تشترك الملكيات العربية جميعًا في رؤية دستورية، تكاد تكون متطابقة، تحرم المرأة من أي حق في تولّي الحُكم.
ا

 

منذ عدة أشهر، أثير جدل عارم في ساحة السياسة الأردنية بسبب مقترح بإضافة كلمة "الأردنيات" في المادة السادسة من الدستور التي تنصُّ على أن "الأردنيين أمام القانون سواءً لا تمييز بينهم".

اعترض عددٌ من النواب الأردنيين على هذه الإضافة "غير المبررة" على حد وصفهم. وعقب جلسة صاخبة تشاجر فيها بعض البرلمانيون بالأيدي، أقرّ البرلمان الأردني التعديل المطلوب لتُضاف النساء إلى الدستور الأردني في "لحظة تاريخية" حسبما وصفتها وفاء مصطفى وزيرة الدولة للشؤون القانونية في الأردن.

أعاد هذا الجدل الحديث الذي يكاد لا ينقطع حول وضع المرأة في الدساتير العربية، والمواقف التمييزية المتّخذة بحقّها في نصوصه.

 

للرجال فقط

 

تشترك الملكيات العربية جميعًا في رؤية دستورية، تكاد تكون متطابقة، تحرم المرأة من أي حق في تولّي الحُكم. وتعبّر موادها - بشكلٍ مباشر أو غير مباشر- على أن الحق في تولي الحُكم لا يمتدُّ إلا من ذكر إلى ذكر حتى لو أدى ذلك إلى خروج الأحقية في العرش من فرع عائلي إلى آخر.

في الأردن، تنصُّ المادة 28 على أن عرش المملكة وراثي في "الذكور من أحفاد الملك عبد الله بن الحسين". وحدّدت المادة تفصيلات دقيقة لكيفية انتقال الحُكم من هاشمي إلى آخر مع استبعاد تام لاحتمالية ترشُّح أية امرأة في هذه العملية.

فالعرش يرثه أكبر أبناء الملك سنًّا. وإذا تُوفي ذلك الابن في حياة والده الملك، يُرشّح لولاية العهد أكبر أبناء الابن المتوفّي. وفي حالة وجود أي فراغ في الأبناء والإخوة ينتقل المُلك إلى الأعمام وذريتهم من الأبناء.

ويُقرٌّ الدستور الأردني أنه إذا توفي الملك دون وارث، فعلى مجلس الأمة أن يجتمع ويختار ذكرًا من سلالة الملك حسين ليُعيّنه ملكًا.

في الأردن، تنصُّ المادة 28 على أن عرش المملكة وراثي في "الذكور من أحفاد الملك عبد الله بن الحسين".

وبالمثل، رسّخ دستور الإمارات ضرورية تذكير منصب رئيس الدولة -وإن لم ينصَّ على ذلك مباشرة- وذلك عبر المادة 51 التي أكّدت أن رئيس الدولة لا يُعيّن إلا من حكّام الإمارات المكوّنة للاتحاد أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد، ومن بينهم يختار الأعضاء رئيسًا ونائبًا.

وهنا يجب أن نرتدَّ بهذا النصّ إلى الواقع القبلي الذي يحكم طريقة اختيار حكّام الإمارات المختلفة، والتي تقتصر دائمًا على الرجال من الأسر التي تتوارث حُكم كل إمارة؛ مثلما هو حال آل نهيان في أبو ظبي وآل مكتوم في دبي وآل النعيمي في عجمان، وجميعهم يتوارثون حُكم إماراتهم أبًّا عن جد.

فعل سبيل المثال، يحكم الشيخ حميد عجمان الآن بعدما ورث الحكم عن والده الشيخ راشد الذي تنازل له أبوه الشيخ حميد (الجد) عن منصبه، وهكذا نعود بالأمر إلى عام 1816م الذي شهد بداية حُكم آل النعيمي لعجمان، ومن وقتها لم يحكم الإمارة إلا ذكرٌ منهم.

هذا الوضع يتكرّر في كافة الإمارات العربية المتحدة، وبالتالي ينسحب على المجلس الأعلى المكوّن منها ما يجعل الطريق مغلقًا أمام أي اماراتية لتبوء ذلك المقعد على الأقل في القريب العاجل.

أما البحرين، فكان دستورها أكثر وضوحًا في الإشارة إلى أن حُكم البلاد "ملكي دستوري وراثي" محصور في ذرية الملك الحالي الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة من "الأبناء" فقط، وهو ما ينطبق أيضًا على منصب ولي العهد، الذي قدّمه الدستور بصياغة ذكورية صرفة كـ"نائب يُمارس صلاحيات الملك في غيابه".

وهو ذات ما ينطبق على السعودية أيضًا التي تنصُّ المادة 5 من نظام الحُكم فيها على أن إدارة الدولة محصورة فقط في "أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن من آل سعود". ومن هؤلاء "الأبناء" أيضًا يختار الملك ولي عهده الذي يتولّى سُلطاته حال وفاته.

وفي الكويت، تنصُّ المادة 4 من دستورها على أنها "إمارة وراثية في ذرية مبارك الصباح" من الأبناء، كما اشترطت في ولي العهد أن يكون "رشيدًا، عاقلاً، وابنًا شرعيًا لأبوين مُسلمين".

أما دستور المغرب، فكان أحد أكثر النصوص الدستورية وضوحًا في حرمان المرأة من تولّي العرش. فبينما اقتصرت الدساتير العربية السابقة على استعمال لفظ "أبناء"، والتي يُمكن تأويلها تجاوزا بأنها تشمل الرجال والنساء معًا - لغويًّا على الأقل- فإن المادة 43 من الدستور المغربي أقرّت بمنتهى الدقة أن عرش المغرب "ينتقل بالوراثة إلى الولد الذكر الأكبر سنًّا من ذرية الملك محمد السادس". وإذا لم يُرزق الملك بولدٍ ينتقل المُلك إلى "أقرب أقربائه من جهة الذكور".

وعلى نهج المغرب، سارت سلطنة عُمان أيضًا. ونصَّت المادة 5 من دستورها على أن "نظام الحُكم سُلطاني وراثي في الذكور من ذرية تركي بن سعيد بن سُلطان". ويشترط فيمن يتولّى حُكم السلطنة أن يكون "مسلمًا، رشيدًا، وابنًا شرعيًّا لأبوين عمانيين مُسلمين".

المادة 43 من الدستور المغربي تقر بمنتهى الدقة أن عرش المغرب "ينتقل بالوراثة إلى الولد الذكر الأكبر سنًّا من ذرية الملك محمد السادس".

ويتكرّر نفس الأمر في قطر. فوفقًا للمادة 8 من الدستور، فإن حُكم الدولة محصور في "ذرية حمد بن خليفة من الذكور". وتكون وراثة الحُكم لابنه الذي يُعيّنه وليًّا للعهد، أما إن لم يُنجب الأمير ابنًا فإنه يُعيّن وليّ عهدٍ من ذكور عائلته.

 

تراكمات فقهية

 

لا يُمكن فهم هذا النهج العربي الواضح في تحريم منصب الإمارة أو السلطنة أو المُلك على النساء بمعزلٍ عن التراكمات الفقهية الهائلة التي وُضعت على مدار مئات السنوات، والتي دارت أغلبها في فلك تحريم مقعد "الرجل الأول"\ "الخليفة"\ صاحب "الولاية الكبرى" على النساء. وهي الآراء التي تسرّبت –ولا زالت- في عقول واضعي الدساتير العربية مهما اختلفت الدول وتباينت ظروفها الاجتماعية والاقتصادية.

الإمام الأعظم في الإسلام هو الشخص الذي يقوم بخلافة دور الرسول، ويتمتّع بصلاحيات دينية ودنيوية واسعة، فهو من يُجري الأحكام الشرعية على الناس، ويقود الجيوش ويصلّي بالمسلمين ويتمتّع بصلاحيات واسعة لتسيير أمور حياتهم. وهو منصب ينعدم وجوده في عصرنا الذي يُحدّد فيه لكل حاكم صلاحيات معينة يقرّها الدستور والقانون.

حرّم جمهور فقهاء المسلمين هذا المنصب على النساء مستندين إلى فهمهم لآيات من القرآن مثل "الرجال قوّامون على النساء"، و"للرجال عليهنّ درجة"، و"وقرن في بيوتكن"، علاوة على الحديث النبوي "لن يفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة" وحديث "ناقصات عقلٍ ودين"، والتي استنتجوا منها جميعها أن تولّي امرأة الإمامة على الرجال مُخالف لإرادة الله الشرعية.

جرى أيضا القياس على الموقف الفقهي الكلاسيكي الذي يمنع المرأة من إمامة الصلاة بأي رجل ولو كانت أعلم منه وأكثر حِفظًا للقرآن، وهو ما ينطبق أيضًا على صلاة الجمعة وتلاوة الأذان، فكلها ممنوعة عن المرأة. وهو ما دفع الباحث حامد بن عبد الله في أطروحته "حكم تولي المرأة الولايات العامة" للقول بأنه "لا يُعقل أن تحظر الشريعة على المرأة أن تتولّى عقد النكاح لنفسها ثم يُجاز لها أن تكون وزيرة عدل أو أن تتولّى القضاء ويرجع إلى حكمها كل عقود الأنكحة، كما لا يُعقل أن تُمنع المرأة من الخطبة ثم يُجاز لها أن تكون نائبا في مجلس نيابي تحتاج فيه لرفع صوتها خلال مشاهد الصراع السياسي".

ونشر الشيخ عطية صقر، أحد كبار علماء الأزهر فتوى تفصيلية ذكر فيها أن رئاسة المرأة للرجل في أي عمل لا تكون ممنوعة إلا في الرئاسة أو الولاية العامة، وذلك حسب اتفاق العلماء على حد قوله.

ويكاد يجمع علماء الإسلام على هذا الرأي دون خلاف يُذكر. قال به ابن قدامة الحنبلي: "لا تصلح المرأة لتولية البلدان"، وأكد عليه القرطبي خلال تفسيره الشهير للقرآن بأن "هذه الأمور ليست للنساء"، وكذا الفقيه الشافعي المصري الخطيب الشربيني بأن الحاكم "يجب أن يكون ذكرًا ويتمكن من مخالطة الرجال"، ومثلهم سار ابن حزم والماوردي وغيرهم الكثير من مختلف العصور والمذاهب.

لكن الآونة الأخيرة بدأت تشهد بعض التململ في الموقف الكلاسيكي. وظهر فقهاء -أقل عددًا بالتأكيد- يؤكدون أن كل هذه النصوص الدينية لا يُفهم منها تحريم قاطع لتولية المرأة الإمامة الكبرى، مستشهدين بنماذج شهيرة لنساء لعبن أدوارًا قيادية في تاريخ الإسلام بدءًا من السيدة عائشة زوجة النبي، وأروى الصليحية ملكة اليمن، وشجرة الدر ملكة مصر، وبلقيس ملكة سبأ التي ضرب بها القرآن مثلاً في الحِكمة. وأيضًا، ضُرب المثل بنماذج أقل شأنًا قليلاً مثل الشفاء بنت عبد الله التي تولّت أمور السوق في عهد عُمر بن الخطاب والصحابية سمراء بنت نهيك الأسدية التي قادت الحسبة في عهد النبي وكانت تضرب الغشاشين بالسوط، وهو ما ينفي -عمليًّا- أن يكون الإسلام اعتبر أن النساء لا يصلحن للمناصب القيادية أو أن يتولين أمورا تكون لهن فيها الولاية والرقابة على الرجال.

ظهر فقهاء -أقل عددًا بالتأكيد- يؤكدون أن كل هذه النصوص الدينية لا يُفهم منها تحريم قاطع لتولية المرأة الإمامة الكبرى.

وحتى تاريخيا، فقد كان لبعض فرق الخوارج رؤية مختلفة لمنصب الخليفة فاعتقدوا أن "أي شخص متدين ذو تفكيرٍ ناضج" يصلح للمنصب مهما كان جنسه أو لونه أو جنسيته، وأيضًا إحدى فرق الشيعة التي نادت بإمامة فاطمة بنت علي بن محمد الهادي الإمام العاشر ضمن أئمة الشيعة الاثني عشرية.

وباستثناء آراء قِلة من معاصرين مثل سعاد صالح وحسن الترابي ولجنة الفتوى في تركيا، فإن أغلب الآراء الفقهية المعاصرة مشرّبة بالرأي الكلاسيكي ولا تزال تدور في فلك التحريم، وهو ما انعكس بشكلٍ واضح على الدساتير العربية التي أقيمت في عصور الدولة الحديثة دون أن تنجح في الفرار من إرث الماضي.

 

مصادر إضافية

  • "حق المرأة في الولاية العامة في ضوء الشريعة الإسلامية"، جودت المظلوم (رسالة ماجستير)
  • "المرأة في الدساتير العربية"، منظمة المرأة العربية (دراسة بحثية)
  • "النساء في دساتير العالم"، عزة كامل (كتاب)
  • 'المرأة والولاية العامة.. بين الفقه الإسلامي والقوانين العربية، رياض محسن الصيخان (كتاب)

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".