أحد عناصر "الجيش الوطني" المعارض للنظام السوري والمدعوم من تركيا، في مدينة الباب- تعبيرية
أحد عناصر "الجيش الوطني" المعارض للنظام السوري والمدعوم من تركيا، في مدينة الباب- تعبيرية

أفرز الثبات النسبي لخرائط السيطرة والنفوذ في سوريا منذ عام 2020 وسد معظم أبواب الهجرة إلى خارج البلاد، واقعاً ديمغرافياً جديداً تمثّل بموجة تنقّلات داخلية بين معظم المناطق السورية، طلباً للحصول على فرص حياة أفضل أو هرباً من واقع الحال.  

ويمكن للمتابع أن يرصد في سوريا اليوم ثلاثة مناطق نفوذ واضحة، وهي مناطق قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شرقاً، ومناطق تحت سيطرة المعارضة في شمال غرب البلاد، ومناطق سيطرة النظام السوري، التي تصنّف الآن بأنها "الأسوأ حالاً" من حيث الوضع الاقتصادي والخدمي، إضافة إلى شبح التجنيد الإجباري الذي ما زال يلاحق السكان.

لذلك، شهد العامان الأخيران موجة نزوح داخلية ارتفعت حدّتها في الشهور الثلاثة الأخيرة، من مناطق سيطرة النظام السوري إلى مناطق شمال غرب سوريا، وكانت الدوافع الاقتصادية والخدمية العامل الأبرز لهذه الحركة، إضافة إلى هروب فئة الشباب من سطوة التجنيد الإجباري والقبضة الأمنية التي يحكم بها النظام منذ 13 عاماً.

سوريا
يوميات السوريين بمناطق النظام.. تزاحم على الغاز والخبز والمواصلات
بعيدا عن شاشات الإعلام الدولي يعاني السوريون المقيمون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام معاناة لا تطاق، فيما يصور إعلام النظام أن البلد تعيش حالة من الازدهار.

أزمات تحاصر المواطن السوري يوميا وتخنقه في مناطق يمنع على الناس التعبير فيها عن آرائهم أو احتجاجهم على تردي حالتهم.

ففي تلك المناطق

 

"انتحار بطيء"

رغم أن الليرة السورية بدأت مشهد الهبوط الدراماتيكي منذ منتصف عام 2020 إبان فرض الحزمة الأولى من عقوبات قانون "قيصر" الأميركي ضد دمشق، إلا أن صيف 2023 حمل للسوريين في مناطق سيطرة نظام بشار الأسد قراراً عُدّ بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، مع قرار الحكومة رفع الدعم عن حوامل الطاقة الرئيسة، وأدى ذلك بالمحصلة إلى موجة غلاء حادّة وغير مسبوقة جعلت تأمين الوجبة التالية للسوريين مهمة في غاية الصعوبة.

وترافقت موجات الغلاء والتضييق المعيشي مع حالة تردٍّ عامة في الخدمات من كافة الجوانب، جعلت البقاء في مناطق النظام أشبه بـ"الانتحار البطيء" بحسب تعبير  المواطن السوري عمار حديدي، الذي انتقل مع عائلته قبل شهرين من مدينة حلب إلى ريف المحافظة الشرقي.

يقول عمار ( 58 عاماً) لـ"ارفع صوتك" إنه تردّد كثيراً قبل أن يختار التوجّه نحو مدينة الباب التي يسيطر عليها "الجيش الوطني" شمال شرق حلب، "خوفاً من المجهول الذي قد يطرأ على حياته"، غير أن مجموعة عوامل ساعدته في حسم أمره، أهمّها وجود أقارب له في هناك شجعوه على اتخاذ الخطوة.

وحول الظروف التي قادته لذلك، يوضح عمار: "نعيش منذ سنوات بلا كهرباء وسط خدمات صحّية متهالكة وراتب شهري لم يعُد يكفي عائلتي أكثر من 5 أيام على أبعد تقدير".

"اضطررت لبيع بيتي وترك وظيفة التدريس التي أعمل بها منذ 30 عاماً" يضيف عمار، لتأمين الاستقرار في مدينة الباب.

بعد الانتقال، تفاجأ عمار كثيراً بمستويات المعيشة في مناطق الشمال السوري والتابعة لسيطرة المعارضة، يقول "الكهرباء حاضرة دائماً، والمشافي والمدارس ومستوى الخدمات أفضل مما هي عليه في حلب وحتى في دمشق بمئات المرات".

توقعات بزيادة التضخم بعد رفع الرواتب وتقليص الدعم في مناطق النظام السوري
ما إن قلّصت حكومة النظام السوري الدعم عن المحروقات وما تبع ذلك من إصدار مرسوم رئاسي بزيادة رواتب العاملين بنسبة 100 بالمئة حتى خيمّت حالة من "الإرباك الشديد والشلل" على عموم المحافظات السورية، وعلى عكس "تطمينات" الرواية الرسمية يرى محللون اقتصاديون أن "الأيام المقبلة ستكون على السوريين أشد وأصعب".

 

"أفضل" المُتاح

عملياً ينقسم شمال غرب سوريا الخارج عن سيطرة النظام السوري إلى  منطقتي نفوذ، تسيطر "الحكومة السورية المؤقتة" التابعة للائتلاف الوطني بدعم تركي على مناطق ريف حلب الشمالي والشرقي إضافة إلى مدينتي رأس العين وتل أبيض شرق نهر الفرات، بينما تحكم "حكومة الإنقاذ" التابعة لـ"هيئة تحرير الشام" منطقة إدلب وريفها وريف حلب الغربي.

يفضّل معظم السوريين اختيار المنطقة الأولى لأنها "أكثر استقراراً من الناحية العسكرية والخدمية" كما يقول إحسان المبيّض، الذي اختار هذه الوجهة بعد رحيله عن مدينة الكسوة بريف دمشق، لأسباب مماثلة للتي عدّدها عمار آنفاً، إضافة إلى فراره بولده الذي أصبح مطلوباً للتجنيد الإجباري بعد إنهاء دراسته.

يوضح إحسان لـ"ارفع صوتك" أن اثنين من أولاده يعيشان في تركيا منذ أكثر من 6 سنوات، وعندما فكرت العائلة باللحاق بهما وجدت الأمر في غاية الصعوبة وتكاليفه باهظة جداً، لذلك اختاروا الإقامة في مدينة إعزاز.

مع أن الواقع الخدمي أفضل بكثير من ريف دمشق حيث كان يعيش، إلا أن إحسان يتحدث عن صعوبة كبيرة في إيجاد عمل لمن ليس لديه رأس مال للقيام بمشروع أو ممن لا يمتلك مهنة يعتاش منها، فالوضع "ليس مثالياً لكنه أفضل الخيارات المتاحة".

وفي ظل استقرار التفاهمات الإقليمية حول مناطق شمال غرب سوريا والهدوء النسبي في الجبهات الرئيسة، بات ريف حلب الشمالي مقصداً للسوريين القاطنين في مناطق سيطرة النظام، لا سيما بعد الإغلاق المُحكم للحدود مع تركيا وعدم حصول السوريين على  وثائق إقامة فيها، والصعوبة البالغة في الوصول إلى أوروبا.       

يبين مدير شؤون المهجرين في "الحكومة السورية المؤقتة" زياد الخطيب، إن المشاريع الخدمية في مناطق ريف حلب "قائمة على قدم وساق، والمتابع للوضع الخدمي يلاحظ سرعة وتيرة الأعمال الخدمية ومشاريع البنية التحتية التي تملأ مدن الشمال من حيث عدد المشافي والمدارس والأفران والمعاهد وشبكات المياه والصرف الصحي عدا عن شبكة الكهرباء التي يكاد يكون وجودها معدوما لدى مناطق النظام".

في نفس الوقت، يقول الخطيب لـ"ارفع صوتك" إن الوضع الاقتصادي في تلك المناطق ليس في صورة مثالية وهو بالعموم "سيء" لكنه "أفضل من مدن سورية كثيرة".

"ووفق وتيرة العمل الحالية، فنحن مقبلون على تغير كبير للأفضل في الوضع الاقتصادي، وفي ما لو استمرّت التفاهمات الدولية الحالية وازدادت المساعدات الإنسانية بشكل أكبر سيكون وضع المنطقة أفضل بكثير في المستقبل القريب"، يتابع الخطيب.

هذه الصورة الوردية للواقع في الشمال السوري ليست محلّ إجماع رغم وجود اتفاق أنها أفضل بكثير من مناطق سيطرة النظام، فهي "غير جاهزة بعدُ من النواحي الخدمية والاقتصادية والأمنية"، كما يقول رشيد حوراني، الباحث في مركز "جسور" للدراسات.

ويوضح لـ"ارفع صوتك": "رغم عدم الجاهزية الكاملة في مناطق شمال غرب سوريا، إلا أن لدى السلطات فيها نية لتوفير الخدمات الاقتصادية والخدمية، ويتم العمل على إيجادها بالتدريج لتستوعب حاجة السكان، وهذا الأمر غير متوفر في مناطق النظام".

ويعتقد حوراني أن الشمال السوري يتّجه إلى "مزيد من الاستقرار، خاصة بعد البدء بهيكلة الجيش الوطني، لا سيما أن وحشية النظام وتعنّته وعدم تقديم التنازلات السياسية للوصول إلى حل سياسي، ستدفع المجتمع الدولي ومؤسساته الإنمائية لتحقيق الاستقرار والتنمية في تلك المناطق، خصوصاً أن هذا الخيار يُعد البديل الأكثر نجاحاً لوقف الهجرة إلى تركيا أو أوروبا"، على حدّ وصفه.

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".