صنعاء- بقلم غمدان الدقيمي:

تقيم أسمهان علي، رئيسة قسم المختبرات في هيئة مستشفى الثورة العام بمدينة تعز، داخل المستشفى منذ 5 أيلول/سبتمبر 2015 وحتى اليوم. ورغم أن السكن يُستهدف بمختلف القذائف،  لكن لا بديل أمامها على الرغم من مرور أشهر لم ترَ خلالها أمّها وأسرتها.

ففي اليمن تواجه المرأة العاملة، والطبيبة على وجه الخصوص، عوائق ومنغصات وموانع اجتماعية ونفسية جمة.

وقد أضفت الحرب المستعرة في البلاد منذ أكثر من عام، على عمل الطبيبات في هذا البلد الفقير، مخاطر أكثر هولاً، وخلفت من الويلات والمآسي ما ضاعف من أعبائهن ومعاناتهن السابقة.

طبيبة وحيدة وليالي عصيبة

تروي أسمهان لموقع (إرفع صوتك) أنّه عندما اجتاح وباء حمى الضنك مدينة تعز في أيلول/سبتمبر الماضي، قررت العودة إلى هناك لمزاولة عملها من مدينة القاعدة القريبة (شمالي تعز) التي نزحت إليها في أيار/مايو 2015 بعد أن دمر قصف دبابة حوثية منزلهم في منطقة الحصب.

وتستذكر قائلة “قطعت مسافات طويلة مشياً على قدمي. وفي المستشفى قضينا ليالٍ عصيبة ومرعبة نتيجة أصوات المدافع والدبابات والقذائف التي استهدفت المشفى، وشربنا مياهاً طعمها سيء نتيجة الحصار الخانق.

وتتابع الطبيبة، التي لم تتجاوز العقد الثالث من عمرها "صُدمت بإقبال شديد للمرضى، وعدم وجود كادر ومستلزمات طبية". كانت أسمهان المرأة الوحيدة في المشفى لمدة شهر، قبل أن تنضم إليها ست زميلات تقيم معهن حتى الآن.

إنجازات وقصص حزينة

تسرد أسمهان الكثير من المآسي التي واجهتها في المستشفى كطبيبة عايشت الحرب منذ لحظاتها الأولى.

"توافد إلينا أكثر من عشرين ألف مواطن مصابين بحمى الضنك، أنقذنا الكثيرين منهم، فضلاً عن جرحى الحرب أغلبهم من المدنيين والأطفال".

استقبل المختبر منذ وصول أسمهان وحتى 20 آذار/مارس الماضي، 60 ألف حالة، وما زال الإقبال شديداً، على حد قولها، كونه المختبر المجاني الوحيد في كبرى مستشفيات المدينة.

وتروي الطبية قصصاً حزينة لأطفال ورجال ونساء وصلوا مصابين برصاص وقصف مدفعي وصاروخي، لكنهم سقطوا، إثر انعدام مادة الأوكسجين والأدوية والمستلزمات الطبية، نتيجة الحصار الذي عانت منه مديريات وسط المدينة، على حد قولها.

"كنت أدخل العناية المركزة فكأنني دخلت حضانة أطفال، إذ إن أغلب المرقدين من الأطفال، كالطفل فريد الذي أطلق عند وصوله المستشفى نداء (لا تقبروناش)"، حسب الطبيبة. (اشتهرت بعدها هذه العبارة في الأوساط الشعبية اليمنية).

وتوضح "ليلة وفاته (فريد) سحبت له دم أنا وزميل ممرض بصعوبة، وكانت آخر ليلة يشعر فيها بألم. توفي بعدها"، قالت أسمهان بحزن شديد.

أنقذني بقطرة دم

ذات يوم، بينما كانت أسمهان تمرّ في قسم الطوارئ، استوقفها شاب جريح وخاطبها "يا دكتورة أنقذيني بقطرة دم" ثم أغمض عينيه فيما يشبه الإغماء. كانت نسبة دم الطبيبة منخفضة لأنها سبق وأن تبرعت للكثيرين. نصحها الزملاء ألا تتبرع بالمزيد من الدم "لكنني صممت أن أنقذ حياته".

بعدها، أطلقت أسمهان حملة في المدينة للتبرع بالدم تحت عنوان "أنقذني بقطرة دم".

بكيت عليها بحرقه

في محافظة الحديدة غربي البلاد، لوحظ انخفاض عدد النساء المترددات لخدمات تنظيم الأسرة، وارتفاع حالات الإجهاض، وفقاً للدكتورة أشواق محرم، أخصائية نساء وولادة، ومديرة الصحة الإنجابية بالمحافظة.

وقالت الطبيبة لموقع (إرفع صوتك) إن انعدام المشتقات النفطية وانقطاع الكهرباء أدّيا إلى تدني الخدمات الصحية، وانتشار الملاريا والإسهال وحمى الضنك. "كان هذا محبطاً جداً".

وبأسف، أوضحت أشواق "عالجت إحدى الحالات التي كانت تعاني من العُقم. ومن شدة الانفجار الناتج عن غارات جوية (لطيران التحالف العربي بقيادة السعودية) استهدفت منطقة الدريهمي، سقطت المرأة من السرير وكانت حامل في الشهر السابع، فتوفيت هي وطفلها بسبب انفجار الرحم. بكيت عليها بحرقة".

أعجز عن الوصف

تعرض معسكر القوات الخاصة بمنطقة السبعين جنوبي العاصمة صنعاء لغارتين جويتين في شهري أيار/مايو، وأيلول/سبتمبر 2015، خلفتا مآسي مروعة، وتسببتا بإغلاق مستشفى الشرطة المحاذي للمعسكر الحصين حتى اللحظة، بحسب سماح علي، قابلة صحية في المستشفى.

وتضيف سماح في حديث لموقع (إرفع صوتك) "كانا يومين مرعبين، بعض الطبيبات أغمي عليهن عند سماع أصوات الانفجارات. أعجز عن وصف ذلك الرعب".

لم تكن ميؤوساً منها

وتروي طبيبات أخريات يعملن في منظمة (أطباء بلا حدود) قصصاً مؤلمة لمرضى كان يمكن إنقاذهم.

تقول الدكتورة سعيدة، طبيبة أطفال في مستشفى أطباء بلا حدود بمنطقة الحوبان شرقي تعز، فضلت التحفظ على اسمها الكامل، "وصل إلينا طفل سنّه 10 أعوام وكان في مرحلة متقدمة من المرض (التهاب السحايا). تضافرت عليه عدة عوامل سببتها الحرب وأفقدته حياته...".

وتتابع لموقع (إرفع صوتك) "كأطباء لا نستطيع القول بأن حالته كان ميؤوساً منها".

*الصورة: طبيبة يمينة تزاول مهنتها/تنشر بإذن خاص من منظمة أطباء بلا حدود لموقع (إرفع صوتك)

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".