صورة أرشيفية من داخل إحدى المستشفيات في العاصمة السورية دمشق- ا ف ب
صورة أرشيفية من داخل إحدى المستشفيات في العاصمة السورية دمشق- ا ف ب

 "لم يعُد الأمر مُعيباً كما في السابق. الجميع حالياً مُتعبون"، يقول السوري حمزة الروّاس، في إشارة إلى عدم وجود أي مشكلة لديه في مراجعة الطبيب النفسي بين الحين والآخر، بعد سنوات تردّد فيها باتخاذ هذا القرار.

وكان حمزة (42 عاماً) نزح إلى ريف دمشق في عام 2017 بعد أن فرّ بعائلته من مدينة الرقة شرق سوريا، إبان احتدام المعارك بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتنظيم داعش. وهو متزوج ولديه ثلاثة أطفال.

حين وصل إلى منطقة صحنايا غرب العاصمة، كان حمزة "مثقلاً بذكريات مريرة عاصرها خلال سنوات، حيث شهدت الرقة تقلبات عدة في السيطرة بين قوات النظام السوري ثم فصائل المعارضة ثم تنظيم جبهة النصرة، حتى سيطرة داعش عام 2014، وانتهاء بمعارك طاحنة وقصف جوّي مكثف من قبل التحالف الدولي"، على حدّ وصفه.

يروي لـ"ارفع صوتك": "طيلة عامين بعد فرارنا من الرقة، لم تفارقني الكوابيس والرؤى المزعجة، التي لا تأتيني في المنام فقط، إنما أيضاً في اليقظة. واضطررت للانقطاع عن وظيفتي في التعليم بعد أن وصلت لحالة نفسية معقدة".

صار حمزة يخشى أن تتطوّر حالته ويفقد معها زمام السيطرة على بيته وأبنائه. يتابع "كاشفتُ زوجتي في البداية حول حاجتي إلى  طبيب نفسي فلم تشجّعني بسبب نظرة المجتمع وعدم الجدوى من ذلك برأيها".

لكنه اتخذ "قرارا حازما في نهاية المطاف"، وفق تعبيره، وراجع عيادة نفسية وفّرتها إحدى منظمات الإغاثة في مدينة دمشق، يتلقى من خلالها العلاج النفسي وبعض الأدوية التي توفر له "بعض السكينة".

 

الوضع الاقتصادي سبباً

تتعدد أسباب الأمراض والاضطرابات النفسية في بلد يعيش منذ قرابة 13 سنة حرباً مدمرة انعكست آثارها على مختلف المجالات والمعيشة اليومية.

وأفاد تقرير لصحيفة "الوطن" المقرّبة من النظام السوري، نشر حديثا، أن عجز السوريين عن تأمين أبسط مقومات الحياة في ضوء ضعف الرواتب والدخول "انعكس على صحتهم النفسية فازدادت الاضطرابات وحالات الاكتئاب".

ونقلت عن الطبيبة النفسية دينا القباني، قولها إن "العيادات النفسية يغزوها المرضى لسوء الحالة الاقتصادية وعدم قدرتهم على دعم عائلاتهم أو إطعام أطفالهم أو التخطيط لمستقبلهم والتفكير المستمر بكيفية الحصول على أبسط متطلبات الحياة والحفاظ على مستوى معيشي مقبول في ظل الغلاء الحالي".

ورغم أن ظروف الحرب والمعارك التي مرّت على السوريين في مدن التوتّر تعد العامل الأقوى لحالات الاضطراب النفسي مع ما حملت من مشاهد قتل ودماء وفقد، إلا أن الوضع الاقتصادي في سوريا منذ عام 2020 بات عاملاً جديداً يضغط في شعور الآباء العاجزين عن تلبية أبسط ظروف الحياة لذويهم، أو لأمهات فقدن أزواجهن في الحرب وبِتن في موقع مسؤولية وحدهن.

تقول مرام دهني، 38 عاماً، إنها فقدت زوجها منذ ثماني سنوات خلال الحملة العسكرية على أحياء مدينة حلب الشرقية، ومنذ ذلك الوقت تتحمل مسؤولية طفليها وترعاهما وسط ظروف اقتصادية ومعيشية تزداد صعوبة كل عام.

وتشرح لـ"ارفع صوتك" أنها حاولت المقاومة بأقصى طاقتها كي لا يشعر طفلاها بنقص مع غياب والدهما، غير أن تراكم الضغوطات وعدم حصول أي تطور إيجابي في المشهد السوري أوصلها قبل نحو عام إلى مرحلة انهيار قاسية، اضطرت معها إلى البقاء تحت المراقبة الطبية عدة أيام.

"لولا تناول المهدئات العصبية ربما تعود لي هذه الحالة في أي وقت"، تتابع مرام، التي تقول إن وجود أهلها بجانبها خفف عنها كثيراً، لكن رغم ذلك "الناس اليوم كأنهم أموات يريدون أن يدعموا أمواتاً" وفق تعبيرها، في إشارة إلى العجز الكلي أمام صعوبات الحياة.     

توقعات بزيادة التضخم بعد رفع الرواتب وتقليص الدعم في مناطق النظام السوري
ما إن قلّصت حكومة النظام السوري الدعم عن المحروقات وما تبع ذلك من إصدار مرسوم رئاسي بزيادة رواتب العاملين بنسبة 100 بالمئة حتى خيمّت حالة من "الإرباك الشديد والشلل" على عموم المحافظات السورية، وعلى عكس "تطمينات" الرواية الرسمية يرى محللون اقتصاديون أن "الأيام المقبلة ستكون على السوريين أشد وأصعب".

 

الصحة النفسية "رفاهية"

لا تُعد سوريا من الدول التي تهتمّ بميدان الصحة النفسية قبل الحرب، رغم محاولات الدخول في هذا المجال قبيل اندلاع الأزمة في 2011، حيث يوجد في البلد ثلاثة مراكز كبرى للرعاية النفسية، تقع بين حلب ودمشق،  غير أن واقع الحرب وكثرة أعداد المدنيين المحتاجين للدعم أو العلاج النفسي، دفع العديد من المشافي العامة إلى افتتاح أقسام خاصة بالعلاج النفسي.

لكن الأمر لا يخلو من التحديات، حيث يعاني القطاع من نقص في أعداد الأطباء والأخصائيين النفسيين، كما لا تزال "وصمة العار" تلاحق الذين يرتادون مراكز العلاج النفسي في بعض المجتمعات.

الأخصائية النفسية رشا علوان، تبين لـ"ارفع صوتك" أن "الضرر النفسي من أكبر وأخطر الأضرار على الشخص خلال الحرب وبعدها بسبب الصدمات النفسية المتتابعة، وتبقى المؤشرات الدالة عليها تحتاج إلى وقت كي تظهر وقد تكون غير مُدرَكة من قبل الأشخاص والمجتمع أيضاً".

وتقول إن الصحة النفسية في سوريا وسط شُح الإمكانيات، تُعدّ "رفاهية مفرطة"، فطول أمد الحرب "أنشأ أجيالاً من الناس في بيئة مناسبة للأمراض النفسية، التي تبدأ على شكل اضطراب ثم لا تلبث أن تصبح حالات مرضية قاسية"، على حد وصفها.

وبالإضافة للأشخاص البالغين، هناك "خطر الضرر النفسي على الأطفال الذين ولدوا وعاشوا طفولة في بيئة صحية ونفسية واجتماعية غير مناسبة"، تضيف علوان "وهنا يجب علينا دق ناقوس الخطر لأجيال من الممكن بالفعل أن تعاني من العدوى النفسية والأمراض النفسية وما يرتبط بها من مخاطر على المجتمع من انتشار التفكك الاجتماعي والجريمة". 

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".