صورة أرشيفية لمواطنين سوريين يتنزهون في إحدى الحدائق العامة بالعاصمة دمشق
صورة أرشيفية لمواطنين سوريين يتنزهون في إحدى الحدائق العامة بالعاصمة دمشق

يحمل شهر رمضان بالنسبة لمسلمي سوريا بشكل عام والدمشقيين خصوصاً، مجموعة من العادات والتقاليد التراثية التي باتت جزءاً من ثقافة المجتمع السوري، إضافة إلى كونه شهر التعبّد والروحانيات.

وتشكّل عادة "التكريزة" لدى أهالي العاصمة السورية عُرفاً يسبق رمضان بأيام قليلة، تحديداً في الأسبوع الأخير من شهر شعبان، كنوع من الاستعداد للصيام ووداع نمط الحياة اليومية قبل ذلك. خروج أهالي دمشق في  "السّيران" أي النزهة، ويختارون أماكن بعيدة عن المناطق السكنية وتتميّز بأجوائها الطبيعية، مثل ضفاف نهر بردى أو منطقة الربوة الشهيرة أو متنزّهات الغوطة، حاملين معهم أطايب الطعام والمشروبات.

لا يتعلق الأمر بالطعام فقط، حيث يحرص بعض الدمشقيين إلى اليوم على ارتداء أزياء تراثية قديمة، وتنظيم الجوقة التراثية المعروفة باسم "العراضة" ويرافق ذلك اشتراك الجميع بترديد الأهازيج والأغاني التراثية.

وتثير عادة "التكريزة" اليوم لدى الدمشقيين ذكريات ما قبل اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، حيث يشكل وداع شهر شعبان واستقبال رمضان أحد أهم مظاهرها، كما يقول الحاج الدمشقي عماد المبيّض لـ"ارفع صوتك".

وقد نشأ المبيض في عائلة دمشقية حرصت على ممارسة "التكريزة" منذ أن كان صغيراً، وحافظ عليها بدوره مع عائلته. يتذكّر بحسرة أجواء ما قبل الحرب حيث كان "السّيران" بمثابة "احتفال شعبي عام وفرصة للترويح عن النفس وإحياء تراث الأجداد" على حدّ تعبيره.

ولا يوجد تاريخياً عهد محدّد لقيام الدمشقيين بهذه العادة التراثية كغيرها من العادات الاجتماعية التي يتدرّج الناس بالقيام بها، وفقاً للكاتب والناقد سوري المهتمّ بالتراث الدمشقي محمد منصور، مرجحاً أنها بدأت في نهايات العصر المملوكي وبدايات العصر العثماني، حيث أرّخ البُدَيري الحلّاق، صاحب كتاب "حوادث دمشق اليومية"، وجود هذه العادة في القرن السابع عشر الميلادي، دون أن يذكرها باسمها المعروف اليوم.

وأصدر منصور أربعة كتب عن التاريخ الاجتماعي لدمشق من بينها "دمشق طقوس رمضانية". يقول لموقع "ارفع صوتك" إنه بحث كثيراً في سبب التسمية "التكريزة"، إلا أنه لم يصل إلى جواب شافٍ.

لكنه يميل إلى ربطه بأحد معاني "كَرَز" في بعض المعاجم، التي تشير إلى التوطئة والتمهيد، في إشارة إلى الاستعداد للدخول في شهر رمضان.

 

 في الربيع والصيف فقط

يوضّح منصور أن "التكريزة" لا تختلف كثيراً عن النزهات التي يقوم بها الأهالي في استقبال الربيع أو الصيف، غير أنها تحمل أجواء خاصة من إثارة المرح والسرور والترفيه قبيل رمضان الذي يعني غياب هذه النزهات عن حياة الناس لمدة شهر.

وتجدر الإشارة، بحسب منصور، أن "التكريزة" مرتبطة فقط بقدوم رمضان في فصلي الربيع أو الصيف، أما في الشتاء والخريف فلا يقوم الدمشقيون بها بسبب برودة الطقس.

 ويروي حادثة وقعت في أربعينيات القرن الماضي حيث خرج بعض أهالي دمشق في "التكريزة" خلال شهر الخريف وبينما هم على ضفاف بردى هطلت الأمطار بغزارة وأدى ارتفاع منسوب المياه إلى جرف أمتعتهم لتتدخل حينها فرق الإطفاء لإنقاذهم.

 

ذكريات طواها الغلاء

يترافق شهر رمضان هذا العام مع تفاقم الضائقة المعيشية لدى عموم السوريين ومنهم سكان دمشق، حيث ارتفعت نسبة التضخم والغلاء بشكل واضح بالمقارنة مع بقية المحافظات السورية، ورغم أن الأزمة المعيشية ليست جديدة إلا أن رفع الحكومة السورية الدعم عن المحروقات والمواد الأساسية زاد من حدّتها خلال عام 2023.

تقول رغداء عسّاف (46 عاماً) وهي من سكان حي القنوات الدمشقي، إن الأزمة انعكست على جميع مظاهر التجهّز لرمضان، من بينها عادة "التكريزة" التي فقدت أجواءها المرحة بسبب ظروف الحرب والغلاء.

وتضيف لـ"ارفع صوتك" أنها شاهدت الانخفاض التدريجي في تطبيق عادة "التكريزة" خلال السنوات الماضية، حتى أنها خلال هذه الأيام لم تشاهد أياً من معارفها أو أقاربها يقوم بالسّيران المعتاد، لأن الناس "لأن الناس أصبحت تحسب ألف حساب لتأمين وجبة الغداء العادية المتواضعة، فكيف يمكن أن يؤمّنوا تكلفة نزهة التكريزة التي تتطلب وجود عدة مأكولات؟" وفق تعبيرها. 

ولا يتعلّق الأمر بالوضع المعيشي فقط، حيث لا تزال أجواء الحرب حاضرةً في نفوس السوريين في دمشق رغم مرور نحو 5 سنوات على الأقلّ منذ انتهاء المعارك في محيطها، بحسب أحد سكانها، عصام عبيدو (37 عاماً).

يشرح لـ"ارفع صوتك": "أجواء التكريزة تتطلب وجود المرح والترفيه خلال النزهة، وهو غير متوفر في أيامنا هذه. ربما انتهت الحرب كمعارك فقط في دمشق، غير أن كارثة الحرب لا تغادر مخيلتنا مع وجود عدد كبير من القتلى والمفقودين والمعتقلين إضافة إلى غياب مئات الآلاف الذين غادروا البلاد ولا نعلم إن كانوا سيعودون أم لا".   

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".