الجزائر – بقلم أميل عمراوي:

يتفق المتتبعون لموضوع  الإرهاب بالجزائر أن "ميثاق السلم والمصالحة" الذي صادق عليه الجزائريون في استفتاء شعبي يوم 29 سبتمبر/أيلول 2005 كآلية لمواجهة تداعيات الأزمة الأمنية، وضع حدا لسنوات الإرهاب التي حصدت أرواح مئات الآلاف من الجزائريين.

في المقابل، يؤكد حقوقيون أن ملف الأطفال المولودين بالجبال إثر علاقات غير قارّة ولا قانونية بين الإرهابيين والمختطفات من الفتيات اللاتي اغتصبن وهن أسيرات عند المسلحين لم يؤخذ مأخذ الجد ضمن تدابير المصالحة تلك.

ويعاني أطفال الجبل من مشاكل نفسية معقدة، ناهيك عن المشاكل الاجتماعية التي تترتب عن عدم امتلاكهم لوثائق الحالة المدنية التي تثبت جنسيتهم الجزائرية والتي تبقي الأبواب موصدة أمامهم، حيث حرمت الأغلبية منهم من التعليم، وهو في حد ذاته مشكلة يطالبون بوجوب إعادة النظر فيها.

قانون الأسرة.. الحل المؤقت 

وتقدر منظمات حقوقية عدد أولئك الأطفال ما بين 600 و700 طفل. لكن المحامي مروان عزي، الذي ترأس خلية متابعة وتطبيق ميثاق السلم والمصالحة الوطنية، يؤكد لموقع (إرفع صوتك) أن الهيئة التي يشرف عليها لم تعالج إلا عددا ضئيلا من الملفات المتعلقة بهذا الموضوع، رغم أن العدد كبير ويتراوح بين 500 و 600 ملف.

"فعلاً، لم تدرج تدابير المصالحة الوطنية ملف هؤلاء الأطفال الذين ولدوا في معاقل العمل المسلح"، يقول عزي الذي أكد استقبال الهيئة عشرات الملفات المتعلقة بالأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و15 سنة، في الفترة بين 2006 و2010، "لكننا اضطررنا لمعالجتها ضمن قانون الأسرة الذي يتيح بعض الحلول القانونية وفق القواعد العامة".

لكن الرئيس السابق لخلية متابعة وتطبيق ميثاق السلم والمصالحة الوطنية (منظمة غير حكومية) لم يخف أن عدد الحالات بقيت عالقة نظرا لعدم توفر الشروط القانونية. "لقد قدمت لرئيس الجمهورية ملفا كاملا يتضمن اقتراح آليات جديدة لمعالجة هذه القضية".

أما بخصوص الملفات العالقة، فكشف عزّي أن الهيئة التي كان يترأسها حاولت معالجة أكبر عدد منها مستفيدة من التعديلات القانونية التي أدخلت على قانون الحالة المدنية سنة 2005، والتي تتيح للأم تقديم الجنسية لابنها، وهو أمر "سهّل مهمتنا، لكن تبقى عديد الملفات من دون حل إلى حد الساعة".

 أطفال الجبل

 عتبة وأميمة وهارون أطفال ولدوا بجبال الجزائر، أسعفهم الحظ في الحصول على الجنسية إثر تعديل قانون الحالة المدنية، ولولا ذلك لما تمكنوا من الدخول إلى المدرسة، كما يقول سي أحمد باكير خال الأطفال الثلاثة لموقع (إرفع صوتك).

"أحمد الله على كون أبناء أختي التي اغتصبت أواخر سنوات التسعينيات يتمتعون بكامل حقوقهم المدنية. لقد كان الأمر صعبا للغاية".

يصف الرجل قضيته بمثابة صراع مرير ضد قوانين "وضعية لا تراعي حالات شاذة كهذه التي نعيشها نحن".

"ما ذنبهم؟ كيف يمكن التغاضي عن التكفل بهم ولو نفسيا فقط؟".

الضحايا في ضوء "قانون الارهاب"

وفي حديثها لموقع (إرفع صوتك)، تحذر الأستاذة كريمة طبّال وهي أخصائية نفسية تعني بمعالجة الصدمات النفسية لدى الأطفال، من خطورة تخلي الدولة عن التكفل بهذه الفئة من الجزائريين.

وتؤكد أنّه لا يمكن للدولة أن تتخلى عن هؤلاء "ولو فعلت لأعدت جيلا كارها للوطن حاملا في صدره غلاًّ لا يقل مرارة عن الغل الذي يحمله الإرهابي للمجتمع".

وتكشف المختصة النفسية التي سبق وأن تكفلت بالكثير من الحالات ضمن نشاطات تقوم بها جمعيات رعاية الطفولة أن "رفع اليد عن هذا الملف يعني تكويننا لجيل آخر متطرف".

وتشير إلى أن هؤلاء قد يشكلون  قنابل موقوتة مشبعة بهاجس الانتقام والنقمة على واقعهم الاجتماعي، ويصبحون مشحونين بالرغبة في الرد على الواقع بسبب شعور النقمة واليأس الذي يعتريهم ويجعلهم مستعدين لارتكاب أفعال منافية للإنسانية قوامها العنف والتطرف والانحراف و تبني أفكار إرهابية.

وصدمت الصور التي بثها التلفزيون الجزائري مطلع السنة الماضية الرأي العام الجزائري، حيث بث التلفزيون الرسمي صورا لإرهابي تم إلقاء القبض عليه رفقة عائلته المكونة من زوجته وخمسة أطفال لم يبرحوا جبال ولاية جيجل قط.

وجاء في بيان لوزارة الدفاع الجزائرية آنذاك أن "عائلة هذا الإرهابي عانت الأمرين بانتماء والدهم إلى الجماعات الإرهابية، مما فرض عليهم العيش في ظروف قاسية ومزرية محرومة من كل ضروريات الحياة. فمنذ أكثر من 20 سنة والأب الإرهابي حرم أبناءه من حقوقهم المادية والمعنوية بعدم تسجيلهم في الحالة المدنية. بقوا محرومين من التعليم والعلاج، منعزلين عن الحياة الطبيعية بغابة معزولة بالجبل وكأنهم رهائن ضحايا الجهل والتعصب والأنانية".

*الصورة: "لا يمكن للدولة أن تتخلى عن هؤلاء"/وكالة الصحافة الفرنسية

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".