يعيش في تركيا حوالي ثلاثة ملايين و500 ألف لاجئ سوري، رحلوا عن بلادهم بعد اندلاع الحرب عام 2011.
يعيش في تركيا حوالي ثلاثة ملايين و500 ألف لاجئ سوري، رحلوا عن بلادهم بعد اندلاع الحرب عام 2011.

يتجهّز الشاب خلدون الملحم وعائلته للرحيل عن إسطنبول بشكل نهائي، بعد نحو 7 سنوات أمضوها هناك. لكن الوجهة ليست أوروبا أو مصر أو أي من الدول التي يهاجر نحوها السوريون من تركيا مؤخراً، بل سوريا.

يُقيم خلدون (38 عاماً) في إسطنبول مع زوجته وطفلين ( 5 و3 أعوام) منذ عام 2017، حين خرج من ريف دير الزور الشرقي مع احتدام المعارك ضد تنظيم داعش. ويدرّس مادة الرياضيات في مدرسة خاصة داخل إسطنبول.

في البداية، كان راتبه يكفيه وعائلته. لكن في الوقت الحالي "لم يعد يكفي لإيجار البيت وتسديد الفواتير"، بحسب ما يقول لـ"ارفع صوتك".

راتب خلدون اليوم 700 دولار (نحو 21 ألف ليرة تركية)، وهو يسكن في منطقة أسنيورت. يوضح: "كانت هذه المنطقة في السابق ملجأً للسوريين الهاربين من غلاء إيجارات البيوت والمعيشة في إسطنبول، غير أن الأوضاع تغيّرت منذ الركود الذي ضرب البلاد مع انتشار جائحة كورونا".

بلغة الأرقام، يضيف خلدون، "قفزت الإيجارات في أسنيورت من نحو 1500 ليرة (عام 2020) إلى قرابة 10 آلاف ليرة في الشهور الأخيرة، مع موجة التضخم في عموم تركيا وفي إسطنبول بشكل خاص".

وتوقّع البنك المركزي التركي أن ترتفع نسبة التضخم من نحو 65% في شهر ديسمبر 2023 إلى ما بين 70% و75% في مايو المقبل، مع وعود بأن تتراجع إلى نحو 36% بحلول نهاية العام، على إثر الانخفاض المتوقع للأسعار بفعل سياسة التشديد النقدي ورفع أسعار الفائدة.

هذه الوعود، برأي خلدون، "لا تقنع حتى الأتراك الذين يفكرون أيضاً بمغادرة بلدهم". 

لم تعُد أوروبا هي الوجهة المفضّلة للكثير من اللاجئين السوريين الذين ينوون مغادرة تركيا، على الرغم من استمرار العديد في المخاطرة بحياتهم للوصول إلى أي دولة أوروبية.

يقول خلدون: "الطريق لأوروبا محفوف بالموت، والأسعار التي تُدفَع للمهرّبين تجاوزت المنطق، إضافة إلى أن بعض معارفي وأصدقائي من الذين وصلوها حديثاً أخبروني أن الأوضاع ليست كالسابق، على المستويين القانوني والماديّ".

لذلك، كان القرار بالعودة إلى سوريا، وتحديداً إلى الشمال، وبشكل "طوعي" وفق تعبير خلدون،  ضروريا للهرب من  ارتفاع الأسعار وتضييق السلطات التركية على اللاجئين السوريين وموجات العنصرية المتلاحقة.

إذا كان خلدون في مرحلة الاستعداد للمغادرة، فإن محمد قضيماتي حطّ رحاله مع عائلته في مدينة إعزاز شمال غربي مدينة حلب قبل نحو شهر، تاركاً ولاية غازي عنتاب، بعد خمس سنوات من الإقامة فيها.

يقول محمد (31 عاماً) لـ"ارفع صوتك"،  إن غازي عنتاب كانت تمثّل المنطقة الوسطى في المعيشة بين ولايات تتّسم بغلاء المعيشة مثل إسطنبول وأخرى أقل تكلفة مثل شانلي أورفا، غير أن زلزال فبراير 2023 "غيّر المعادلة كلّيًا".

كان إيجار بيته قبل الزلزال مثلاً 2000 ليرة تركية. لكنه ارتفع إلى 7000 ليرة. يقول محمد إن الأسعار ارتفعت "بشكل فلكي" نتيجة ارتفاع الطلب على المنازل وبسبب التضخم، بينما يتلقى هو راتباً في معمل خياطة قدره 15 ألف ليرة.

لا يُخفي محمد أنه وعائلته، المؤلفة من زوجته وطفله (3 أعوام)، واجهوا صعوبات في الانتقال إلى مدينة إعزاز، لكن لم يكن أمامهم خيار آخر، فراتبه في تركيا لم يعد يؤمن متطلبات الحياة الأساسية.

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".