متابعة علي عبد الأمير:

لا تترد قاضيات عراقيات عن ربط اتساع ظاهرة العنف الأسري بتدهور الوضع الأمني والإقتصادي في البلاد. فتكون القسوة المحركة لذلك العنف صورة مصغرة لمشهد أوسع يكاد يضع القوى الأساسية في المجتمع تحت ضغط من ضرورة المراجعة ودق ناقوس الخطر.

وبحسب موقع "السلطة القضائية الإتحادية"، فقد أكدت قاضيات اتساع ظاهرة العنف الأسري في البلاد، مشيرات إلى أن 90 في المئة الضحايا في الدعاوى المعروضة كن من النساء.

وحيال ذلك تشكلت "محكمة العنف الأسري"، لكنها وعلى الرغم من أهميتها، بحسب القاضية خالدة كولي التي تؤكد أن الغرض من تأسيس هذه المحكمة "هو المحافظة على العلاقات والروابط الاجتماعية وحماية الأسرة والطفل من العنف"، إلا أنها ظلت من دون قانون خاص بها، وتفتقر إلى أماكن احتجاز للموقوفين على خلفية ارتكابهم تلك الجرائم، فضلا عن عدم وجود قانون خاص للعنف الأسري، إلى جانب حضور نصوص تتعارض مع مفهوم المحكمة منها حق الزوج بـ"تأديب زوجته".

المحكمة، تتكون من قاضي تحقيق ونائب مدعٍ عام وقاض، فضلا عن ضمها قسم حماية الأسرة والطفل التابع لوزارة الداخلية والذي يضم عددا من الضابطات.

وكانت وزارة  الداخلية قد استحدثت العام 2009 "مديرية حماية الأسرة والطفل من العنف"، انسجاماً مع حقوق الأسرة وخاصة المرأة والطفل التي كفلها الدستور العراقي لسـنة 2005 لكل الأفراد في المواد (14، 15) وللفرد والأسرة في المواد (29، 30)، والتي "تعتبر الأسرة أساس المجتمع وتحافظ الدولة على كيانها وقيمتها الدينية والأخلاقية"، وتعطي الفرد الحق في الحياة والأمن والحرية وتمنع كافة أشكال العنف والتعسف والتمييز، وتلتزم بالمعاهدات والاتفاقات الدولية التي صادق عليها العراق وتتعلق بالأسرة والمرأة والطفل.

ما "الأسرة" وما "العنف الأسري" قانونا؟

وتقدم المديرية التي تضم مقرا عاما و16 قسما، إثنان في جانبي الكرخ والرصافة من العاصمة، وقسم في كل محافظة، تعريفا لـ" العنف الأسري"، بكونه كل ما يتضمن "الاعتداء الجسدي أو الجنسي أو النفسي أو الفكري أو الاقتصادي الذي يرتكب، أو يهدد بارتكابه، من قبل أي فرد من أفراد الأسرة ضد الآخر ويكون إما (جنحة أو جناية أو مخالفة) وفقاً للقانون".

وتبيّن القاضية كولي أن "القانون المدني ووفق المادة 39 حدد أطراف الأسرة بالأب والأم والأولاد والجد والجدة فقط"، موضحة أن مصادرة الأفكار والآراء داخل الأسرة تعتبر من قضايا العنف الأسري وتمثل ضررا أدبيا ونفسيا يقع على الشخص، أما العقوبات فعادة ما تكون "الحبس أو الغرامة تنفيذا لقانون العقوبات العراقي".

لكن القاضية كولي تستدرك أن "القوانين الموجودة الآن لا تعالج العنف الأسري حيث  تتعامل مع الجميع والأسرة تحتاج إلى خصوصية معينة". أما آلية تقديم الشكوى فهي تبدأ بتقديم طلب من صاحب العلاقة إلى قاضي التحقيق وبعدها يحال إلى قسم حماية الأسرة والطفل في مركز الشرطة وبعدها يحال إلى قاضي الحكم.

أين يذهب المعنفون؟

وتقرّ محكمة العنف الأسري بعقبة تتمثل بعدم وجود دور لإيواء المعنّفين من أطفال أو نساء، وأن "من الخطأ توقيف متهم بهذا النوع من الجرائم مع متهمين بالإرهاب"، مستدركة أن مقر التوقيف الخاص بالمحكمة في مركز شرطة الشعب مكتظ بالموقوفين والمحكومين، و"من غير الممكن أن نوقف شخصا لديه مشكلة مع زوجته في هذا المكان لما له من آثار نفسية سلبية على الزوجين. أما إذا كانت المرأة هي المذنبة فإن الصعوبة أكبر في توقيفها مع متهمات في جرائم خطرة فضلا عن نظرة المجتمع السيئة إلى المرأة التي تدخل السجن".

الرجال والنساء: أيهما أكثر عنفا؟

وفيما توضح المحكمة أنّ 90 في المئة من قضايا العنف الأسري تكون بحق المرأة، لكنها سجلت حالات يكون الرجل هو الضحية.

فقد أعلن فرع المحكمة في بغداد- الكرخ عن تسجيل دعاوى اعتداء وقعت على رجال من قبل زوجاتهم، مؤكدة أن هذه الحالات تتراوح بين محاولة قتل والتهديد والضرب المبرح، إضافة إلى خيانة أمانة.

وبحسب قاضية تحقيق العنف الأسري، بيداء كاظم، فإن إحدى الدعاوى تتعلق بمحاولة امرأة قتل زوجها مستغلة نومه، لكن سكينها أصاب كتفه ما أدى إلى إصابته بجروح. كما وصلت دعوى أخرى إلى المحكمة من رجل يدّعي أن زوجته تهجمت عليه وعلى أمه بسبب خلافات عائلية، وإن "آثار كدمات ظهرت على وجه الزوج وأمه حين حضرا أمام المحكمة".

وتشير المحكمة إلى تلقيها دعاوى تهديد بالقتل تقع على رجال من زوجاتهم، كما وردت دعاوى كثيرة تتعلق بخيانة الأمانة من قبل نساء بحق أموال أزواجهن.

وتوضح "مديرية حماية الأسرة والطفل من العنف" التابعة لوزارة الداخلية، أنواعا من العنف الأسري شهدها العام 2014 وعلى النحو التالي:

- اعتداء الزوج على الزوجة: 54 %

- اعتداء الزوجة على الزوج:   7 %

- الاعتداء ما بين الإخوان والأخوات:  5 %

- اعتداء الأبناء على الأب والأم:   6 %

- اعتداء الأب والأم على الأبناء:  12 %

اعتداءات أخرى:    16 %.

*الصورة: "القوانين الموجودة الآن لا تعالج العنف الأسري"/إرفع صوتك

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".