"تحرير الشام" دخلت إلى عفرين قبل أربعة أيام- أرشيفية
بدأت أزمة تحرير الشام صيف العام الماضي بحملة اعتقالات واسعة شملت عددا من قيادييها العسكريين بتهمة التجسس.

منذ أيام وقيادة "هيئة تحرير الشام" في سباق مع الزمن لتطويق تداعيات الأزمة الداخلية التي ألمت بها منذ الصيف الماضي، وذلك من خلال زيارات مكوكية ولقاءات بقادة في الصف الثاني خرجوا لتوهم من سجون جهازها الأمني، ولقاءات بشيوخ عشائر وأعيان في محافظة إدلب، لجبر الخواطر وإعادة مدّ حبال الولاء بين الهيئة وعناصرها.

وكان تحقيق داخلي كشف عن تورط جهاز هيئة تحرير الشام الأمني في عمليات تعذيب واحتجاز واسعة النطاق، وهو ما برره الجهاز بأنه كان يحقق في حالات "اختراق وتجسس" لصالح جهات استخباراتية محلية ودولية.

 

من "التجسس" إلى "الانقلاب"

بدأت فصول الأزمة في يوليو 2023 عندما أقرت هيئة تحرير الشام باعتقال عدد من عناصرها، وعناصر يعملون في "حكومة الإنقاذ" التابعة لها، بتهمة الضلوع في نشاطات تجسسية لصالح أجهزة استخبارات تابعة للنظام السوري وروسيا، وأجهزة دولية أخرى.

ما بدا حينها في عيون الهيئة وأنصارها إنجازا أمنيا كبيرا، وضربة استباقية أحبطت مخططا لاختراق أكبر فصيل "جهادي" في سوريا، تحوّل سريعاً إلى مأزق خطير، ومتاهة مربكة علقت فيها الهيئة لأشهر عديدة، وتحاول اليوم الخروج منها بأقل الخسائر والتبعات.

دار الحديث في أول الأمر حول ما وصفه بيان رسمي صادر عن جهاز الأمن العام "بضبط خلية تجسسية تعمل لصالح جهات معادية" وأن التحقيقات كشفت "وجود حوالي 54 شخصا ممن تحوم حولهم شبهات التجسس، منهم 29 شخصا تأكدت التهم الموجهة إليهم".

لكن ما حصل بعد ذلك ألقى بظلال كثيفة من الشك حول هذه الرواية الأولية.

وامتدت حملات الاعتقال حينها لتشمل العشرات من القادة البارزين في الجناح العسكري وهيئة تحرير الشام منذ أن كانت تنشط باسم "جبهة النصرة".

رجحت التأويلات حينها وجود صراع أجنحة داخل الجماعة، وقد تعززت هذه الفرضية باعتقال القيادي أبي ماريا القحطاني ومحاولة اعتقال رفيق دربه والمقرب منه جهاد عيسى الشيخ، وهما محسوبان على تيار "الشرقية" بتهم توزعت بين شبه التواصل مع جهات خارجية، وخروقات مالية وابتزاز وغيرها.

ساد اعتقاد مع اعتقال القحطاني وعيسى الشيخ وشخصيات أخرى مقربة منهما بأن حملات التطهير التي يشرف عليها الأمنيون هدفها "إفشال مخطط انقلابي"، يسعى للإطاحة بزعيم الهيئة أبو محمد الجولاني والمقربين منه، وتنصيب قائد جديد غير مدرج على لوائح الإرهاب العالمية.

وأجج استمرار حملات الاعتقال، وتركيزها على قيادات الجناح العسكري، مشاعر السخط والريبة حول حقيقة ما يجري، وبدأت الأمور تخرج عن نطاق السيطرة رويدا رويدا، لترتفع بموازاتها أصوات العشائر والعائلات، تطالب بتقديم تفسير مقنع للأحداث، وإطلاق سراح المعتقلين ممن لم تثبت التهم بحقهم.

لطمأنة أنصارها، أعلنت الهيئة عبر جهازها الأمني في 15 يناير الماضي، أنها "على مشارف إنهاء الأعمال الأمنية المرتبطة بإحباط مخطط أمني تقف خلفه جهات معادية، ويبتغي تجنيد بعض الأفراد والعمل من خلالهم على بث الفتنة وشق الصف وزعزعة الأمن والاستقرار في المناطق المحررة".

احتفاء الجهاز الأمني بإحباط ما أسماه "مخططا أمنيا لبث الفتنة وشق الصف" ووعده بقرب إغلاق ملف القضية، لم يخفف من حدة الضغوط على قيادة هيئة تحرير الشام، فتوسعت الدعوات المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين الذين صاروا يُعدّون بالمئات.

وسرت أيضا أخبار على مواقع التواصل الاجتماعي مفادها أن قيادات وازنة في "الجناح العسكري" قد طفح بها الكيل، ولن تقبل بمزيد من الزج بعناصر وكوادر الجناح في سجون "الأمنيين"، خصوصا مع ما يُقال حول تعرضهم للتعذيب وسوء المعاملة، وأن تحركاً من جهتها لن يتأخر إذا استمرت الأمور على حالها. فكان لا بد من مكاشفة تسحب القضية برمتها إلى دائرة الضوء.

 

"جريمة نكراء"

القناعة بضرورة كشف تفاصيل ما يحصل ترجمه بيان صادر عن هيئة تحرير الشام في 26  يناير، جاء فيه أن القيادة العامة بعد انتهاء التحقيقات في قضايا الخلايا الأمنية  "أبدت رغبتها في زيادة التحقيق والتدقيق المتعلق بالقضية تحرياً للعدل والحق الواجب".

وبناء على ذلك، شُكلت لجنة لمتابعة ملابسات القضية برئاسة الجولاني نفسه "لتقييم الأدلة والوقائع"، عن طريق مقابلة عشرات المعتقلين والاستماع إلى أقوالهم، ومراجعة الأدلة و"التأكد من سلامة الاعترافات والاطلاع على بيئة التوقيف وظروفها"، وفق البيان.

وأصدرت اللجنة توصياتها بإطلاق سراح عدد من الموقوفين لعدم ثبوت أي شيء ضدهم، وآخرين لم تكن الأدلة كافية لإدانتهم، وأحالت آخرين إلى القضاء.

في المقابل، أمرت اللجنة باعتقال عدد من الأمنيين المتورطين في التعذيب.

عقب نشر البيان مباشرة، بدأت أفواج من المعتقلين بالخروج. ودلّت مواكب وحفلات استقبالهم على مكانتهم الاجتماعية، وأدوارهم القيادية، كان بينهم أبو مسلم آفس وأبو أسامة منير و أبو عبدو وأبو القعقاع طعوم وغيرهم.

وحرص الجولاني على مقابلة العشرات من المفرج عنهم، والاعتذار منهم، وتطييب خواطرهم، وأخذ صور تذكارية معهم، خصوصا كوادر الجناح العسكري ومسؤولي الألوية العسكرية.

في إحدى جلساته مع أعضاء "مجلس الشورى" و"مجلس الصلح"، قدم الجولاني توضيحات بشأن ما جرى، وقال بأن الشكوك ساورته عندما توسعت دائرة الاعتقالات لتشمل من وصفهم بأسماء "لها وزنها وتاريخها وقيمتها".

وزعم الجولاني بأنه عندما راجع بنفسه ملفات القضايا، وقابل المعتقلين، اكتشف أن كثيرا من الاعترافات انتُزعت تحت التعذيب، وأن بعض الأمنيين "تجاوزوا الأنظمة والقوانين الداخلية"

ووصف كذلك التعذيب الذي تعرض له المعتقلون بـ"الجريمة النكراء"، ووعد بتشديد الرقابة على الجهاز الأمني.

الجولاني أعطى لأول مرة لمحة عن طبيعة "الحدث الأمني الكبير" الذي تعاملت معه الهيئة في الشهور الماضية، وقال إن معلومات وصلتهم عن مخطط متعدد المستويات، يهدف إلى "شراء ذمم" قادة عسكريين، وتسهيل دخول قوات النظام إلى عمق مدينة إدلب، وتنسيق عمليات اغتيال تطال "أمراء" وكوادر الهيئة البارزين، ليتكلل المخطط المفترض بإطباق قوات النظام سيطرتها على شمال غرب سوريا.

 

تصدّعات محتملة

تدرك القيادة العليا للهيئة مدى الورطة التي علقت فيها بسبب الخروقات الفظيعة لمسؤولي جهاز الأمن، والمقلق أكثر بالنسبة لها أن ما حدث سيكرّس أجواء التوجس وانعدام الثقة بين الأمنيين والعسكريين، وقد يؤدي إلى حدوث تصدعات في بنية هيئة تحرير الشام، وانقسامها إلى تيار يوالي العسكريين و"أمراء الألوية" وآخر يتبع الأمنيين.

يُستبعد قيام الجولاني بتغييرات جوهرية في مهام وصلاحيات جهازه الأمني غير ما وعد به من فرض رقابة ومعاقبة المتورطين في التعذيب؛ فهو لا يزال على قناعة بأدوار الجهاز الحيوية في محاربة خلايا تنظيم داعش والنظام السوري، وضبط الأمن في محافظة تعج بالمجموعات المسلحة، وعصابات النهب والسلب. دون أن ننسى أن رئيس هذا الجهاز  "أبو أحمد حدود"، هو في الواقع من أخلص رجال الجولاني، وقد عينه نائبا له، ويعتبر بمثابة الرجل الثاني في الهيئة من حيث النفوذ والصلاحيات.

يتحدث ناشطون سوريون، وأيضا بعض المفرج عنهم عن دور أساسي لعبه " أبو عبيدة منظمات" في هذه القضية، وأبو عبيدة واحد من الأمنيين المثيرين للجدل، وهو المسؤول عن ملف "التحالف" في "جهاز الأمن العام"، ومكلف بـ"مكافحة التجسس" ورصد عمليات الاختراق.

وتداولت حسابات رقمية أسماء قالت إنها لمحققين مارسوا التعذيب في سجون الهيئة مثل "عبد الملك منبج" و"أبو زكرياء المصري" و"أبو جاسم 105" و"حسين اللبناني" و"أبو أسامة 38".

تطورات كثيرة عرفتها الأشهر الماضية، تمثل تداعياتها تحديا كبيرا لهيئة تحرير الشام، الفصيل الأكبر في شمال غرب سوريا الذي بدأ يتوسع شرقا نحو مناطق سيطرة الجيش الوطني في "غصن الزيتون" و"درع الفرات" و"نبع السلام"، فهل سينجح في تجاوزها أم سيكون "ملف العملاء" بداية التراجع والانزواء له؟

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".