شهدت نهاية عام 2000م جدلاً إعلاميًّا واسعا على وقع أزمة بطلتها الممثلة الشهيرة هالة صدقي، والتي ضجّت من حياتها مع زوجها مجدي وليام فسعت للانفصال عنه، وهي الخطوة التي رفضتها الكنيسة القبطية لأن هالة لم تمتلك "سببًا مُقنعًا"، حسب الكنيسة. فبِاستثناء "عِلة الزنا" التي اعتبرها البابا الراحل شنودة الثالث سببًا وحيدًا للتفريق بين الزوجين، ليس بإمكان قبطيات مصر الانفصال عن أزواجهن مهما كان.
نتيجة لهذا الرفض الكنسي خاضت الممثلة المعروفة مشوارًا طويلاً في المحاكم، ورفعت دعاوى قضائية تلو الأخرى لتطليقها عن زوجها. لكنها انتهت جميعًا بالرفض. وهو ما دفعها في النهاية لتغيير ملتها من القبطية الأرثوذكسية إلى السريانية الأرثوذكسية، وهي الثغرة التي أنهت مشكلتها الطويلة. فبُحكم القانون المصري، حالَ اختلاف الزوجين في المِلة الدينية يخضعان لحُكم الشريعة الإسلامية، حتى لو كانا مسيحيين. وهكذا ظفرت هالة المسيحية بالطلاق عبر أبواب الفقه الإسلامي!
جذور الأزمة
قد تكون حالة هالة صدقي هي الأشهر، لكن هذا لا يمنع تسليط الضوء على حالاتٍ أقل شهرة عانت صاحباتها -وما زلن- في صمت. لا نملك أرقامًا رسمية عن حجم المتضرّرات، لكنها لن تقل عن عشرات الآلاف من المسيحيات وفقًا لتقديرات وسائل الإعلام المحلية.
تزوجت الفنانة هاله صدقى مرتين الأولى من مجدى ويليام وحصلت على الطلاق منه بعدما غيرت مذهبها الدينى من الأرثوذكسية القبطية إلى الأرثوذكسية السيريانية pic.twitter.com/wdoA3aGreC
— Akhbarak (@akhbarak) June 15, 2019
لا تنظر الكنيسة إلى الزواج كطقس إنساني اجتماعي عادي، وإنما تصفه بأنه "اتحاد روحي بين الرجل وزوجته، وهو يمثّل وحدة الكنيسة مع الله واتباعها أوامره". لذا فإن هدمه عبر الطلاق أمر بغيض لأنه "اختبار لإيمان الإنسان المسيحي، الذي يجب أن يتحمّل مشقات الدنيا ومنها متاعب الزواج". ولهذا نُظر للزواج بأنه علاقة أبدية لا تنحل بالإرادة المنفردة ولا حتى بإرادة الطرفين معًا و"سرٌّ من أسرار الكنيسة السبعة يُعرف بِاسم (سر الزيجة)".
هذه القناعة دفعت الكنيسة المصرية للتشبّث بشراسة "بحقّها" في إقرار الزواج أو إلغائه حتى لو وصل بها الأمر لتحدّي الدولة ذاتها.
لم ينشأ هذا المشهد المعقّد اليوم، وإنما قبل ذلك بكثير. في 3 مارس عام 1883م، أمر الخديوِي محمد توفيق بتشكيل المجلس الملّي الذي حدّدت لائحته التنفيذية اختصاصات مجلس الأقباط الأرثوذكس العمومي، والذي عُرف بِاسم "المجلس الملي العام"، وكان منها نظر الأحوال الشخصية للأقباط.
تنظر الكنيسة إلى للزواج بأنه علاقة أبدية لا تنحل بالإرادة المنفردة ولا حتى بإرادة الطرفين معًا.
وفي 9 مايو سنة 1938م، أعد المجلس الملّي لائحة خاصة بالأحوال الشخصية اعتمدت بشكلٍ كبير على كتاب "الخلاصة القانونية في الأحوال الشخصية" الذي كتبه فيلوثاوس عوض رئيس الكنسية المرقسية بالأزبكية. نصّت تلك اللائحة على 7 أسباب تُبيح الطلاق، هي: "الزنا"، الخروج عن الدين المسيحي، الغياب لـ7 سنوات متتالية، السجن، الجنون المطبق أو المرض الذي يُجبر صاحبه على إيذاء الآخرين، الاعتداء الجسدي، فساد الأخلاق والانغماس في الرذيلة، إساءة المعاشرة والإخلال بالواجبات، الرهبنة.
ونصّت المادة 69 من اللائحة على أنه "يجوز لكل من الزوجين بعد الحكم بالطلاق أن يتزوج من شخص آخر، إلا ذا نص الحكم على حرمان أحدهما أو كليهما من الزواج. وفي هذه الحالة لا يجوز لمن قضى بحرمانه أن يتزوج إلا بتصريح من المجلس".
الملفت هنا أنه بخلاف الزنا الذي نصَّ عليه "الكتاب المقدّس" صراحةً كسببٍ للطلاق، أضافت اللائحة ستة أسباب أخرى اعتبرتها مُوجِبة للطلاق.
لم ينفرد فيلوثاوس عوض بهذا التوسُّع في التطليق، وإنما شاركه فيه عدد من أعلام اللاهوت القبطي القدامى، مثل الصفي أبو الفضائل بن العسال في كتابه "المجموع الصفوي"، وما جاء في كتاب "قوانين البابا كيرلس بن لقلق" الذي أجازه مجمع المطارنة والأساقفة عام 1239م، وكذلك كتاب "مصباح الظلمة في إيضاح الخدمة" للقس أبو البركات ابن كبر أحد أقطاب الكنيسة القبطية في القرن الـ14.
إضافة إلى "الزنا" الذي نصَّ عليه "الكتاب المقدّس"، أضافت اللائحة ستة أسباب أخرى اعتبرتها مُوجِبة للطلاق.
يعود هذا الرأي لحقبة أقدم من ذلك بكثير أيضا. فهو رأي العلامة أوريجانوس أحد أقدم آباء الكنيسة خلال القرن الثاني الميلادي، والذي قال في كتابه المخصص لشرح إنجيل متّى: "إن سماح بعض رؤساء الكنائس بتزويج المرأة المُطلقة أثناء حياة زوجها الأول مضاد لوصية الإنجيل، إلا أن لهم عُذرًا في ذلك حيث إنهم يتّقون شرورًا أعظم يُمكن أن تحدث لو تشددوا في أمر الوصية"، وهو ذات ما قصده القديس غرغوريس الثاولوغوس -عاش في القرن الـ4-، عندما كتب: "نحن لا نعاقب الذي يتزوّج ثانية، لأن الزواج أفضل من الزنا في الخفاء".
أكثر من هذا، يوضح القس إكرام لمعي في بحثه "الزواج والطلاق في المسيحية" أن الكنيسة لم تكن تتحكم في أمر الزواج والطلاق حتى القرن الخامس الميلادي. وكان أعضاؤها الأوائل يخضعون لقوانين "الدول المدنية" التي يعيشون فيها للزواج حتى أعلن الإمبراطور الروماني قسطنطين في القرن الميلادي أن ديانة دولته هي المسيحية، فاندفع الآلاف لدخولها. وهنا بدأت الكنيسة في وضع قوانين للزواج والطلاق.
ويضيف: "وهكذا، نُلاحظ أن مسألة الزواج والطلاق على طول التاريخ لم تكن توضع تحت بند الإيمان والكفر مثل رفض التوحيد والتثليث أو طبيعة السيد المسيح، لكنها تُوضع تحت بند خطايا يُمكن تجاوزها تجنبًا لخطايا أعظم".
جمال عبد الناصر يغيّر قواعد اللعبة
في عام 1955م، في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، صدر القانون 461 الذي ألغى كافة المحاكم الشرعية والملية. وأحال كل ما لديها من قضايا إلى محاكمٍ مدنية اعتبارًا من بداية يناير عام 1956م.
وبهذا القانون، تقلّصت صلاحيات المجلس الملّي ولم يعد يملك الحقّ في النظر بقضايا المواريث أو أي منازعات قبطية شخصية إلا في اختصاص وحيد، هو النظر في تصاريح الزواج لمن حكمت لهم المحاكم المدنية بأحكام بطلان الزواج أو التطليق.
وبناءً على هذا الوضع المعقد، لم تعد الكنيسة تملك الحقّ في التطليق قانونًا، لكنها تملك الحقّ في الإقرار بصحة هذا التطليق، وفي السماح للشخص المُطلق بالزواج مرة أخرى أم لا. تزامَن ذلك مع اتخاذ الكنيسة منحى أكثر تشدّدًا بشأن الطلاق، فحاولت تقليص أسبابه في مقترحات عُرفت بِاسم "مجموعة 55"، مطالبة وزارة العدل المصرية بإقرار قانون يُطبّق هذه مقترحات هذه المجموعة على الأقباط بقوة القانون، فرفضت الوزارة واكتفت بالعمل بلائحة 1938م.
وفي عام 1962م، ترأّس الأنبا شنودة (أسقف التعليم حينها، والبابا شنودة الثالث لاحقًا) لجنة أعدّت مذكرة تُطالب فيها بقصر أسباب الطلاق على أمرٍ واحد وهو "عِلة الزنا"، رفضت الدولة تطبيقها فظلَّ الأمر مُجمدًا.
في عهد السادات.. الأزمة تتفاقم
بعدما أصبح البابا شنودة كبيرا للكنيسة المصرية المرقسية أصدر قراره البابوي في 1971م والذي نصَّ على أنه "عملاً بوصية الرب في الإنجيل لا يجوز التطليق إلا لعلة الزنا"، وأن كل طلاق يحدث لغير هذه العلة الواحدة لا تعترف به الكنيسة.
وهو ما أضفى تعقيدًا إضافيًا على الزيجات القبطية. فالمرأة المسيحية لم يعد بإمكانها الطلاق إلا لسببٍ وحيد يتعذّر إثباته غالبا. فكيف تثبت المرأة -بشكلٍ قاطع- "جريمة الزنا"؟
لم تقدّم الكنيسة -حينها- جوابًا قاطعًا في هذا الصدد. وبالتالي تم الاعتماد على إجراءات القوانين المدنية المستمدة بشكلٍ مباشر من الشريعة الإسلامية.
بعدما أصبح البابا شنودة كبيرا للكنيسة المصرية أصدر قراره البابوي في 1971م والذي نصَّ على أنه "لا يجوز التطليق إلا لعلة الزنا".
تولّى الرئيس السادات والبابا شنودة منصبيهما في نفس العام وهو 1971م. وفي عهد السادات شهدت مصر نموًّا كبيرًا للتيار الإسلامي؛ وتلقَب الرئيس نفسه بِاسم "الرئيس المؤمن" وأجرى تعديلاً دستوريًّا أصبحت بموجبه "الشريعة الإسلامية" هي المصدر الرئيسي للتشريع.
تصاعدت مشاعر الاستقطاب الديني في مصر، والتي بلغت ذروتها في أحداث الخانكة بعدما حرق مسلمون كنيسة أقيمت بدون ترخيص، وهو ما احتجّت عليه الكنيسة بتنظيم مظاهرة ضخمة من القساوسة.
حالة الشقاق بين السادات وشنودة أنبتت جفاءً بين الكنيسة والدولة، فعمل شنودة على التشدد في مواقفه بدوره لتحصين الجماعة القبطية من النفوذ الإسلامي الذي اخترق كافة مؤسسات مصر في عهد السادات. وبلغ الخصام بين الرجلين مداه حين قرّر السادات إلغاء قرار تعيين شنودة وتحديد إقامته في دير الأنبا بيشوي في وادي النطرون.
وعقب وفاة السادات وتولّي حسني مبارك السُلطة من بعده حافظت الكنيسة على تفسيرها المحافظ لـ"أسباب الطلاق"، رغم تراجع حدة الأجواء المجتمعية العدائية التي نشأ فيها هذا القرار.
هنا، عاش مسيحيو مصر في مأزق؛ فالقضاء يحكم لهم بالطلاق وفقًا للائحة 1938م المرنة (ذات السبعة أسباب) بينما الكنيسة لا تُطبّق إلا القرار البابوي الذي لا يقرّ أي طلاق إلا لعلة الزنا. وهكذا أصبح طلاق المحكمة لا يُلزم المجلس الإكليريكي بإعطاء المُطلّق تصريح زواج إلا لمن نال طلاقه بِعلة الزنا.
هذا المأزق بلغ ذروته في سنة 2010م حين قضت محكمة القضاء الإداري بأحقية مواطن في الحصول على تصريح بالزواج الثاني. وقالت في حيثيات حُكمها إن "المحكمة تقدّر المشاعر الدينية لدى الكنيسة وقادتها لكنها تحكم بمقتضى القانون وليس بناءً على التشريعات الدينية".
امتنعت الكنيسة المصرية عن تنفيذ ذلك الحُكم. واعتبر البابا شنودة أن "إباحة فكرة الزواج الثاني بعد الطلاق ستدمّر الأسرة المسيحية"، وأنه سيرفض أي حُكم قضائي ضد الإنجيل و"سيشلح" أي كاهن يعقد زواجًا ثانيًا لقبطي أو قبطية.
هنا زاد المشهد تعقيدًا بعدما رفع المواطن المٌتضرر دعوى قضائية أخرى تُطالب بعزل البابا من منصبه لامتناعه عن تنفيذ حُكم قضائي!
البحث عن حلول ولو بتغيير الدين!
إزاء هذا الرفض الكنسي، لم يعد أمام الراغبات والراغبين في الطلاق إلا 3 طرق مُرة: تغيير الديانة بالكلية، تغيير المِلة (كما فعلت هالة صدقي)، أو اللجوء إلى الزواج العرفي والمدني.
وهذا الخيار الأخير لا تعترف به الكنيسة وتعتبر القائمين عليه "زُناة" لا يستحقّون اللجوء إليها من أجل الطلاق، أو لحل خلافاتهم الزوجية أو حتى لتعميد أطفالهم. وبالتالي، يظلُّ حلاّ مستبعدًا أمام أي مسيحية متدينة لا تتمنّى الصدام مع كنيستها.
وقد جرت منذ عام 1998م جهودٌ لردم الفجوة، عبر إقرار قانون أحوال شخصية موحد لجميع الطوائف المسيحية في مصر. لكنه لم يُعرض على مجلس الشعب رغم الانتهاء من صياغة كافة بنوده، وهو ذات الموقف الذي تكرّر في 2010م بسبب موقف الدولة حينها والذي انصاع لرؤية الكنيسة في التطليق.
والآن، تتكاثف الأنباء للانتهاء من نصٍّ قانوني جديد يتبنّى رؤية موحّدة للأحوال الشخصية للمسيحيين تفعيلاً لنصّ الدستور المصري الذي أقرَّ بأن "شرائع المسيحيين هي المبدأ الرئيسي في تشريعات الأحوال الشخصية".
لكن، حتى الآن لم تخرج المسودّة النهائية من القانون إلى النور لكن التسريبات الأولية تُشير إلى تفاقم الأزمة لا حلّها، إذ سيردم القانون المُنتظر الفجوة بين "لائحة 1938م" و"قرار 1971م" لكن ليس لصالح المطالبين بالطلاق، بل لصالح الكنيسة وسيعتمد "علة الزنا" وحدها سببًا للطلاق حتى لو غير أحد طرفي الزواج مِلته أو أثبت تعرّضه لضررٍ جسيم من الشريك الآخر، وهو ما يعني أن آخر الثغرات التي كانت تُمكن المسيحيات من نيل الطلاق ستُقفل أيضًا.
مصادر إضافية
- "الأحوال الشخصية للمسيحيين المصريين"، هاني لبيب.
- "الخطبة والزواج عند المسيحيين"، القس إبراهيم عبد السيد.
- "الزواج والطلاق في المسيحية منذ القرن الأول وحتى بداية القرن الـ 21"، القس إكرام لمعي.
- "تطور علاقة الكنيسة بمؤسسة الزواج"، ماريان كمال فخري.