بعدما أصبح البابا شنودة كبيرا للكنيسة المصرية المرقسية أصدر قراره البابوي في 1971م والذي نصَّ على أنه "لا يجوز التطليق إلا لعلة الزنا".
بعدما أصبح البابا شنودة كبيرا للكنيسة المصرية المرقسية أصدر قراره البابوي في 1971م والذي نصَّ على أنه "لا يجوز التطليق إلا لعلة الزنا".

شهدت نهاية عام 2000م جدلاً إعلاميًّا واسعا على وقع أزمة بطلتها الممثلة الشهيرة هالة صدقي، والتي ضجّت من حياتها مع زوجها مجدي وليام فسعت للانفصال عنه، وهي الخطوة التي رفضتها الكنيسة القبطية لأن هالة لم تمتلك "سببًا مُقنعًا"، حسب الكنيسة. فبِاستثناء "عِلة الزنا" التي اعتبرها البابا الراحل شنودة الثالث سببًا وحيدًا للتفريق بين الزوجين، ليس بإمكان قبطيات مصر الانفصال عن أزواجهن مهما كان.

نتيجة لهذا الرفض الكنسي خاضت الممثلة المعروفة مشوارًا طويلاً في المحاكم، ورفعت دعاوى قضائية تلو الأخرى لتطليقها عن زوجها. لكنها انتهت جميعًا بالرفض. وهو ما دفعها في النهاية لتغيير ملتها من القبطية الأرثوذكسية إلى السريانية الأرثوذكسية، وهي الثغرة التي أنهت مشكلتها الطويلة. فبُحكم القانون المصري، حالَ اختلاف الزوجين في المِلة الدينية يخضعان لحُكم الشريعة الإسلامية، حتى لو كانا مسيحيين. وهكذا ظفرت هالة المسيحية بالطلاق عبر أبواب الفقه الإسلامي!

 

جذور الأزمة

 

قد تكون حالة هالة صدقي هي الأشهر، لكن هذا لا يمنع تسليط الضوء على حالاتٍ أقل شهرة عانت صاحباتها -وما زلن- في صمت. لا نملك أرقامًا رسمية عن حجم المتضرّرات، لكنها لن تقل عن عشرات الآلاف من المسيحيات وفقًا لتقديرات وسائل الإعلام المحلية.

لا تنظر الكنيسة إلى الزواج كطقس إنساني اجتماعي عادي، وإنما تصفه بأنه "اتحاد روحي بين الرجل وزوجته، وهو يمثّل وحدة الكنيسة مع الله واتباعها أوامره". لذا فإن هدمه عبر الطلاق أمر بغيض لأنه "اختبار لإيمان الإنسان المسيحي، الذي يجب أن يتحمّل مشقات الدنيا ومنها متاعب الزواج". ولهذا نُظر للزواج بأنه علاقة أبدية لا تنحل بالإرادة المنفردة ولا حتى بإرادة الطرفين معًا و"سرٌّ من أسرار الكنيسة السبعة يُعرف بِاسم (سر الزيجة)".

هذه القناعة دفعت الكنيسة المصرية للتشبّث بشراسة "بحقّها" في إقرار الزواج أو إلغائه حتى لو وصل بها الأمر لتحدّي الدولة ذاتها.

لم ينشأ هذا المشهد المعقّد اليوم، وإنما قبل ذلك بكثير. في 3 مارس عام 1883م، أمر الخديوِي محمد توفيق بتشكيل المجلس الملّي الذي حدّدت لائحته التنفيذية اختصاصات مجلس الأقباط الأرثوذكس العمومي، والذي عُرف بِاسم "المجلس الملي العام"، وكان منها نظر الأحوال الشخصية للأقباط.

 تنظر الكنيسة إلى للزواج بأنه علاقة أبدية لا تنحل بالإرادة المنفردة ولا حتى بإرادة الطرفين معًا.

وفي 9 مايو سنة 1938م، أعد المجلس الملّي لائحة خاصة بالأحوال الشخصية اعتمدت بشكلٍ كبير على كتاب "الخلاصة القانونية في الأحوال الشخصية" الذي كتبه فيلوثاوس عوض رئيس الكنسية المرقسية بالأزبكية. نصّت تلك اللائحة على 7 أسباب تُبيح الطلاق، هي: "الزنا"، الخروج عن الدين المسيحي، الغياب لـ7 سنوات متتالية، السجن، الجنون المطبق أو المرض الذي يُجبر صاحبه على إيذاء الآخرين، الاعتداء الجسدي، فساد الأخلاق والانغماس في الرذيلة، إساءة المعاشرة والإخلال بالواجبات، الرهبنة.

ونصّت المادة 69 من اللائحة على أنه "يجوز لكل من الزوجين بعد الحكم بالطلاق أن يتزوج من شخص آخر، إلا ذا نص الحكم على حرمان أحدهما أو كليهما من الزواج. وفي هذه الحالة لا يجوز لمن قضى بحرمانه أن يتزوج إلا بتصريح من المجلس".

الملفت هنا أنه بخلاف الزنا الذي نصَّ عليه "الكتاب المقدّس" صراحةً كسببٍ للطلاق، أضافت اللائحة ستة أسباب أخرى اعتبرتها مُوجِبة للطلاق.

لم ينفرد فيلوثاوس عوض بهذا التوسُّع في التطليق، وإنما شاركه فيه عدد من أعلام اللاهوت القبطي  القدامى، مثل الصفي أبو الفضائل بن العسال في كتابه "المجموع الصفوي"، وما جاء في كتاب "قوانين البابا كيرلس بن لقلق" الذي أجازه مجمع المطارنة والأساقفة عام 1239م، وكذلك كتاب "مصباح الظلمة  في إيضاح الخدمة" للقس أبو البركات ابن كبر أحد أقطاب الكنيسة القبطية في القرن الـ14.

 إضافة إلى "الزنا" الذي نصَّ عليه "الكتاب المقدّس"، أضافت اللائحة ستة أسباب أخرى اعتبرتها مُوجِبة للطلاق.

يعود هذا الرأي لحقبة أقدم من ذلك بكثير أيضا. فهو رأي العلامة أوريجانوس أحد أقدم آباء الكنيسة خلال القرن الثاني الميلادي، والذي قال في كتابه المخصص لشرح إنجيل متّى: "إن سماح بعض رؤساء الكنائس بتزويج المرأة المُطلقة أثناء حياة زوجها الأول مضاد لوصية الإنجيل، إلا أن لهم عُذرًا في ذلك حيث إنهم يتّقون شرورًا أعظم يُمكن أن تحدث لو تشددوا في أمر الوصية"، وهو ذات ما قصده القديس غرغوريس الثاولوغوس -عاش في القرن الـ4-، عندما كتب: "نحن لا نعاقب الذي يتزوّج ثانية، لأن الزواج أفضل من الزنا في الخفاء".

أكثر من هذا، يوضح القس إكرام لمعي في بحثه "الزواج والطلاق في المسيحية" أن الكنيسة لم تكن تتحكم في أمر الزواج والطلاق حتى القرن الخامس الميلادي. وكان أعضاؤها الأوائل يخضعون لقوانين "الدول المدنية" التي يعيشون فيها للزواج حتى أعلن الإمبراطور الروماني قسطنطين في القرن الميلادي أن ديانة دولته هي المسيحية، فاندفع الآلاف لدخولها. وهنا بدأت الكنيسة في وضع قوانين للزواج والطلاق.

ويضيف: "وهكذا، نُلاحظ أن مسألة الزواج والطلاق على طول التاريخ لم تكن توضع تحت بند الإيمان والكفر مثل رفض التوحيد والتثليث أو طبيعة السيد المسيح، لكنها تُوضع تحت بند خطايا يُمكن تجاوزها تجنبًا لخطايا أعظم".

 

جمال عبد الناصر يغيّر قواعد اللعبة

 

في عام 1955م، في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، صدر القانون 461 الذي ألغى كافة المحاكم الشرعية والملية. وأحال كل ما لديها من قضايا إلى محاكمٍ مدنية اعتبارًا من بداية يناير عام 1956م.

وبهذا القانون، تقلّصت صلاحيات المجلس الملّي ولم يعد يملك الحقّ في النظر بقضايا المواريث أو أي منازعات قبطية شخصية إلا في اختصاص وحيد، هو النظر في تصاريح الزواج لمن حكمت لهم المحاكم المدنية بأحكام بطلان الزواج أو التطليق.

وبناءً على هذا الوضع المعقد، لم تعد الكنيسة تملك الحقّ في التطليق قانونًا، لكنها تملك الحقّ في الإقرار بصحة هذا التطليق، وفي السماح للشخص المُطلق بالزواج مرة أخرى أم لا. تزامَن ذلك مع اتخاذ الكنيسة منحى أكثر تشدّدًا بشأن الطلاق، فحاولت تقليص أسبابه في مقترحات عُرفت بِاسم "مجموعة 55"، مطالبة وزارة العدل المصرية بإقرار قانون يُطبّق هذه مقترحات هذه المجموعة على الأقباط بقوة القانون، فرفضت الوزارة واكتفت بالعمل بلائحة 1938م.

وفي عام 1962م، ترأّس الأنبا شنودة (أسقف التعليم حينها، والبابا شنودة الثالث لاحقًا) لجنة أعدّت مذكرة تُطالب فيها بقصر أسباب الطلاق على أمرٍ واحد وهو "عِلة الزنا"، رفضت الدولة تطبيقها فظلَّ الأمر مُجمدًا.

 

في عهد السادات.. الأزمة تتفاقم

 

بعدما أصبح البابا شنودة كبيرا للكنيسة المصرية المرقسية أصدر قراره البابوي في 1971م والذي نصَّ على أنه "عملاً بوصية الرب في الإنجيل لا يجوز التطليق إلا لعلة الزنا"، وأن كل طلاق يحدث لغير هذه العلة الواحدة لا تعترف به الكنيسة.

وهو ما أضفى تعقيدًا إضافيًا على الزيجات القبطية. فالمرأة المسيحية لم يعد بإمكانها الطلاق إلا لسببٍ وحيد يتعذّر إثباته غالبا. فكيف تثبت المرأة -بشكلٍ قاطع- "جريمة الزنا"؟

 

لم تقدّم الكنيسة -حينها- جوابًا قاطعًا في هذا الصدد. وبالتالي تم الاعتماد على إجراءات القوانين المدنية المستمدة بشكلٍ مباشر من الشريعة الإسلامية.

بعدما أصبح البابا شنودة كبيرا للكنيسة المصرية أصدر قراره البابوي في 1971م والذي نصَّ على أنه "لا يجوز التطليق إلا لعلة الزنا".

تولّى الرئيس السادات والبابا شنودة منصبيهما في نفس العام وهو 1971م. وفي عهد السادات شهدت مصر نموًّا كبيرًا للتيار الإسلامي؛ وتلقَب الرئيس نفسه بِاسم "الرئيس المؤمن" وأجرى تعديلاً دستوريًّا أصبحت بموجبه "الشريعة الإسلامية" هي المصدر الرئيسي للتشريع.

تصاعدت مشاعر الاستقطاب الديني في مصر، والتي بلغت ذروتها في أحداث الخانكة بعدما حرق مسلمون كنيسة أقيمت بدون ترخيص، وهو ما احتجّت عليه الكنيسة بتنظيم مظاهرة ضخمة من القساوسة.

حالة الشقاق بين السادات وشنودة أنبتت جفاءً بين الكنيسة والدولة، فعمل شنودة على التشدد في مواقفه بدوره لتحصين الجماعة القبطية من النفوذ الإسلامي الذي اخترق كافة مؤسسات مصر في عهد السادات. وبلغ الخصام بين الرجلين مداه حين قرّر السادات إلغاء قرار تعيين شنودة وتحديد إقامته في دير الأنبا بيشوي في وادي النطرون.

وعقب وفاة السادات وتولّي حسني مبارك السُلطة من بعده حافظت الكنيسة على تفسيرها المحافظ لـ"أسباب الطلاق"، رغم تراجع حدة الأجواء المجتمعية العدائية التي نشأ فيها هذا القرار.

هنا، عاش مسيحيو مصر في مأزق؛ فالقضاء يحكم لهم بالطلاق وفقًا للائحة 1938م المرنة (ذات السبعة أسباب) بينما الكنيسة لا تُطبّق إلا القرار البابوي الذي لا يقرّ أي طلاق إلا لعلة الزنا. وهكذا أصبح طلاق المحكمة لا يُلزم المجلس الإكليريكي بإعطاء المُطلّق تصريح زواج إلا لمن نال طلاقه بِعلة الزنا.

رفضت الكنيسة القبطية في عهد البابا شنودة الثالث قبول الطلاق إلا في حالة "الزنا".

هذا المأزق بلغ ذروته في سنة 2010م حين قضت محكمة القضاء الإداري بأحقية مواطن في الحصول على تصريح بالزواج الثاني. وقالت في حيثيات حُكمها إن "المحكمة تقدّر المشاعر الدينية لدى الكنيسة وقادتها لكنها تحكم بمقتضى القانون وليس بناءً على التشريعات الدينية".

امتنعت الكنيسة المصرية عن تنفيذ ذلك الحُكم. واعتبر البابا شنودة أن "إباحة فكرة الزواج الثاني بعد الطلاق ستدمّر الأسرة المسيحية"، وأنه سيرفض أي حُكم قضائي ضد الإنجيل و"سيشلح" أي كاهن يعقد زواجًا ثانيًا لقبطي أو قبطية.

هنا زاد المشهد تعقيدًا بعدما رفع المواطن المٌتضرر دعوى قضائية أخرى تُطالب بعزل البابا من منصبه لامتناعه عن تنفيذ حُكم قضائي!

 

البحث عن حلول ولو بتغيير الدين!

 

إزاء هذا الرفض الكنسي، لم يعد أمام الراغبات والراغبين في الطلاق إلا 3 طرق مُرة: تغيير الديانة بالكلية، تغيير المِلة (كما فعلت هالة صدقي)، أو اللجوء إلى الزواج العرفي والمدني.

وهذا الخيار الأخير لا تعترف به الكنيسة وتعتبر القائمين عليه "زُناة" لا يستحقّون اللجوء إليها من أجل الطلاق، أو لحل خلافاتهم الزوجية أو حتى لتعميد أطفالهم. وبالتالي، يظلُّ حلاّ مستبعدًا أمام أي مسيحية متدينة لا تتمنّى الصدام مع كنيستها.

وقد جرت منذ عام 1998م جهودٌ لردم الفجوة، عبر إقرار قانون أحوال شخصية موحد لجميع الطوائف المسيحية في مصر. لكنه لم يُعرض على مجلس الشعب رغم الانتهاء من صياغة كافة بنوده، وهو ذات الموقف الذي تكرّر في 2010م بسبب موقف الدولة حينها والذي انصاع لرؤية الكنيسة في التطليق.

والآن، تتكاثف الأنباء للانتهاء من نصٍّ قانوني جديد يتبنّى رؤية موحّدة للأحوال الشخصية للمسيحيين تفعيلاً لنصّ الدستور المصري الذي أقرَّ بأن "شرائع المسيحيين هي المبدأ الرئيسي في تشريعات الأحوال الشخصية".

لكن، حتى الآن لم تخرج المسودّة النهائية من القانون إلى النور لكن التسريبات الأولية تُشير إلى تفاقم الأزمة لا حلّها، إذ سيردم القانون المُنتظر الفجوة بين "لائحة 1938م" و"قرار 1971م" لكن ليس لصالح المطالبين بالطلاق، بل لصالح الكنيسة وسيعتمد "علة الزنا" وحدها سببًا للطلاق حتى لو غير أحد طرفي الزواج مِلته أو أثبت تعرّضه لضررٍ جسيم من الشريك الآخر، وهو ما يعني أن آخر الثغرات التي كانت تُمكن المسيحيات من نيل الطلاق ستُقفل أيضًا.

 

مصادر إضافية

  • "الأحوال الشخصية للمسيحيين المصريين"، هاني لبيب.
  • "الخطبة والزواج عند المسيحيين"، القس إبراهيم عبد السيد.
  • "الزواج والطلاق في المسيحية منذ القرن الأول وحتى بداية القرن الـ 21"، القس إكرام لمعي.
  • "تطور علاقة الكنيسة بمؤسسة الزواج"، ماريان كمال فخري.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".