في نهاية مارس الماضي مرّت الذكرى السنوية التاسعة لإخراج قوات النظام السوري من مدينة إدلب شمال غرب البلاد، بعد معارك عنيفة شنّها ما كان يُعرف آنذاك بـ "جيش الفتح" سقط فيها عشرات القتلى والجرحى.
وتكوّنت غرفة عمليات "جيش الفتح" في 24 مارس 2015، وهو يوم انطلاق المعارك التي استمرّت أربعة أيام متواصلة انتهت بسيطرة فصائل التشكيل المعارض على المدينة، بينما ضمّت الغرفة المشتركة مجموعة من الفصائل التابعة لـ"الجيش السوري الحر" وأخرى محسوبة على فصائل راديكالية، بعضها على قوائم الإرهاب، مثل "جبهة النصرة" (التي أصبح اسمها لاحقاً هيئة تحرير الشام)، و"حركة أحرار الشام" و"فيلق الشام" و"لواء الحق".
بعد هذه المعركة، اعتُبرت مدينة إدلب ثاني مدينة تخرج عن سيطرة القوات الحكومية بعد الرقة، وحينها توافقت الأطراف المسيطرة على نوع من تقاسم النفوذ لم يلبث أن تبعثر بعد نحو عامين، إذ نشبت معارك طاحنة بين حلفاء المعركة وأبرزهم "هيئة تحرير الشام" وحركة "أحرار الشام"، أسفرت عن سيطرة الهيئة على كامل المدينة ثم أصبحت تسيطر على كامل محافظة إدلب.
أهمّية استثنائية
حظيت إدلب بأهمية استثنائية خلال سنوات الحرب السورية لعدة أسباب، أهمّها الاتصال الجغرافي مع تركيا، ثم تحوّل المحافظة إلى وجهة رسمية لتهجير سكان المناطق التي سيطر عليها النظام السوري في حمص وريف دمشق ودرعا، حتى أصبح عدد النازحين فيها يساوي أو يزيد على عدد سكان المحافظة الأصليين، الأمر الذي جعلها أقرب إلى صورة "سوريا مصغّرة" ضمّت كافة اتجاهات المعارضة قبل المرحلة التي منعت فيها "هيئة تحرير الشام" بزعامة "أبو محمد الجولاني" أي تشكيل أو تيار يخالف رؤيتها.
في نوفمبر 2017 اتخذت الهيئة أول خطوة لبسط السيطرة المدنية في المحافظة بعد استتباب الهيمنة العسكرية، فأنشأت حكومة خاصة بإدارة إدلب أطلقت عليها اسم "حكومة الإنقاذ"، لتكون مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة النظام منقسمة بين "حكومة الإنقاذ" و"الحكومة المؤقتة" التابعة للائتلاف الوطني السوري.
وخلال سنوات سيطرة الهيئة على إدلب، شهدت المحافظة عدة حراكات شعبية للتنديد بسياساتها الأمنية، وامتلاء مُعتقلاتها بمدنيين أو ناشطين مُناهضين لها، لكن حراك شهر مارس الماضي حمل بصمات خاصة بسبب اتساع رقعة التظاهر في إدلب ومختلف أريافها، وارتفاع سقف مطالب المتظاهرين بين إطلاق سراح المعتقلين وحلّ "جهاز الأمن العام" التابع لـ"هيئة تحرير الشام"، وتعديل السياسات الاقتصادية في المنطقة الموصوفة بأنها "سياسة احتكار" لكافة الموارد الاقتصادية الشحيحة أصلاً، وتحوّل أهداف الهيئة من الدفاع عن إدلب إلى جباية الضرائب والإتاوات.
"خيبة وعدم استقرار"
"إدلب اليوم لا تشبه إدلب التي شهدنا تحريرها قبل تسع سنوات" يقول عبد السلام سرميني لـ"ارفع صوتك"، مشيراً إلى أن "هيئة تحرير الشام ابتعدت كثيراً عن مطالب الناس، وتحاول تأسيس دولة على حساب معاناة الناس وتضحياتها".
ويضيف الرجل الستيني، أنه كان شاهداً على "تحرير المدينة من قبضة النظام السوري، وحينها كانت الآمال مرتفعة بأن تصبح إدلب مُنطلقاً لامتداد الثورة السورية وتحقيق انتصارات نوعية".
"لكنها اليوم باتت منطقة يُحاصر فيها السكان والنازحون وتهدّدها هجمات النظام في كل حين"، يتابع عبد السلام.
بالنسبة للناشط المدني مالك عنتابي، فإن هناك عوامل عدة تحول دون تحقيق الاستقرار في إدلب، مبيناً لـ"ارفع صوتك": "وجود إدلب ضمن اتفاق خفض التصعيد بموجب مسار أستانا بين تركيا وروسيا وإيران منذ عام 2017 لم يمنع قوات النظام السوري من شن عدة عمليات عسكرية استهدفت ريف إدلب الجنوبي، وأدّت إلى وقوع عدة مدن وقرى كبيرة في قبضة النظام".
فالنظام لا يزال يقصف مناطق عدّة في محافظة إدلب من بينها المدينة، وسط مخاوف دائمة من إمكانية عودة العمليات العسكرية إليها، وهذا "يمنع غالبية الناس من التأسيس لوجود طويل الأمد هنا"، بحسب عنتابي.
ويضيف أن الهيئة "لم تُحسن إدارة إدلب كما يجب"، فمن الناحية الاقتصادية "تسيطر على كافة المفاصل وتمنع مفهوم الاقتصاد الحرّ في منطقة يُفترض أنها غير خاضعة لسيطرة النظام وتتبع مفهوم التجارة الحرّة".
وفق إحصائية أصدرها فريق "منسقو الاستجابة" في يوليو الماضي، بلغ عدد سكان إدلب (الإحصائية تشمل مناطق في ريف حلب الغربي التابع لحكومة الإنقاذ) نحو 4 ملايين و300 ألف شخص، بينما كان عدد سكان المحافظة قبل الحرب نحو مليون و800 ألف نسمة بحسب إحصاء حكومي أُجري عام 2010.
التركيبة السكانية في شمال غرب سوريا /تموز 2023 * بلغ عدد السكان في مناطق شمال غربي سوريا ضمن ثلاثة مناطق (محافظة إدلب...
Posted by منسقو استجابة سوريا on Monday, July 3, 2023
تهميش الجولاني
يعيش معظم سكان محافظة إدلب حالياً أوضاعاً إنسانية واقتصادية متردّية في ظل فقر المنطقة بالثروات الطبيعية وموارد الطاقة، وتعتمد الغالبية على الزراعات الموسمية المحلّية وبعض المشاريع الصغيرة.
ومنذ منتصف يونيو 2020 يتم التعامل بالليرة التركية داخل مناطق إدلب بدلاً من العملة السورية رغم عدم وجود نفوذ عسكري تركي واكتفاء أنقرة بإنشاء نقاط مراقبة عسكرية في ريف المحافظة.
ولطالما كان وجود "هيئة تحرير الشام" ذات الارتباط السابق بتنظيم القاعدة في إدلب، الذريعة الأبرز لدى روسيا بوجوب استعادة النظام السوري السيطرة على المحافظة، بينما دفعت تركيا خلال السنوات الماضية إلى بقاء إدلب على وضعها الراهن خوفاً من موجة لجوء جديدة على حدودها، وفقاً للمحلل السياسي حسن النيفي.
يقول النيفي لـ"ارفع صوتك" إن الخشية التركية من موجة اللجوء "جعلت أنقرة تدفع دائماً لفرض الهدوء في المحافظة، إضافة إلى استخدامها ورقة الجولاني للضغط والمساومة مع دمشق وموسكو معاً".
ويعتقد أن التفاهمات الروسية التركية حول إدلب "تضمن بقاءها بعيداً عن المعارك الكبيرة والاقتحامات التي تسمح للنظام السوري بقضم مناطق جديدة فيها، رغم أن هذه التفاهمات لا تمنع قوات النظام السوري من ارتكاب انتهاكات شبه يومية عبر قصف مناطق مدنية جنوب محافظة إدلب أو في قلب مركز المدينة".
في الوقت نفسه، يستبعد النيفي حدوث تغيّرات مؤثرة في ملف إدلب على المدى المنظور، مستدركاً "إلا إذا حدثت تطورات جديدة تخص قيام تركيا بعمليات عسكرية ضد الأكراد؛ حينئذٍ يمكن أن يحصل نوع من المساومة بحيث تغض أنقرة الطرف عن رغبة روسيا في السيطرة على إدلب".
من جهة ثانية، يتابع النيفي، أن تركيا "ليست بعيدة عن الحراك الشعبي الحالي في إدلب ضد الجولاني من باب تهميش ورقته ونفوذه بالتدريج"، والغاية برأيه "الوصول إلى صنع إدارة جديدة في إدلب تتماهى وقد تندمج لاحقاً مع مناطق سيطرة الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً في ريف حلب الشمالي".