بقلم علي قيس:

هناك طفل في الـ12 من عمره، والده متوف ويسكن في شارع الصناعة (وسط بغداد)، يعاني من مرض التحسس من الضوء في عينه، الطبيب أخبر عائلته أنه قد يفقد البصر إذا تعرض لضوء قوي. قام زوج والدته بحبسه في الشمس كي يفقد بصره، ويستغله في عملية التسول للحصول على المال، وفعلا فقد نظره بنسبة 90 في المئة.

هذه الحالة يرويها مدير الشرطة المجتمعية العميد خالد المحنا وقد عالجتها مؤخرا مديريته.

ويشير المحنا إلى أن الشرطة تلقت إخباراً عن الحالة من قبل أصحاب المحلات، وتمّ إلقاء القبض على زوج الأم وإيداعه في السجن حتى اكتمال الإجراءات القضائية، وأودع الطفل في أحد دور رعاية الدولة.

العنف الأسري في العراق

يعرّف علماء الاجتماع والنفس، العنف، بأنه عملية إلحاق الأذى بالشخص سواء كان ماديا مباشرا أم لفظيا، ويندرج ضمن ذلك العنف الأسري، بنوعيه المقصود (ضرب الطفل من قبل الوالدين، أو تعنيف المرأة)، وغير المقصود (بعض سلوكيات الإهمال أو عدم توفير بيئة عيش مناسبة للأسرة).

اقرأ أيضاً:

10 أرقام وحقائق مفزعة عن العنف الأسري في الدول العربية

المرأة المغربية تتعرّض للعنف ومنظومة الحماية ضعيفة

ويرى مختصون في هذا المجال أن العنف في العراق شهد تصاعدا واضحا خلال السنوات الأخيرة، ويعزون سبب ذلك إلى غياب التشريعات القانونية التي تعالج العنف الأسري، إضافة إلى شبه غياب الدور الحكومي في هذا الملف.

"في جميع دول العالم المتقدمة هناك حماية للطفل والمرأة داخل الأسرة وخارجها، وهذا للأسف غير موجود في العراق"، يقول أستاذ علم النفس في الجامعة المستنصرية جاسم الساري لموقع (إرفع صوتك)، مضيفا أن المؤسسات المعنية بحماية الطفل سواء منظمات المجتمع المدني أو الحكومية لا تمتلك تشريعا، بإمكانها تطبيقه لحماية الطفل، ودور الشرطة المجتمعية (مديرية تابعة لوزارة الداخلية، ومسؤولة عن مكافحة العنف الأسري) هو على مستوى النداء أو الدعوة التي يرفعها المعنف، لكن ليس على مستوى الإلزام القانوني بمنع الأذى.

ويتابع أن هناك ورشا نقاشية ومؤتمرات لبحث موضوع العنف الأسري، لكن كتشريعات ومواد قانونية تحد من العنف، فهي غير موجودة، موضحا أن ما تلعبه الشرطة المجتمعية من دور في مكافحة العنف الأسري بسيط جدا، "معظم المواطنين لا يعرفون ما طبيعة هذه القوة أو دورها وما هي القوانين التي تعمل بها".

وقد تلعب الأعراف السائدة في المجتمع العراقي سواء الدينية أو العشائرية، يضاف لها ضعف التشريع دورا في جعل مساحة عمل الشرطة المجتمعية صغيرة جدا، بحسب أستاذ علم النفس، الذي يرى أن "دور البرلمان يكاد يكون غائبا"، مضيفا  أن المؤسسة التشريعية هي نتاج المجتمع العراقي وتحمل نفس العقول، "لذلك هي تفكر كما يفكر المجتمع، ويغيب عنها أهمية تشريع قوانين لحماية الطفل أو الأسرة".

الشرطة المجتمعية تعمل بدون قانون

بدوره يؤيد، مدير عام مديرية الشرطة المجتمعية العميد خالد المحنا، ما ورد على لسان الساري. ويقول في حديث لموقع (إرفع صوتك) إن هناك ضعف في الجانب التشريعي الذي يغطي عمل المديرية لكن ذلك لم يمنع مديريات الوزارة من ممارسة دورها في حماية الأسرة والطفل، "ومع ذلك فإننا نحتاج لدعم أكثر من خلال التشريعات، وبالأخص قانون حماية الأسرة والطفل المعروض على البرلمان".

وعن طبيعة عمل مديريته يوضح المحنا أن الشرطة المجتمعية تعمل ضمن استراتيجيتين، الأولى حماية الفئات الضعيفة في المجتمع ومنها المرأة والطفل، ومعالجة حالات العنف الأسري، والأخرى حملات التوعية والتثقيف في المجتمع.

وتضم وزارة الداخلية ثلاث مديريات مختصة بمكافحة العنف الأسري، هي مديرية شرطة الأحداث ومديرية حماية الأسرة ومديرية الشرطة المجتمعية.

برلمان التمييز بين الجنسين؟

وتؤكد مقررة لجنة المرأة والأسرة والطفولة النيابية، ريزان الشيخ، ضعف الجانب التشريعي في موضوع حماية الأسرة من العنف، مشيرة في حديث لموقع (إرفع صوتك) إنّ المسؤول الأول عن واقع ملف العنف الأسري هي السلطة التشريعية وخاصة لجنة المرأة والأسرة والطفولة. "لدينا محكمة العنف الأسري وجهاز الشرطة المجتمعية لكنها لا تمتلك قوانين تعمل على أساسها".

وتحمّل الشيخ مجلس النواب خصوصا كتلة "التحالف الوطني" مسؤولية عدم التصويت على مشروع قانون "حماية الأسرة والطفولة"، رغم اكتماله وقراءته قراءة أولى قبل عامين، موضحة أنّه منذ اكتماله (قانون حماية الأسرة والطفولة) قبل سنتين، عقدت اللجنة اجتماعات مع رؤساء الكتل واللجان لتمرير القانون، "لكن حتى هذه اللحظة لسنا مطمئنين من أنه سيمر، لأن بعض النواب وخصوصا في التحالف الوطني يرفضون القانون، ويقولون إنه تدخل في الخصوصية الدينية والاجتماعية للعوائل العراقية".

وتعتقد مقررة لجنة المرأة والأسرة أن التمييز بين الجنسين موجود لدى رؤساء الكتل وبعض أعضاء مجلس النواب، فلا توجد امرأة في هيئة رئاسة البرلمان ولا في رئاسات الكتل، منتقدة تعامل أعضاء البرلمان مع المواضيع المتعلقة بالمرأة أو الأسرة بقولها "معظم القوانين تراعى فيها مصالح الرجال على حساب المرأة، بل حتى الاهتمام بلجنة المرأة والأسرة غير موجود، فهي اللجنة الوحيدة غير مكتملة النصاب كونها تضم ستة أعضاء فقط من أصل ثمانية، بالتالي لا نستطيع التصويت على أي قرار أو توصية".

*الصورة: "لدينا محكمة العنف الأسري وجهاز الشرطة المجتمعية لكنها لا تمتلك قوانين تعمل على أساسها"/وكالة الصحافة الفرنسية

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".