بقلم رفقة رعد خليل:

اعتاد تنظيم داعش على فرض قوانين تضرب الحاضر بمادة الماضي، بمعنى إظهار حجج دينية تاريخية لتحجيم ظاهرة معينة في راهننا اليوم. وتجسد هذا في آخر قرار له، وهو منع العوائل في الموصل من استخدام جهاز الستالايت، والدعوة بشكل صارم لتكسير هذا الجهاز كونه لا يمكن هبته أو بيعه، ووضع التنظيم 20 سبباً لتحريم اقتنائه و مشاهدة التلفاز. وطبعاً كانت هذه الأسباب الـ20 تخص بشكل قريب المواطن نفسياً وجسدياً، وتخص العامة أخلاقياً ودينياً.

ليس غريباً على العراقيين أن يُحرموا من استخدام هذا الجهاز، فقد منعوا من استخدامه من قبل حكومة النظام السابق أثناء فترة الحصار الاقتصادي وكان ذلك لأسباب معلومة تهدف لمنع اطّلاع العراقيين بشكل مباشر على أخبار العالم وما يتناقله الإعلام الخارجي حول العراق وحكومته. ورغم ذلك، كان الستالايت موجوداً في بعض المنازل، حيث كان ينصب بطريقة سرية ويتناقل العراقيون الأخبار منه بشكل سري. لكن مع داعش لن يكون هناك قابلية للاستخدام السري، خاصةً وأن التنظيم لا يهمه حرق البشر وقتلهم والتمثيل بهم.

والمثير للسخرية أن التنظيم وضع ضمن الأسباب الموجبة لمنع هذه الأجهزة صحة المواطن ومستقبله، والنسيج العائلي والتربوي لأهالي الموصل!

لكن المثير للتساؤل هو لماذا الآن رغم أن داعش يسيطر على الموصل منذ سنتين تقريباً؟

والسبب برأيي أن التنظيم كان يريد إيصال الضجة الإعلامية التي يثيرها تنظيم داعش في دول العالم المختلفة إلى المواطنين القابعين تحت سيطرته لعكس مقدار قوة التنظيم وتأثيره على الواقع السياسي العام، خصوصاً ونحن ندرك أهمية الجانب الإعلامي بالنسبة لتنظيم داعش الذي اعتمد عليه بشكل أساسي للترويج والجذب.

أما اليوم، فقد منع داعش أجهزة الستالايت في أماكن سيطرته خوفاً من أن يرى الناس الهزائم التي يتعرض لها التنظيم، وأن يروا انحسار سيطرته وتراجعه في بعض المناطق. وهو مؤشر كذلك على خوف التنظيم مما يتعرض له من حرب إعلامية مضادة وخشيته من أن تؤثر على وجوده داخل الموصل، وتُسرع في هزيمته في كل دول المنطقة.

ومن السخرية أيضاً، أن تنظيم داعش الذي يقتل معارضيه بوضعهم في خزانات مليئة بحامض النتريك، فتذوب عظامهم ولحمهم وسط دهشة واشمئزاز الدنيا، يقول إنه منع جهاز الستالايت بحجة أن القنوات الفضائية تروج للجرائم من خلال الأفلام والتقارير والأخبار!

وليس غريباً علينا هذا التناقض وسط جميع التناقضات التي عاصرناها معهم.

تصوروا أن داعش يقول أن هناك دراسات طبية أثبتت مضار مشاهدة الستالايت على العيون وفقرات الظهر وعلى الصحة النفسية، وتناسى تنظيم داعش أن هذه التقارير تأتي من مختبرات ومؤسسات تابعة لمن يسميهم بالملحدين والمشركين!

ومن السخرية أيضاً، ادعاء التنظيم أن من أسباب المنع ما يخص النساء. فالتنظيم يرى أن الستالايت يدعو إلى السفور والتبرج ويدعو النساء للتشبه بالرجال والمساواة معهم والاختلاط بهم. وأن يصدر هذا الكلام من تنظيم اغتصب آلاف النساء، وهجّر عشرات الآلاف منهن ليسكنّ في الخيام، ويفقدن المُعيل، ويغالبن الزمن من أجل لقمة عيش لأبنائهن!

ويسهب التنظيم في ذكر أسباب أخرى من تبذير للمال وعرض الكفر والمعاصي وتضييع للوقت والفراغ وتحريم للموسيقى والتمثيل، باعتبار أن التمثيل من اختراع النصارى "الأعداء" المالكين لهذه القنوات وتسخيرها لغزو أفكار الناس و تضليلهم.

إن الاهتمام بوضع هذه الشروط وتعميمها وتحديد العقوبة وملاحقة المخالفين يعكس الأهمية التي يوليها داعش للإعلام ومدى تأثره بالحرب ضده. وإن كل ما اتخذه من تدابير هي إجراءات تصب في جهده العسكري لكسب المزيد من الوقت، ومحاولة منه لإحكام السيطرة لأطول فترة ممكنة على المناطق التي يتواجد فيها عناصره.

ولا تختلف هذه المحاولات كثيراً عن جهد التنظيم ومحاولته الاحتماء خلف المدنيين وتركيز ثكناته داخل المناطق السكنية. ولربما في قابل الأيام سيحاول التنظيم استخدام وسائل أكثر بدائية في محاولة منه للتشبث بالسيطرة على هذه الأماكن.

عن الكاتبة: رفقة رعد خليل، كاتبة عراقية وباحثة في فلسفة الحرب، وحاصلة على شهادة الماجستير في الفلسفة. تكتب لعدد من الصحف العراقية وموقع "الحوار المتمدن".

لمتابعة الكاتبة على فيسبوك إضغط هنا.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتبة ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.

 

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".