صورة مركبة للشاب السوري سري حسان وهو في المستشفى بعد الزلزال، وفي ملابس التخرج من الجامعة بعد أشهر
صورة مركبة للشاب السوري سري حسان: في المستشفى بعد الزلزال، وفي ملابس التخرج الجامعي بعد أشهر

"تحت الأنقاض كنتُ أسال نفسي، هل من المعقول أن أموت قبل التخرّج من الجامعة؟.. كان التفكير بالأمل آنذاك قاسياً جداً"، يقول اللاجئ السوري في تركيا سرّي حسان وتّي، الذي نجا من زلزال تركيا وسوريا في فبراير الماضي، لكن حياته لم تعد كالسابق.

وكان سري (27 عاماً) قدم من مدينة سلقين التابعة لمحافظة إدلب شمال غرب سوريا، إلى تركيا عام 2017، قبل أن يتخرج من كلية الحقوق في جامعة حلب.

يقول إنه "واجه صعوبات جمّة، كالغالبية العظمى من السوريين الذين غادروا البلاد هاربين من القصف والتنكيل الذي مارسه النظام السوري عليهم منذ اندلاع الثورة عام 2011".

وبعد عامين من وصوله تركيا، استطاع العودة إلى مقاعد الدراسة، وحصّل قبولاً في كلية العلوم السياسية بجامعة ماردين جنوب شرق البلاد، مشيراً إلى أن اختياره "كان عملياً أكثر من كونه أكاديمياً، بحكم الأوضاع التي تعيشها سوريا".

التاريخ الفاصل في حياة سري يشبه تماماً التاريخ الذي غيّر حياة مئات الآلاف من السوريين والأتراك معاً، إذ بات السادس من فبراير 2023، رقماً لا يدلّ فقط على الزلزال المدمّر الذي ضرب الجنوب التركي والشمال السوري، إنما يشير كذلك إلى عشرات آلاف الضحايا، الذين قضوا تحت الأنقاض أو أولئك الذين تعرضوا لإصابات بليغة فقدوا فيها أحد أطرافهم أو أكثر.

كان سري في توقيت الزلزال موجوداً في مدينة أنطاكيا، في عطلة ما بين الفصلين الجامعيين، وفي تلك الليلة كان يسهر مع أصدقائه داخل بيت أحدهم، حيث دقت عقارب الساعة الرابعة و17 دقيقة، التي باتت توقيتاً عصياً على النسيان.

حاول الشاب السوري الهروب مع أصدقائه من الطابق الثاني في المبنى، وبينما كتبت لهم النجاة علق هو تحت إحدى الخرسانات، وبقي حبيس الأنقاض إلى أن هيّأت له مساعدة أصدقائه أن ينجو من الموت المحتّم. 

"نُقلت إلى مشفى الجامعة في أنطاكيا، وكانت قدماي أكثر الأجزاء تضرراً في جسدي، وهناك قرّر الأطباء بترهما بحكم النزيف الشديد وعدم وجود إمكانية للعلاج بسبب الأعداد الكبيرة من المصابين، وهذا ما رفضه أصدقائي"، يوضح سري.

ويصف تلك اللحظات: "كان الموت في المشفى أقرب إليّ مما كنت عليه تحت الأنقاض... نزيف داخلي شديد، وفشل كلوي، وغياب عن الوعي، وهنا تقرّر نقلي إلى مشفى آخر في مدينة مرسين".

في مشفى مرسين بدأت حالة سري تسوء أكثر من ذي قبل، وهناك قام الأطباء بعمليات غسيل للكُلى، ومحاولات لإنقاذ قدميه وعدم اللجوء لخيار البتر، غير أن الأعداد الكبيرة للمُصابين في المشفى دفعت القائمين إلى نقله مجدداً لمشفى آخر في مدينة إسطنبول.

يبيّن سري: "وصلت إسطنبول في 12 فبراير، فاقداً للوعي تماماً، وبعد خمسة أيام تمّت عملية بتر قدمي اليمنى من فوق الركبة، وحين استيقظت من الغيبوبة التي بقيتُ فيها أياماً، أخبرني الأطباء أنهم اضطرّوا إلى بتر قدمي كي لا أفقد حياتي".

ويذكر لنا المشاعر المختلطة التي عاشها بعد ذلك، حزيناً بسبب فقدانه إحدى قدميه، ومتفائلاً بالـ"الحياة الجديدة التي كُتبت له".

بقي في المشفى حتى تاريخ 18 مارس.  يقول سري: "زارني أقاربي قبل خروجي من المشفى، فطلبت منهم أن يسجّلوا قيدي في الفصل الثاني بالجامعة".

وكان قد بقي ثلاثة أشهر فقط تفصل بينه وتحقيق حلم التخرّج، ليقرر أن يتحدى ظروفه الصحية، من أجل إتمام الدراسة، مؤكداً على دعم أصدقائه ومساندتهم له.

تقدّم سري لامتحانات الفصل الثاني واجتازها بنجاح وتخرّج من الجامعة. واليوم يسعى لإيجاد عمل في مجال تخصصه، وهدفه إيصال صوت آلاف الناس الذين مرّوا بظروف أصعب من ظرفه، وتعرّضوا لإعاقات دائمة جراء كارثة الزلزال.

"هؤلاء لا يحتاجون فقط إلى الطعام والشراب، بل إلى تركيب أطراف اصطناعية، وتأمين فرص عمل توفر لهم دخلاً مادياً يستطيعون من خلاله مواجهة ظروف حياتهم الجديدة"، يؤكد سري.

مواضيع ذات صلة:

أبناء قمر حميدة ومحمد
أبناء قمر حميدة ومحمد | Source: MBN

" ثلاثة عشرة عاماً من الفراق عن ابني محمد، أُخبر خلالها أني فارقت الحياة، وعندما شاء القدر أن يعلم الحقيقة، وقفت عقبات كثيرة في طريق لقائنا... هرمتُ من شدة الحزن ولم يعد بإمكاني التحمّل أكثر، فوجعي أثقل من قدرة الجبال على تحمّله".. كلمات قالتها قمر الحسن، الوالدة التي دفعت ثمن فاتورة العقلية الذكورية حرماناً من فلذتيّ كبدها. 

بدأت قصة قمر عام 2005 حين ارتبطت بشاب من مدينة حلب السورية، وبعدما رزقت منه بطفلين (حميدة ومحمد)، قررت الانفصال عنه لأسباب عدة، فكان عقابها على هذا القرار حرمانها من صغيريها الذين كانا يبلغان حينها أربع سنوات وسنتين، وتقول "منذ ذلك الحين وأنا أشعر أن روحي نزعت مني، فعلت كل ما في وسعي كي أعثر عليهما، لكن باءت كل محاولاتي بالفشل". 

بعد اندلاع الحرب في سوريا، علمت قمر من عمّة ولديها أن والدهما اصطحبهما إلى تركيا، وأنهما لا يعلمان أنها على قيد الحياة، طلبت منها صوراً لتبرد ولو قليلاً نار الحرقة في قلبها، لكن بحسب ما تقوله لموقع "الحرة"، " كان طليقي يمنع ذلك، يرفض أن يزوره أي أحد لعدم طمأنتي عن حالهما، لا بل أكثر من ذلك كان يرفض أن يتحدث أي من أقاربه معهما عبر خاصية الفيديو كول كي لا يتم التقاط صورة لهما". 

منذ أن انتزع صغيريها من حضنها توقفت عقارب الفرح في حياة قمر، وتشرح "كيف لأم أن تتحمل العيش من دون أن تعلم مصير ولديها، كيف تتم معاملتهما، هل يأكلان ويشربان جيداً. أمضيتُ سنوات أحاول اختلاس ولو ساعة نوم يومياً، كثرة التفكير كادت أن توصلني إلى الجنون، وقبل عشر سنوات تزوجت من عنصر في مخابرات الجيش اللبناني، انتقلت للعيش معه في بلده وحصلت على جنسيته". 

رزقت قمر (35 سنة) من زوجها الثاني بثلاثة أولاد، تتراوح أعمارهم اليوم بين سبع وتسع سنوات، من دون أن يخفف ذلك من ألمها على حميدة ومحمد، وتقول " قبل الزلزال الذي ضرب تركيا في شهر فبراير الماضي، علمت ابنتي أنني على قيد الحياة من عمّتها، عندها أصرّت على التواصل معي، فسمح لها والدها بذلك شرط ألا تخبر شقيقها بالأمر، وبالفعل تلقيت اتصالاً منها، وحين رأيتها فقدتُ الوعي، شعرتُ أن معاناتي انتهت وأنه آن أوان الفرح، من دون أن أتوقع لوهلة أن ما ينتظرني أقسى بكثير مما مررت فيه". 

أخبرت حميدة (17 سنة) والدتها أنها ارتبطت بشاب لتعود وتنفصل عنه، وبأن كل حلمها أن تحتضنها، لكن قبل أن تتحقق أمنيتها لفظت آخر أنفاسها تحت أنقاض المبنى الذي كانت تسكنه في أنطاكيا، وتشير قمر إلى أنه بعد الزلزال اتصلت بها عمّة ولديّها لتعزيتها بوفاة ابنتها "كذلك فارق طليقي وزوجته وابنتهما الحياة، في حين كتب لابنهما وابني مزيداً من العمر". 

بعد الكارثة علم محمد (15 سنة) من عمّته أن والدته لم تمت كما سبق أن أخبره والده، وبأنها تسكن في طرابلس شمال لبنان، وعبر خاصية مكالمات الفيديو كان أول اتصال بينهما، وتشرح قمر "عندما رآني للمرة الأولى صدم، دقائق مرّت من دون أن ينطق بكلمة، قبل أن يجهش بالبكاء ويطلب الانتقال للعيش معي، لكن عمّه رفض بداية بحجة أنه من رائحة شقيقه"، وتضيف "يعاني محمد من درجة خفيفة من التوحد، وبحسب ما نقلته عمّته لي أن سبب ذلك يعود إلى الأدوية المهدئة التي كانت زوجة والده تعطيه إياها لأنه كان كثير الحركة في صغره". 

منذ أن تحدث مع والدته هرب محمد من منزل عمّه ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت الشرطة التركية تعيده إليه، بعدها اقتنع العمّ بأنه لن يهدأ ولن يستكين إلا في حضن والدته.

وتشرح الأم "بدأت أفكر في كيفية وصوله إلى لبنان كونه لا يملك جواز سفر، فكان الحل الوحيد عن طريق التهريب، استدنت المال وأرسلت المبلغ المطلوب إلى عمّه وبالفعل سلّمه قبل شهر ونصف الشهر إلى مهرّب لكن من دون أوراق ثبوتيّة ومن دون مرافق معه في الرحلة". 

على معبر باب الهوى، أوقف الشرطة التركية محمد، وتعلّق قمر "كنت أنتظره بفارغ الصبر، وإذ بي أصعق بالذي حصل، تم وضعه في دار أيتام في مدينة إسكندرون، طلبت من عمّه زيارته لكن انتظر نحو شهر كونه لا يملك المال لدفع كلفة التنقل، في حين وضعي المادي ليس أفضل حالاً منه، فزوجي تقاعد من المؤسسة العسكرية وراتبه لا يصل إلى خمسين دولار بعد انهيار قيمة العملة المحلية، وأنا مزينة شعر أحاول مساعدته بمصروف البيت من خلال العمل في بيتي". 

تصرّ إدارة الميتم بحسب ما تشدد قمر "على حضوري شخصياً مع أوراقه الثبوتية لاستلامه كونه قاصراً، وهذا أمر شبه مستحيل بالنسبة لي، أولاً كوني لا أملك المال للحصول على جواز وبطاقة سفر والأهم أن زوجي يمنعني من ترك أولادي الثلاثة والانتقال إلى تركيا والمكوث وحدي لحين تمكّني من العودة برفقة ابني الذي استحصلت على إخراج قيّد له يثبت هويته". 

لم يتحدث محمد مع والدته منذ إدخاله الميتم، وكما تقول "أخبرني عمّه أنه ينتظرني لإخراجه من هناك، وبين وضعه وحالة ابنتي الكبرى البالغة من العمر تسع سنوات أقف عاجزة"، وتشرح "قبل ست سنوات أصيبت بالتهاب في عينها، لاكتشف فيما بعد أن زميلها غرز قلما فيها، احتاجت حينها إلى زرع قرنية، لكن يبدو أن العملية باءت بالفشل". 

"ثلاثة عشر عاماً من إجباري على السير في قافلة القهر التي تشمل العديد من النساء لا لذنب ارتكبنه إلا لأنهن في مجتمع لا حصانة لهن فيه، يسمح للرجل بحرمانهن من أطفالهن فيما لو فكّرن يوماً الانتفاض والخروج عن الإطار المرسوم لهن ورفض الذّل والإهانة والعنّف"، تقول قمر مشددة "لا تنظير يحيط بوجعي ويشرح مدى تهشّم نفسيتي، ومع هذا يبقى أملي كبير بأن مدة زمنية قصيرة تفصلني عن الوصول إلى المحطة الأخيرة من رحلة معاناتي".