بقلم خالد الغالي:

ينظر دائما إلى التطرف من منظور الأيديولوجيا، ونادرا ما تتم الإشارة إلى عوامل أخرى غير أيديولوجية يمكن أن تؤدي إلى وقوع الفرد في أحضان الجماعات المتطرفة. رغم ذلك، يقول باحثون من جامعة نبراسكا الأميركية إن دراسة، أنجزوها سنة 2015، تؤكد تجريبيا أن هناك "عوامل غير أيديولوجية تتراكم مع مرور الوقت، بدءا من الطفولة، وتعمل على دفع الفرد تجاه عدد متنوع من السلوكيات العنيفة، بما فيها التطرف العنيف". أحد هذه العوامل غير الأيديولوجية هو العنف الأسري.

متطرفون بيض

اعتمد الباحثون من مركز "دراسة الإرهاب والاستجابة للإرهاب" (Study of Terrorism and Responses to Terrorism) على البحث في تاريخ عينة من العنصريين الأميركيين المؤمنين بتفوق العرق الأبيض. وأكدت الدراسة التي أنجزوها أن عددا كبيرا من المتطرفين السابقين الذين تم استجوابهم يشتركون في كثير من العوامل التي طبعت طفولتهم مثل تعنيفهم داخل أسرهم، أو الدخول في أعمال عنف مع أعضاء عصابات في الشارع أو مع أشخاص عاديين.

اقرأ أيضاً:

المُعَنفات ومتلازمة ستوكهولم

في اليمن.. قصص مؤلمة لضحايا عنف أسري

وأوضحت الدراسة أن 45 في المئة من المتطرفين السابقين أكدوا أنهم تعرضوا خلال طفولتهم لعنف جسدي، فيما أفصح 21 في المئة أنهم كانوا ضحية اعتداءات جنسية. وبدورهم، أكد 46 في المئة أنهم تعرضوا للإهمال خلال طفولتهم.

وتقول الدراسة إن هذه الأرقام تتجاوز المعدلات الوطنية لسوء معاملة الأطفال. فإذا كان 28.3 في المئة من الأميركيين البالغين أكدوا أنهم تعرضوا لعنف خلال طفولتهم، فإن هذه النسبة ترتفع عند المتطرفين البيض إلى 45 في المئة. وإذا كان 12.4 في المئة من البالغين أكدوا أنهم تعرضوا للإهمال وهم أطفال، فإن هذه النسبة ترتفع مجددا إلى 46 في المئة في صفوف الذين سقطوا في أحضان التطرف. وحدها نسبة التعرض لاعتداء جنسي تبقى متقاربة (20.7 للبالغين الأميركيين كمعدل وطني مقابل 21 في المئة بين المتطرفين البيض).

وتضيف الدراسة أيضا أن 29 في المئة من المستجوبين أكدوا أن أحد أبويهم كان سجينا، كما أوضح 31 في المئة منهم أنه تم التخلي عنهم من قبل عائلاتهم، فيما أكد 49 في المئة أن المخدرات كانت تستهلك داخل أسرهم.

شملت الدراسة 44 عضوا سابقا من منظمات عنصرية عنيفة في 15 ولاية أميركية. وأعطيت الفرصة للمستجوبين لسرد قصة حياتهم بشكل تلقائي خلال مقابلات امتدت ما بين خمس إلى ست ساعات، كما اختيرت عينة منهم للمشاركة في مقابلات تكميلية على امتداد أيام.

العنف يولد العنف

أكدت دراسة ثانية أجراها المعهد الوطني للصحة في الولايات المتحدة الأميركية سنة 2007 على وجود علاقة وطيدة بين سوء معاملة الأطفال وبين جنوحهم نحو العنف في فترة المراهقة ومرحلة البلوغ. امتدت هذه الدراسة فترة زمنية طويلة، حيث تم تتبع 574 طفلا ابتداء من الخامسة من عمرهم وحتى وصولهم سن 21 عاما. أشرف على الدراسة ستة باحثين في علم النفس والطفل والأسرة من ثلاث جامعات أميركية هي دوك (كارولاينا الشمالية) وإنديانا (ولاية إنديانا) وأوبورن (ولاية ألاباما).

توصل الباحثون إلى الخلاصة التالية: "أكدت التحاليل أن الأطفال الذين تعرضوا لسوء معاملة جسدية خلال الخمس سنوات الأولى من عمرهم هم أكثر عرضة لإلقاء القبض عليهم وهم ما زالوا قاصرين، جراء تورطهم في أعمال عنيفة أو غير عنيفة أو مخالفات قانونية غير جرمية (بالإنكليزية Status Offences وهي مخالفات يرتكبها القاصرون مثل التهرب من المدرسة، الهروب من المنزل، استهلاك الكحول..).

علاوة على ذلك، كانت فرص الأطفال الذين عانوا من سوء المعاملة أقل للتخرج من المدرسة الثانوية، كما أنهم كانوا أكثر عرضة للطرد، وأكثر احتمالا لأن يكونوا آباء في سن المراهقة أو يتعرضوا للحمل أو يتسببوا في حمل شخص ما وهم غير متزوجين".

النتائج ذاتها أكدتها بحوث سابقة أشار إليها الباحثون الستة في دراستهم. فحسب دراسة أجريت بين سنة 1989 و1995، وتمت خلالها المقارنة بين 676 طفلا تعرضوا لسوء المعاملة وبين 520 طفلا عاديا، تبين أن احتمال أن يتعرض الأطفال الذين تمت إساءة معاملتهم للاعتقال من أجل جريمة عنف أكبر بـ38 في المئة منه لدى الأطفال العاديين، كما أن احتمال يتعرضوا للاعتقال قبل وصول سن الرشد القانوني أكبر بـ53 في المئة منه لدى الأطفال العاديين.

وتشرح أستاذة علم النفس التربوي في جامعة بغداد شيماء عبد العزيز ما يحدث في نفسية الطفل المعنف، قائلة "بناء الشخصية يتم بشكل أساسي في السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل، وعندما يتعرض للعنف من قبل أقربائه أو غيرهم، خاصة خلال هذه الفترة، يتم المساس بعملية بناء الشخصية. وتتم عرقلة تكوين شخصية سوية في المستقبل".

وتضيف قائلة "هنا، يبدأ الطفل في تجسيد العنف الذي تعرض له وتطبيقه سواء على أخيه الأصغر مثلا أو على أصدقائه في المدرسة. وعموما، يصبح الطفل إما صاحب سلوك عدواني أو ينعزل اجتماعيا أو يصير طفلا متنمرا يعيد إنتاج نفس العنف الذي مورس عليه".

*الصورة: أكدت الدراسات أن العنف الأسري ضد الأطفال يرفع من احتمال توجههم نحو التطرف/Shutterstock

يمكنكم التواصل معنا وإرسال الفيديوهات والصور لموقعنا عبر تطبيق “واتساب” على الرقم 0012022773659

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".