تظهر المرأة الأولى -حواء- في اليهودية على كونها المخلوق الأقرب، والأوثق صلةً بآدم، خصوصًا وأنها "قد خُلقت من ضلعه"، كما تقول النصوص الدينية. "فأوقع الرب الإله سباتًا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحمًا. وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم".
وبحسب النص التوراتي، فإن الأمر الإلهي بعدم الأكل من الشجرة المحرمة، كان موجهًا لآدم وحواء على حد سواء. "وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا". ولكن حواء هي التي سمعت لإغواء الحية أولًا "فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضًا معها فأكل... (الإصحاح الثالث من سفر التكوين). من هنا، فإن المرأة، تظهر وكأنها الكائن الأضعف، الذي يسهل إغواؤه. ومن ثم، فقد فرقت التشريعات اليهودية بين الرجل والمرأة. فمنحت الأول الحق في تولي جميع الوظائف الدينية والسياسية، فيما لم تول النساء إلا القليل من تلك الوظائف.
التراتيل والخدمة.. المرأة في الكهنوت اليهودي
تأسس مفهوم القداسة والطهارة في المُتخيل الديني اليهودي على التصور الدوني العام لما ألفته الطبيعة البيولوجية الأنثوية من عادات الحيض والنفاس. ظهر ذلك في الكثير من النصوص التوراتية، ومنها ما ورد في الإصحاح الثاني عشر من سفر اللاويين: "إذا حبلت امرأة وولدت ذكرًا تكون نجسة سبعة أيام... وإن ولدت أنثى تكون نجسة أسبوعين..."، وما ورد في الإصحاح الخامس عشر من السفر نفسه: "وَإِذَا كَانَتِ امْرَأَةٌ لَهَا سَيْلٌ، وَكَانَ سَيْلُهَا دَمًا فِي لَحْمِهَا، فَسَبْعَةَ أَيَّامٍ تَكُونُ فِي طَمْثِهَا. وَكُلُّ مَنْ مَسَّهَا يَكُونُ نَجِسًا إِلَى الْمَسَاءِ". من هنا، فإن الكهنوت اليهودي كان مقصورًا على الذكور دونًا عن الإناث. وقد قصر يهوه (الله) أعمال الكهنوت في ذكور سبط لاوي بن يعقوب تحديدًا، إذ ورد في الإصحاح الثالث من سفر العدد "وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «عُدَّ كُلَّ بِكْرٍ ذَكَرٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنِ ابْنِ شَهْرٍ فَصَاعِدًا، وَخُذْ عَدَدَ أَسْمَائِهِمْ. فَتَأْخُذُ اللاَّوِيِّينَ لِي. أَنَا الرَّبُّ. بَدَلَ كُلِّ بِكْرٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ...".
اعترفت اليهودية بنبوة بعض النساء، من أشهرهن مريم أخت النبي موسى.
رغم ذلك، سنجد أن النساء شاركن في بعض الوظائف الدينية التي عرفها بنو إسرائيل عبر تاريخهم بأشكال متعددة. من ذلك ما ورد في سفر الخروج عن مجموعة من النساء اللواتي وقفن أمام خيمة الاجتماع بعد أن تبرعن بحليهن للنبي موسى، وما ورد بعد ذلك في المزامير عن "المغنيات والمسبحات والمرنمات وضاربات الدفوف"، واللاتي اعتدن على إنشاد التراتيل والتسابيح التي تمجد الله.
هيكل سليمان، والذي يُعد أهم دور العبادة في التاريخ اليهودي عبر القرون، تألف من أربع حجرات واسعة، كان منها حجرة معروفة بدار النساء. وبحسب ما يذكر حلمي القمص يعقوب في كتابه "هناك كنت معه"، فإن النساء كن يتواجدن في تلك الدار، ولم يكن من المسموح لهن تجاوزها للداخل، وفيها كن يقدمن قرابينهن، كما كن يصلين بعيدًا عن الرجال.
في الهيكل أيضًا، سكنت بعض النساء اللواتي قضين حياتهن للعبادة. ومن أشهرهن حَنَّة بنت فَنُوئِيل، تلك التي مكثت في الهيكل لسنين طويلة بعد وفاة زوجها. من الأماكن الأخرى التي كان يحق دخول النساء إليها داخل المعبد، الرواق المعروف بـ "رواق النذيرين"، وهو المكان الذي أقام فيه الأطفال الذين نذرهم آباؤهم للعبادة والخدمة. وكان الأطفال -ذكورًا وإناثًا- يسكنون فيه، ويقضون أوقاتهم في الخدمة والعبادة.
مريم أخت موسى.. وخلدة المرأة النبيّة
اعترفت اليهودية بنبوة بعض النساء، ولم تر بأسًا في ذلك على الإطلاق. وقد حفظت لنا أسفار العهد القديم أسماء العديد من النساء اللواتي جرى وصفهن بالنبيّات، ووردت على ألسنتهن العديد من البشارات والتهديدات. من أشهر تلك النسوة، مريم أخت النبي موسى، إذ ورد في سفر ميخا على لسان يهوه: "فأنا أخرَجْتُكُم مِن أرضِ مِصْر، أخلصتكم مِن أرضِ العُبودِيَّة، وأرسَلْتُ لكُم مُوسَى وهَارُون ومَرْيَم". ونص سفر الخروج أيضا على نبوتها، وعلى الدور الذي اضطلعت به بعد القضاء على جيش المصريين الذي طارد الإسرائيليين: "فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ النَّبِيَّةُ أُخْتُ هَارُونَ الدُّفَّ بِيَدِهَا، وَخَرَجَتْ جَمِيعُ النِّسَاءِ وَرَاءَهَا بِدُفُوفٍ وَرَقْصٍ، وَأَجَابَتْهُمْ مَرْيَمُ: رَنِّمُوا لِلرَّبِّ فَإِنَّهُ قَدْ تَعَظَّمَ".
ومن النسوة أيضًا، دبورة النبيّة، التي ظهرت في عصر القضاة. وكانت تقود أمتها في وقت الأزمات والحروب، وقد اعترف الإصحاح الرابع من سفر القضاة بمكانتها المُبجلة ودورها المؤثر، إذ "َكَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَصْعَدُونَ إِلَيْهَا لِلْقَضَاءِ...".
أبيجايل هي الأخرى واحدة من النساء المؤثرات أيضًا، إذ يذكر سفر صموئيل الأول أن تلك المرأة الفطنة لمّا وجدت أن الصراع يحتدم بين زوجها والملك داود، عملت على تهدئة الأمور بين الرجلين: "وَأَخَذَتْ مِئَتَيْ رَغِيفِ خُبْزٍ وَجَرَّتَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ مِنَ ٱلْخَمْر، وَخَمْسَةَ خِرْفَانٍ مُعَدَّةٍ، وَخَمْسَةَ أَصْوَاعٍ مِنَ الْحَبِّ الْمَشْوِيِّ، وَمِائَةَ قُرْصٍ مِنَ ٱلزَّبِيبِ، وَمِائَتَيْ قَالَبٍ مِنَ التِّينِ ٱلْمُجَفَّفِ، وَوَضَعَتْهَا عَلَى ٱلْحَمِيرِ …". وأرسلتها لداود، فاعترف الأخير بحكمتها وبكونها مرسلة من قبل يهوه (الله)، وقال لها: "مُبَارَكٌ يَهْوَهُ إِلهُ إِسْرَائِيلَ، الَّذِي أَرْسَلَكِ ٱلْيَوْمَ لِلِقَائِي! وَمُبَارَكَةٌ رَجَاحَةُ عَقْلِكِ، وَمُبَارَكَةٌ أَنْتِ الَّتِي مَنَعْتِنِي الْيَوْمَ أَنْ أُذْنِبَ بِسَفْكِ الدَّمِ، وَأُخَلِّصَ نَفْسِي بِيَدِي".
من هؤلاء النسوة أيضًا، دبورة النبيّة، التي ظهرت في عصر القضاة. وكانت تقود أمتها في وقت الأزمات والحروب.
في سفر الملوك الثاني، ورد الحديث عن خلدة النبيّة، والتي لمّا أرسل لها يوشيا ملك يهوذا ليسألها عن مستقبل بني إسرائيل، فإنها قد أنذرته، وأخبرته بالمستقبل المظلم الذي ينتظره الشعب اليهودي. وقالت له: "هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا جَالِبٌ شَرًّا عَلَى هذَا الْمَوْضِعِ وَعَلَى سُكَّانِهِ … مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ تَرَكُونِي وَأَوْقَدُوا لآلِهَةٍ أُخْرَى لِكَيْ يُغِيظُونِي بِكُلِّ عَمَلِ أَيْدِيهِمْ، فَيَشْتَعِلُ غَضَبِي عَلَى هذَا الْمَوْضِعِ وَلاَ يَنْطَفِئ".
سارة وراحاب وأستير.. سيدات بني إسرائيل
حضور النساء في التاريخ اليهودي لم يقتصر على أدوار النبوة والعبادة والخدمة داخل الهيكل المقدس. بل تعدى ذلك ليصل إلى الإسهام في إحداث تأثيرات مهمة وفارقة في ميادين العمل السياسي والعسكري، الأمر الذي ارتبط -بشكل من الأشكال- في التأثير على المجال الديني العام.
من أشهر النساء اللاتي لعبن هذا الدور، سارة زوجة النبي إبراهيم، والتي ولد منها إسحاق. فبحسب ما ورد في الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين، فإن الله كرمها وعظم من شأنها: "وَقَالَ اللهُ لإِبْرَاهِيمَ: «سَارَايُ امْرَأَتُكَ لاَ تَدْعُو اسْمَهَا سَارَايَ، بَلِ اسْمُهَا سَارَةُ". الكثير من الباحثين يعتقدون أن شريعة توريث الهوية اليهودية من الأم دونًا عن الأب، إنما ترجع لسارة، وذلك عندما اُختير نسلها عوضًا عن نسل هاجر التي أنجبت إسماعيل.
خلال فترة دخول قبائل بني إسرائيل لأرض الميعاد، ظهرت امرأة مؤثرة أخرى في التاريخ العبراني، وهي راحاب، التي كانت تسكن في أريحا. فبحسب ما ورد في العهد القديم، فإن النبي يشوع بن نون لما عزم على دخول المدينة، أرسل جاسوسين من قبله ليتعرفا على أخبار البلدة، فأخفتهما راحاب في بيتها. ولمّا تمكن جيش بني إسرائيل من دخول المدينة عقب الانتصار في المعركة، حفظوا لراحاب جميلها، فلم يتعرضوا لها بمكروه، وعاشت بينهم، وتزوجها رجل من سبط يهوذا، ومن نسلها ولد الملك داود.
في الحقبة التي أعقبت السبي البابلي، ظهرت واحدة من النساء اليهوديات اللاتي قُدر لهن أن يحفظن حياة عشرات الآلاف من بني إسرائيل، وهي الملكة أستير، التي سُمي باسمها سفر كامل في العهد القديم. وبحسب ما ورد في هذا السفر، فإن أستير تصدت للمحاولات المتكررة التي قام بها أعداء اليهود في الإمبراطورية الفارسية، وتمكنت بواسطة جمالها وذكائها والتعاون مع ابن عمها، مردخاي، من إقناع زوجها الملك الفارسي خشايارشا بالتخلص من الوزير هامان وأتباعه، أولئك الذين كانوا يخططون لقتل اليهود في جميع أنحاء الإمبراطورية. الذاكرة اليهودية الجمعية، اعترفت بالجميل للملكة أستير وذلك من خلال الاحتفال بذكرى انتصارها في كل عام في عيد البوريم أو الفوريم والذي تحل ذكراه في الثالث عشر من آذار من التقويم اليهودي.