ظروف معيشية قاسية ضمن المخيمات المكتظة بالناس
ظروف معيشية قاسية ضمن المخيمات المكتظة بالناس

مع كل حادثة انتحار جديدة عبر تناول "حبة الغاز" يرتفع الغضب الشعبي في مناطق الشمال السوري، بسبب إهمال السلطات المحلّية هذا الملف الخطير الذي قضى على أطفال ويافعين خلال السنوات الماضية.

وفي مطلع فبراير الماضي، أثار انتحار طفل سوري لا يتجاوز 14 عاماً عبر تناول "حبة الغاز" موجة غضب واسعة في قرية بابسقا شمالي إدلب، بسبب سهولة حصول الأطفال واليافعين على هذه الحبة دون وجود إجراءات صارمة للحد من بيعها ومنع تعاطيها لغير الغرض الرئيسي منها.

وجاء ذلك بعد أيام من انتحار طفلة بالطريقة نفسها، وسط مطالبات شعبية بوضع حلول عاجلة. وتركت الطفلة رسالة مؤثرة لعائلتها.

تُعرف "حبة الغاز" في مناطق الشمال السوري باسم آخر هو "حبوب الغلّة"، وهي أقراص تتكون من مادة فوسفيد الألومنيوم التي يخرج منها غاز الفوسفين القاتل بسبب سُمّيته العالية وعدم وجود ترياق مضاد يحدّ من أذيّته السريعة.

وتُستخدم الحبة كمبيد حشري من أجل حفظ الغلال الزراعية من التسوّس، وفقاً للمهندس الزراعي عبد الحميد بركات.

ويوضح بركات لـ"ارفع صوتك" أن "الخطير جداً في الانتشار غير المنضبط لهذا النوع من المبيدات أن نسبة النجاة من تأثيراته نادرة جداً، فهي سريعة التفاعل في الجسم بحيث يبدأ مفعولها بعد دقائق قليلة من وصولها للمعدة، وتؤدي لإتلاف خلايا المعدة والأمعاء، إضافة إلى التأثير السريع في وصول السمّ عبر الدم إلى أعضاء حيوية أخرى في الجسم".

"بالمحصلة فإن تأثيرها الأقوى يتمثل في حالة شلل تصيب القلب ليتوقف بعدها بفترة قصيرة"، يتابع بركات.

وحتى في حالة نجاة الشخص، فإنه يتعرض لأضرار بالغة تؤدّي غالباً إلى حدوث شلل أو إعاقة دائمة أو فقدان النطق بسبب تلف الأعصاب الحركية، كما يقول الطبيب سليمان الضويحي، الذي يعمل في قسم الأمراض الباطنية في مشفى الأمل بإدلب.

ويبيّن لـ"ارفع صوتك" أنه لم يتعامل مع حالات تناول فيها أحدهم هذه الحبة بغرض الانتحار، غير أن زملاء له في مناطق قريبة بإدلب "أبلغوه بالحالة السريرية التي يكون عليها صاحب الحالة بمجرد تناوُل حبة الغاز الخطيرة، إذ "تحصل المضاعفات بشكل سريع بعد تناول الحبة عن طريق البلع أو الاستنشاق المُبالغ فيه، ما يؤدّي بعد دقائق قليلة إلى حدوث غثيان ومغص معدي ومعوي إضافة إلى التقيؤ المصحوب بخروج دماء من جوف المريض، وتشنجات عصبية وانهيار القدرة على الحركة".

 

قرارات للحدّ من الكارثة          

يقول المهندس بركات إن حصول الأطفال أو اليافعين على هذا النوع من الحبوب القاتلة "ليس بالأمر الصعب"، لأنها "تباع في جميع الصيدليات الزراعية وأحياناً في بعض البقاليات، وتباع العلبة منها التي تحوي أكثر من 300 حبة بمبلغ لا يتجاوز أحياناً 250 ليرة تركية، دون وجود تدقيق كبير حول الشخص الذي يريد شراءها أو الغرض من الشراء".

في 7 فبراير الماضي، أصدرت "وزارة الزراعة والري" في "حكومة الإنقاذ" التي تدير إدلب قراراً نشرته على صفحتها الرسمية في منصة فيسبوك، يقضي بوضع شروط للسماح ببيع "حبة الغاز"، في محاولة للحدّ من الانتشار العشوائي لهذا المبيد القاتل واستخدامه كطريقة سريعة للانتحار.

وطالب القرار جميع الدوائر الزراعية بعدم إعطاء أي كتاب يسمح للأهالي بشراء مادة "حبة الغاز" إلا بعد التأكد الفعلي والحقيقي من استخدامها لأغراض التعقيم والمكافحة، وأن يكون عمر المشتري يتجاوز عمره 25 عاماً.

#تعميم حرصا من وزارة الزراعة والري على حياة الأهالي، يمنع منعا باتا بيع مادة فوسفيد الألمنيوم (حب الغاز) لأي شخص كان...

Posted by ‎وزارة الزراعة والري - حكومة الإنقاذ السورية‎ on Wednesday, February 7, 2024


وأصدرت "المديرية العامة للتجارة والتموين" قراراً يقضي بمنع بيع "حبوب الغاز" في محال المواد الغذائية وحصرها بالصيدليات الزراعية والبيطرية، بحسب محمد السليمان، المدير العام للتجارة والتموين في حكومة الإنقاذ.

يقول السليمان لـ"ارفع صوتك" إن الرقابة التموينية "تُجري دوريات تفتيش في جميع المناطق لمتابعة تنفيذ القرار، مع التشديد على أصحاب المتاجر بضرورة التقيد به وتنظيم عدة مخالفات تتعلق بحيازة وبيع المادة وإحالة أصحابها للجنة مختصة اتّخذت إجراءات صارمة بحقهم".

ويتابع السليمان: "تهيب المديرية العامة للتجارة والتموين الأهالي بالإبلاغ عن أي حالة مخالفة للتعامل معها فوراً عبر أرقام الشكاوى المنتشرة على الصفحات والمعرفات الرسمية لوزارة الاقتصاد والموارد".

وبلغت حالات الانتحار بحبة الغاز في الشمال السوري نحو 37 وفاة من مجمل حالات الانتحار في المنطقة نفسها خلال عام 2023.

ونقل موقع "تلفزيون سوريا" المقرب من المعارضة السورية  عن محمد حلاج، مدير فريق "منسقو استجابة سوريا" أن عدد حالات ومحاولات الانتحار خلال العام الفائت 2023 بلغ 81 حالة في شمال غرب سوريا، من بينها 44 حالة أدت إلى الوفاة، موضحاً أن ما يقارب نصف حالات الانتحار كانت من خلال تناول حبة الغاز (37 حالة)، أي ما يقارب نصف عدد الحالات التي تم إحصاؤها.

وأضاف: "يلجأ المنتحرون إليها (حبة الغاز) على اعتبارها الطريقة الأسهل لهم، وتداولها بشكل طبيعي دون ضبط للأمر خاصة أنها مادة مستخدمة بكثرة للاستعمال الزراعي أو المنزلي".

ويشكل الأطفال واليافعون والمراهقون النسبة الأكبر من تلك الحالات دون الوقوف على الأسباب الكامنة وراء هذا السلوك.

مواضيع ذات صلة:

قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015
قطار خاص بنقل السياح في محيط العاصمة السورية دمشق- أرشيف 2015

في يناير من العام الجاري، أصدرت وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، بياناً قالت فيه، إن أكثر من 2.17 مليون سائح من جنسيات عربية وأجنبية، زاروا المناطق الخاضعة لسيطرة النظام خلال عام 2023.

وهذه الأرقام بلغة المال، حققت نحو 125 مليار ليرة سورية، بنسبة ارتفاع وصلت إلى 120% عن عام 2022، بحسب بيان الوزارة.

والكثير من هؤلاء السياح، وفق مصادر إعلامية محلية وغربية، تستهويهم فكرة السفر إلى دول تعاني من الحروب والأزمات أو الدمار، بدافع الفضول وأحياناً محاولة كسر الصورة النمطية، التي تصم العديد من الدول بأنها "غير آمنة" و"خطرة جداً" أو يتم التحذير من السفر إليها تحت مختلف الظروف.

عام 2016، نشر موقع "ميدل إيست آي" تقريراً يشرح عن هذا النوع من السياحة، الذي أسماه بـ"السياحة المتطرّفة"، مشيراً إلى وجود رغبة لدى العديد من السيّاح الغربيين باستكشاف مغامرات جديد، عبر زيارة المواقع التي دمّرتها الحرب وحوّلتها إلى أنقاض.

وتناول سوريا كأحد النماذج، باعتبارها وجهة للكثير من السياح الغربيّين، الذين يدخلونها "تهريباً" عبر لبنان بمساعدة سائقين وأدلّاء، بهدف الوصول إلى أماكن طالتها الحرب وغيّرت معالمها، دون اللجوء إلى دخول البلاد بشكل قانوني.

وهناك شركة سياحية تروّج لزبائنها أنها ستقدم لهم "تجارب مختلفة من السفر والاستكشاف في مناطق ليست تقليدية للسياحة"، وتطرح إعلانات للسياحة في اليمن والصومال وسوريا والعراق وأفغانستان، تحت عنوان "السفر المُغامر"، لاجتذاب شريحة خاصة من عشاق وهواة هذه التجارب المثيرة للجدل.

"سياحة الدمار" صارت تمثل للراغبين في زيارة سوريا "بديلاً" عن زيارة المناطق الأثرية التقليدية التي كانت أكثر جذباً قبل اندلاع الحرب الأهلية، خصوصاً أن العديد منها تعرض لأضرار ودمار دون أن يتم ترميمه وإعماره وتهيئته لاستقبال السياح لاحقاً، كما أن الوصول لبعضها بات شبه مستحيل.

ترويج للنظام أم إدانة له؟

برأي الصحافي الاستقصائي السوري مختار الإبراهيم، فإن "مشاهدة مناظر الدمار ومواقع الخراب السوري بغرض السياحة، تعكس استخفافاً كبيراً بآلام الضحايا ومآسي ملايين السوريين الذين تضرّروا جرّاء الحرب".

ويقول لـ"ارفع صوتك": "زيارة سوريا بغرض السياحة بشكل عام تُقدّم خدمة كبيرة للنظام السوري من حيث الترويج لسرديات انتصاره في الحرب، وعودة سوريا إلى ما كانت عليه".

"فالنظام السوري مستعد أن يبذل الكثير في سبيل الترويج للسياحة في مناطقه، فما بالك أن يأتي السياح ويرفدوا خزينته على حساب كارثة عاشها ملايين السوريين!"، يتابع الإبراهيم.   

ويحمّل قسماً كبيراً من المسؤولية لبعض المؤثرين على "يوتيوب" و"تيك توك"، الذين "روّجوا خلال السنوات الماضية للسياحة في سوريا وإظهار أنها آمنة عبر عدسات كاميراتهم، لحصد المشاهدات" وفق تعبيره.

من جانبه، يقو الصحافي السوري أحمد المحمد: "على الرغم من أن سياحة الموت تخدم النظام من جهة ترويج أن مناطقه باتت آمنة لعودة السيّاح، إلا أنها تُدينه أيضاً". 

ويوضح لـ"ارفع صوتك" أن "مشاهدة مناظر الدمار بغرض السياحة يُمثّل توثيقاً حيادياً للتدمير الذي أحدثته آلة النظام العسكرية في البلاد".

وطالما تعرضت مصادر المعارضة السورية في توثيق الدمار للتشكيك من قبل النظام نفسه، بحسب المحمد، مردفاً "تم اتهامهم بالفبركة الإعلامية، بينما منع النظام خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام الأجنبية من التغطية الحرّة لمجريات".

في النهاية، يتابع المحمد "مهما بذل النظام من جهود ترويجية حول عودة مناطقه آمنة، فإن واقع الحرب السوري أكبر من الترويج بكثير، لا سيما أننا في كل فترة قصيرة، نسمع عن حالات اختطاف لسيّاح قدموا للترفيه فوق معاناة السوريين".