الفراغ في مؤسساتها، يرى شعبو أنها "لن تحقق هدفها، لأن الاعتماد على موظفين في سن 60 أو 65 عاماً سيزيد الترهّل الحاصل أصلاً في مؤسسات ودوائر الحكومة، وسيرفع نسبة ضعف الإنتاج إلى مستويات أكبر. يمكن الاستفادة من الموظفين بهذه الأعمار كاستشاريين، لكن يستحيل أن يؤدّوا الوظائف الخدمية التي يفتقر إليها القطاع العام".
وتقول سجلات مؤسّسة "التأمينات الاجتماعية" التابعة للحكومة السورية، إن "هناك نحو 750 ألف متقاعد مسجلين لديها". بينما أوضحت دراسة سابقة أجرتها الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان، أن "95% من المسنّين يقومون بعمل إضافي بعد التقاعد لزيادة دخلهم"، في حين كشف مكتب الإحصاء المركزي أن معظم المسنّين يمارسون أعمالاً شاقة لأنها توفر دخلاً جيداً مقارنة بالأعمال الأخرى.
وفي يونيو الماضي كشف تقرير نشره موقع "غلوبال إيكونومي" أن "سوريا احتلت المرتبة الأولى بمعدل 8.1، كأسوأ الدول العربية في مؤشر هجرة الكفاءات والكوادر العلمية".