بقلم مفيد عباس:



مع اقتراب كل عام دراسي جديد، تهب رائحة نادرة ومميزة كروائح كثيرة موسمية. هي أيضا موسمية تنتشر كلما قصر النهار وانخفضت درجات الحرارة وبدأت الغيوم تغطي بحياء عين الشمس. فنشم عطرا مركبا من رائحة "المسّاحات والمقطاطات والمسطرات والدفاتر أبو الستين وأبو ثلاثين وأبو المية والجلادات والكابسات وقناني الصمغ والأقلام الرصاص وغيرها من القرطاسية.

ولا أعلم، هل هي فعلا رائحة أم هي إحساس مرتبط بظرف زمان، تزحف معه ذكرياتنا المدرسية  التي لم يمحُها ما جاء بعدها من ظروف. فنستحضر، أنا وزملائي، أول يوم لنا في المدرسة، كله أو جزء منه. وترتفع أمام أعيننا صور المعلمين والمعلمات، القاسين منهم والقاسيات، والطيبين والطيبات، المدراء والمعاونين، درس الرياضة و "تراكسوداتنا الهمايون أو البازة الصفراء"، وقليل منها حمراء، والتي تخيطها أمهاتنا أو جاراتنا بمكائن خياطة ماركة الرافدين أو "سنگر". و "بوتينات" باتا البيضاء.

نتذكر كذلك استلام الكتب والدفاتر والمستلزمات الأخرى مجاناً، حيث نفرح بها ونشتري لها أوراق التجليد والصمغ بأسعار زهيدة جدا من مكتبة الخياط (وكيل وزارة التجارة في منطقتنا)، و"نجلدها" بمعاونة آبائنا وأمهاتنا أو اخواننا واخواتنا الأكبر عمرا.



أول يوم "رحت بي" للمدرسة، رفقة صديقي حسن هادي، كان أول مناسبة تستدعي مني الخوف، لأنه كان أول يوم ابتعد فيه عن البيت لوحدي ولأربع ساعات و300 متر هي المسافة التي تفصل البيت عن المدرسة. وابتدأ المشوار، مشوار الدراسة ومشاوير الخوف. كان هذا اليوم بمنتصف السبعينيات، العام الدراسي 1975-1976، عندما كانت إلزامية التعليم بعنفوانها وكان هناك برنامج لمحو الأمية.

كانت الجدية بالتدريس جزءاً من برنامج حكومي يهدف لخلق جيل متعلم وواعٍ، منسجما مع برامج تنموية وخطط انفجارية كانت تنفذ آنذاك. لكن هذه الجدية ما لبثت أن تراخت وضعفت مع بداية حرب إيران، كما حدث في العديد من المؤسسات الحكومية الأخرى، لأن التركيز بدأ ينصب على المؤسسة العسكرية. بل ذهب أكثر من ذلك إلى عسكرة المجتمع المدني، بما فيه المؤسسات التربوية. 
لذلك، أعتقد، أن الجيل الوحيد الذي لن نجد فيه أميا واحدا حتى في أقصى قرى العراق هو الجيل المولود في الفترة بين أواخر الستينيات ومنتصف السبعينيات. وكلما ابتعدنا عن هذا الجيل، صعودا أو نزولا، سنلحظ ارتفاعا بنسبة الأمية.

ما زلت متواصلا مع أصدقاء الابتدائية، الذين هم أصدقاء "الطرف" والمحلة، رغم الظروف التي حلت بنا وابتعادنا عن بعضنا. لكننا متواصلين في المناسبات المختلفة. وما زلت أتباهى بصديقي الأول دوما على الصف أحمد صالح، واستمرَّ أولاً حتى في كلية الطب. وحتى وهو هناك بعيدا عن العراق، عندما يؤلمني اصبعي الخنصر مثلاً، أتصل به وأسأله:

اصبعي يوجعني، "خو مو عندي قلب"؟


يضحك هو ويجاوبني:

"همزين وجعك اصبعك حتى أسمع صوتك".


نضحك كثيرا حين نستذكر أيام المدرسة، بمرها وحلوها، رغم أن المر يتضاءل، فالعقل خدّاع يمحي الصور الحزينة ويبقي الجميلة والمفرحة. فنرى الصفوف الصغيرة كبيرة، والساحة المصبوبة بالإسمنت كأنها تارتان، و"العلوية" (عصا أستاذ فخري) نراها باقة من الزهور يحملها المعلم الأكثر قسوة.


ونضحك أكثر، على جوابي العتيد عندما يسألوني:

"شطلعت؟"، وأجاوبهم:

صديقي طلع أول!



نتذكر كل هذا، ونحن نرى أبناءنا وهم يحملون حقائبهم، متجهين للمدارس، متأملين أن يحصلوا على فرص تعليم أفضل مما حصلنا عليه نحن، ومستقبل زاهر يستحقه أبناء وطن يمتلك ثالث أكبر احتياطي نفطي في العالم .

وكلكم عيوني.

 عن الكاتب: مفيد عباس، ناشط مدني عراقي ومدوّن في وسائل التواصل الاجتماعي. كتب لجريدة العالم البغدادية. 

لمتابعة مفيد عباس على فيسبوك إضغط هنا. وعلى تويتر إضغط هنا.

الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".