صورة أرشيفية لطالبات في إحدى الجامعات السورية
صورة أرشيفية لطالبات سوريات في جامعة "البعث" بمدينة حمص- تعبيرية

"أنتظر تخرجي بفارغ الصبر كي أغادر هذه البلاد، فجميع من سبقوني للسفر حصلوا على وظيفة براتب ممتاز مقارنة بالرواتب التي تعرض علينا هنا"، يقول الطالب بكلية الهندسة في جامعة دمشق، ياسين المحمد.

ويوضح لـ"ارفع صوتك": "أكثر ما يتمناه الطالب عند تخرجه الحصول على وظيفة جيدة تدر دخلا يساعده في العيش الكريم، وتمكنه من مساعدة عائلته التي تعبت لتعليمه، لكن في سوريا، فإن الخريج الذي يجد عملا يستمر في أخذ مصروفه من والديه، لأن الراتب لا يكفي حتى ثمن المواصلات".

وياسين، واحد من بين عديد الطلبة الذين يدرسون في مناطق النظام ويخططون في سنة تخرجهم للبحث عن عمل خارج البلاد، أو بدأوا بالفعل البحث عنه.

والأسباب عديدة، أهمها أن الرواتب لا تتناسب مع متطلبات الحياة الكريمة، بالإضافة إلى قلة فرص العمل، وصعوبة التقدم في المجالين العملي والعلمي، بسبب تدني مستوى التعليم العالي والبحوث، وفقدان الأمان بسبب سيطرة المتنفذين بقوة السلاح، وتردّي الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وصولاً إلى الرغبة في الهرب من الخدمة العسكرية الإلزامية في جيش النظام.

يقول حاتم مراش، (24 عاما)، إنه أقدم على تأجيل انتسابه للخدمة العسكرية على أمل أن يهاجر للعمل وبعدها يتمكن من دفع بدل الإعفاء منها، وهي برأيه "تدمير للمستقبل لأنها غير محددة بمدة زمنية وقد تستغرق سنوات طويلة".

ويعتقد أن السفر وجمع المال لتأمين مبلغ الإعفاء من الخدمة "ضرورة ملحّة"، لأن الالتزام بها بالنسبة لأي خرّيج جامعي تعني ضياع سنوات من دون عمل وخبرة حقيقية بمجال دراسته.

محمود مرعي (26 عاما)، طالب آخر، يدرس الطب في جامعة دمشق، ويرغب بالهجرة نتيجة "انعدام فرص التقدّم، فالأجهزة والمعدات الطبية في المشافي غير متطورة ولا يمكن مواكبة كل جديد في عالم الطب، كما أن الرواتب متدنية" بحسب ما يقول لـ"ارفع  صوتك".

ويشرح: "لن أعمل عملا جانبيا في خدمة التوصيل مثلا كما يعمل خريجون آخرون، فمهنة الطبيب لها قيمتها واعتبارها في المجتمع، وفي الوقت نفسه راتبها لا يكفي أسبوعاً".

ويشير مرعي إلى أن خرّيجي الطب يتلقون عروض عمل خارج سوريا برواتب "أعلى بعشرين أو ثلاثين ضعفاً مقارنة بما يُعرض عليهم" في بلدهم.

وما يحزنه، أنه رغم النقص الهائل في عدد الأطباء وسفر الكثيرين من خريجي كليات الطب، إلا أن وزارة الصحة وبدلا معالجة هذه الظاهرة وطلب رفع راتب الطبيب المقيم، الذي لا يتجاوز 300 ألف ليرة شهرياً (22 دولارا)، قامت باستحداث سنة امتياز لحجز الطبيب ومنعه من المغادرة إلى الخارج عاماً كاملاً.

بالنسبة للطالبة دارين منذر، فإن انعدام الأمن أكثر ما يخيفها ويدفعها للتفكير بالهجرة. تقول "لا يمكنك الخروج والمشي في الشوارع المعتمة، حيث الخوف من السرقات والنشل والعصابات التي تسرح وتمرح في الأحياء، والشرطة تتجاهلها كونها مدعومة في أحيان كثيرة".

وتخطط  للحصول على شهادتها في الإعلان والتسويق والسفر إلى كردستان العراق كمحطة مؤقتة لجمع المال، ثم السفر لاحقاً إلى مدينة دبي في أبو ظبي، بغية العمل والاستقرار هناك.

وفق موقع "Global Economy" المختص بدراسة الآفاق الاقتصادية للبلدان، تصدرت سوريا قائمة الدول العربية في هجرة الكفاءات عام 2023، بمعدل 8 من 10 نقاط.

 

أسباب ونتائج

في تقرير نشر منتصف العام الماضي، حذرت صحيفة "البعث" من تحول سوريا إلى "دولة عجوز" نتيجة استمرار هجرة الكفاءات الشابة إلى خارج البلاد، وانخفاض نسبة الشباب بعد أن كانت تتجاوز 60% من عدد السكان. 

وبينت أن الدول الأوروبية "تتغنى بالكفاءات والخبرات السورية على أنها أفضل استثمار حصلت عليه خلال السنوات القليلة الماضية".

من جهته، يعتبر الخبير الاقتصادي  يونس الكريم أن البيئة السورية "غير صالحة لبقاء الكفاءات"، متوقعا استمرار هذه الهجرة، التي "ستنعكس سلباً على العديد من المهن التي تحتاجها سوريا بشكل كبير، وستظهر آثارها بانخفاض مستوى الصحة والتعليم وجودة الحياة والوضع المعيشي".

ويقول لـ"ارفع صوتك"، إن "الفساد من أهم الأسباب الطاردة للكفاءات، بالإضافة إلى انخفاض الدخل، وصعوبة التنقل، وعدم وجود قوانين ترعى عمل الكفاءات، وعدم وجود بنى تحتية ومواد أولية لتطوير عملها".

يعوضهم بالمتقاعدين.. النظام السوري يعاني هجرة الشباب للوظيفة
شهدت سوريا بين 2011 و2018 شهدت موجات هجرة كبيرة لأسباب أمنية وعسكرية، غير أن مسار الهجرة من سوريا لم يتوقف مع ثبوت الخرائط العسكرية بشكل نسبي بعد عام 2020، لكن الأسباب اتخذت مسارات مختلفة، تتعلق هذه المرة بالوضع الاقتصادي الخانق، الذي تفاقم مع بدء حزمات العقوبات الأميركية بموجب قانون "قيصر"، وتردّي الأوضاع المعيشية والخدمية إلى مستويات أقرب للمجاعة.

الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق مصطفى، الذي طلب عدم ذكر اسمه الكامل، يرى أن "هجرة الخريجين ظاهرة خطيرة تهدد مستقبل إعادة إعمار سوريا وتؤثر سلباً على جميع أوجه الحياة في البلاد".

ويبين لـ"ارفع صوتك"، أن هؤلاء الشباب فقدوا الأمل في المستقبل داخل سوريا، داعياً إلى "إيجاد حلول جذرية تحسّن الوضع المعيشي، وتوفر فرصاً أفضل للعيش والعمل في سوريا، كرفع الرواتب ومحاربة الفساد وإلغاء أو تعديل الخدمة العسكرية الإلزامية، وتطوير البنى التحتية، ووضع قوانين ترعى عمل الكفاءات".

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".