مصر - بقلم الجندي داع الإنصاف:

اقتربت من بلوغ سن التقاعد، فلم يعد يفصلها عنه وهي في الـ57 من العمر سوى ثلاث سنوات فقط. يكاد جسدها أن يشكوها إلى منظمات حقوق الإنسان المحلية والإقليمية والدولية من كثرة الأمراض التي لم تترك مكاناً منه إلا واستوطنته. ومع هذا كله تظل الحاجة عفاف إبراهيم الشهيرة بـ"أم إبراهيم" تتساءل "هاعمل إيه لما أطلع معاش؟.. أنا واخده طول عمري على الشغل والشقا ومش هاقدر اقعد فاضيه كده".

هي جملة بسيطة قالتها أم إبراهيم بتلقائية شديدة، لكنها تحمل معانٍ معقدة وتعطي صورة واضحة عن معاناة امرأة مصرية وتجسّد ما لاقته من آلام استطاعت التغلب عليها بالصبر والرضا، حالها في ذلك حال غالبية النساء في القرى والريف وفي المناطق الفقيرة بالمدن، ومنها العاصمة المصرية القاهرة.

مسؤولية واجبة

تزوجت وهي بعمر 15 عاماً، ولم تكن مداركها تستطيع فهم معنى الزواج والمسؤولية. تم تسنينها (والتسنين هو إعطاء الفتيات سناً أكبر من عمرهن الحقيقي لإتمام الزواج بطريقة رسمية، وهذا نوع من الالتفاف على القانون الذي لا يسمح بزواج الفتيات قبل سن الـ18) كما هو العرف في هذه المجتمعات. عاشت مع زوجها، الذي كان يعمل سائقاً، سنوات الزواج الأولى كربة منزل، إلى أن مرض الزوج ولم يعد قادراً على العمل، فوجدت نفسها مضطرة لتحمل مسؤولية علاجه ومسؤولية أولادها الثلاثة، وكانوا لا يزالون صغاراً يتلقون تعليمهم في المدارس الحكومية.

رحلة البحث عن عمل

لكن كيف ستنفق على أبنائها؟ وما العمل الذي يمكن أن تقوم به وهي ليست متعلمة، فمن يضمن لها الوظيفة وليس معها شهادات تعليمية تؤهلها لذلك؟ أسئلة تبدو سهلة، لكن إجابتها صعبة جداً في مجتمع لا يحصل فيه الشباب المتعلمون على وظائف.

ورغم صعوبة التحدي، إلا أن أم إبراهيم، وبإصرار وطموح الأم الذي يمنحها فضيلة التضحية بكل شيء حتى بنفسها من أجل أبنائها، لم تتوقف عن البحث حتى وجدت عملاً في مستشفى جامعة عين شمس بالقاهرة، حيث إقامتها. كانت في الـ26 من العمر آنذاك.

كان يشغل بال أم إبراهيم تحديات كبيرة فهي مسؤولة عن الإنفاق على العائلة وتعليم أطفالها، ومساعدة ولديها على الزواج، ولربما الأصعب هو تجهيز ابنتها، آخر العنقود كما تقول، وتزويجها بعد انتهاء دراستها، وهو أمر مكلف جداً تحتار فيه الأسر متوسطة الدخل، بل وحتى ميسورة الحال.

دخل قليل ونفقات عالية

تروي أم إبراهيم لموقع (إرفع صوتك) قصة حصولها على عمل بالقول "ربنا لا ينسى عباده، وييسر لهم من يقف بجانبهم يساعدهم، ووفقني الله إلى رجل سهل لي العمل بأحد المستشفيات كعاملة وكان الأجر قليل.. يا دوب بقدر أجيب أكل الأولاد".

مع الوقت بدأت الحاجة عفاف بذكائها الفطري، تبحث عما يزيد لها دخلها. فأنشأت حيث تعمل "بوفيه" تقدم المشروبات للأطباء والمرضى والزائرين، وهو ما زاد من دخلها.

أداء الرسالة .. وعطاء بلا حدود

بلغت مسيرة الحاجة عفاف في العمل 31 عاماً حتى الآن، وكان زوجها قد توفي منذ ست سنوات. أدت الحاجة عفاف مهمتها وتمكنت من تحقيق هدفها حيث استطاعت تربية أولادها الثلاثة وتعليمهم ومساعدتهم في الزواج، وكان من حولها يخبرونها بذلك ويطلبون منها أن تستريح بعد رحلة معاناة طويلة خاصة بعد أن أصابتها الأمراض وأصبحت لا تستطيع الحركة إلا بالاعتماد على عكاز إلا أنها لم تفعل. فقد اعتادت أن تستيقظ كل صباح فتجد نفسها ترتدي ملابسها وتذهب إلى مقر عملها، تؤديه على الوجه الأكمل، وتساعد بعض المرضى الذين يجتمعون حولها، ومن قبلهم من الكادر الطبي، يتجاذبون معها أطراف الحديث والود.

أم إبراهيم ترى أن لها مهمة مستمرة مع أحفادها، البالغ عددهم تسعة، حيث تجد راحتها في الاستمتاع بمداعبتهم وإعطائهم المصروف، فهي تربيهم كما ربت من قبل آبائهم وأمهاتهم ليتواصل نهر العطاء متدفقاً بلا توقف ودون كلل أو ملل.

*الصورة: أحد الشوارع في مصر/shutterstock

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".