بقلم حسين الوادعي:
ولدا في نفس السنة وفي نفس الشهر (تموز/يوليو 1918م).
عاشا في جنوب أفريقيا تحت نيّر الفقر والجوع والتفرقة العنصرية التي شتتهم في تجمعات عرقية.
ولأن نظام التفرقة العنصرية كان مهموما بتكريس سيطرة الأقلية البيضاء (15 في المئة من السكان)، عانى الأول في دراسته حتى حصل على ليسانس الحقوق بالمراسلة بعد مسيرة تعليمية مضطربة. بينما توقف الثاني عند الشهادة الابتدائية واعتمد بعدها على التثقيف الذاتي.
اقرأ أيضاً:
لماذا تجنح فتيات عراقيات نحو الإرهاب؟
هل يمكن أن ننقذ الأطفال والنساء الذين يتعرضون للعنف؟
لا تذكر جمهورية جنوب إفريقيا إلا ويذكر اسميهما. الأول هو المناضل العالمي ضد التفرقة العنصرية نيلسون مانديلا، والثاني هو الداعية العالمي صاحب القدرات الاستثنائية في المناظرة والنقاش أحمد ديدات.
نفس البيئة والتحديات تقريبا أنجبت شخصيتين مختلفتين في الفكر والمشروع.
كان مانديلا المحامي والمناضل المدافع عن حقوق الأغلبية السوداء رمزا للتسامح والتعايش بعد خروجه من السجن، لأنه أدرك أن حقوق هذه الأغلبية لن تكون بعزل الآخرين أو قهرهم، وإنما بدولة ديموقراطية قائمة على المواطنة المتساوية والتعايش. وكان ديدات الفارس الذي لا يُشق له غبار في الدفاع عن العقيدة والدفاع عن تفوق الإسلام على الأديان والأيديولوجيات كلها.
لكن الفرق بينهما أن مانديلا شخصية عالمية متجاوزة للإيديولوجيات والعقائد والعرقيات، بينما ديدات شخصية مشهورة ومبجلة عند المسلمين فقط. مانديلا رمز للحرية أينما ذهبت. بينما أحمد ديدات رمز محصور بمجموعة دينية معينة. كان مانديلا مشغولا بتأكيد التعايش والتشابه، بينما ركز ديدات على الصراع والاختلاف.
هل لدينا كمسلمين حالة عجز عن تقديم شخصية مثل نيلسون مانديلا؟
ولماذا أغلب أبطالنا ورموزنا يظلون محصورين داخل الهويات الدينية أو العرقية الضيقة وغير قادرين على تجاوز الهويات الضيقة والنفاذ إلى هوية إنسانية جامعة؟
كلهم بالطبع رموز كبيرة لها حضورها وتأثيرها وقيمتها، لكنها لم تستطع أن تعبر عن نفسها ومجتمعاتها بلغة القيم الكونية الكبرى مثل الحرية والمساواة والعدالة والديموقراطية.
بين 1924 و1969، عاش في جنوب أفريقيا الإمام عبد الله هارون، أحد أبرز المناضلين ضد التفرقة العنصرية. كانت القضية بالنسبة له واضحة: "القضاء على التفرقة العنصرية" من أجل حياة كريمة. لكن تأثره بأفكار الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية الباكستانية، وكانت في ذروة صعودها في أربعينيات القرن الماضي، جعلته يرى القضية قضية "الجماعة المسلمة" فقط، وحرمته من القدرة على التعبير عن القضية بمصطلحات تتجاوز الهوية الدينية، وربما حرمنا نحن من تكوين أول مانديلا مسلم.
شيء شبيه بهذا حصل في الهند. ناضل غاندي ومحمد علي جناح معا عبر حزب المؤتمر لنيل استقلال الهند وتأسيس دوله علمانية واحدة لكل الهنود بمختلف دياناتهم. لكن في منتصف الطريق قرر جناح أن الحل في دولة مستقلة للمسلمين لتكون أول دولة تقام على أساس ديني في العصر الحديث بعد إسرائيل. وكما خسرنا فرصة تكوين مانديلا المسلم، خسرنا فرصة ظهور غاندي المسلم!
حتى عندما يهاجر المسلم إلى دولة أخرى ويحصل على جنسيتها، يصر على وضع هويته الدينية كمسلم في الصدارة وعزل نفسه عن القضايا والهموم العامة مقتنعا أن له قضاياه الخاصة التي تختلف عن قضايا الفئات الأخرى في المجتمع. كما أن له حلوله الخاصة به التي تختلف عن الحلول التي قد تكون مناسبة للآخرين.
عندما تحدث ديدات في إحدى محاضراته عن العنصرية، لم يجد لها إلا حلا واحدا من وجهة نظره: الصلاة. وعندما قابل مانديلا في أواخر حياته طلب منه بثقة خارقة اعتناق الإسلام لأن فيه حل كل مشاكل جنوب إفريقيا!
تبقى الهوية "الدينية" أساسية ضمن "هويات" أخرى. لكن ادعاء أن هوية واحدة فقط هي الهوية الحصرية الجامعة المانعة، يعزل المنتمين لهذه الهوية عن العالم. وعندما تتحول الهوية الثقافية إلى سجن يعجز اتباعها عن العيش مع الآخرين ويبدأون تدريجيا في عزل أنفسهم في "غيتو" كبير أو صغير حسب حجم تواجدهم.
تبدو ملالا يوسفزاي الاستثناء الوحيد، وربما الشخصية الإسلامية الوحيدة التي تحولت إلى رمز عالمي وتبنت قضية عالمية (تعليم الفتاة) وتحدثت بلغة غير دينية وغير عرقية تتجاوز حدود الهوية الضيقة. وإذا كنا مهتمين فعلا بكسب معركة التعايش والحوار، لا بد أن نقوم بثورة على الذات والهويات الضيقة التي تقيدنا والانتقال من نموذج ديدات وجناح إلى نموذج ملالا ومانديلا وغاندي.
عن الكاتب: حسين الوادعي، كاتب ومحلل من اليمن، يعمل خبيرا في مجال الإتصال التنموي والتدريب الإعلامي مع عدد من المنظمات الدولية. ينشر مقالاته في عدد من الصحف والمنصات الإلكترونية العربية ،كما ينشر تحليلات معمقة للوضع اليمني. يهتم بقضايا الإرهاب والعلمانية والطائفية والتدين وتجديد الفكر العربي وتحولات الوضع السياسي بعد الربيع العربي. لديه اهتمام خاص الشباب وتهيئة منصات تنويرية للتخاطب معهم.
لمتابعة حسين الوادعي على فيسبوك إضغط هنا. وعلى تويتر إضغط هنا.
الآراء الواردة في هذا المقال تعبر عن رأي الكاتب ولا تعبر بالضرورة عن رأي موقع (إرفع صوتك) أو شبكة الشرق الأوسط للإرسال، ويتم نشرها إيماناً بحرية التعبير وضرورة فتح الباب أمام نقاش جاد للأسباب التي أدت إلى انتشار التطرف والإرهاب في المنطقة.