ترفض الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية ترسيم المرأة في أي وظيفة من وظائف الكهنوت.
ترفض الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية ترسيم المرأة في أي وظيفة من وظائف الكهنوت.

قدمت المسيحية رؤية أكثر مرونة من الرؤية التقليدية التي ظهرت في أسفار العهد القديم. تتضح الأُطر العامة لتلك الرؤية في المبدأ العام الوارد في الإصحاح الثالث من رسالة بولس إلى أهل غلاطية: "لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ". وضع هذا النص مبدأ للمساواة بين الذكور والإناث، وأن الجميع يصبحون متكافئين عند الإيمان بيسوع.

ومع ذلك، لا يخلو العهد الجديد من تفاصيل مناقضة تماما لهذه الصورة العامة. على سبيل المثال، تظهر التفرقة بين الجنسين في الإصحاح الخامس من رسالة بولس إلى أهل أفسس: "أَيُّهَا النِّسَاءُ اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ، لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ الْجَسَدِ. وَلَكِنْ كَمَا تَخْضَعُ الْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذَلِكَ النِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ". وتظهر هذه التفرقة أيضا في الإصحاح الرابع عشر من رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس: "لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي الْكَنَائِسِ، لأَنَّهُ لَيْسَ مَأْذُونًا لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ، بَلْ يَخْضَعْنَ كَمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيْضًا". في هذا السياق، يحضر السؤال عن دور المرأة في الكهنوت المسيحي، وعن إمكانية توليها للوظائف الدينية المختلفة. هو الأمر الذي سنسلط عليه الضوء في هذا المقال.

 

العذراء والمجدلية.. نساء المسيحية المبكرة

 

عرفت المسيحية عددًا كبيرًا من النساء اللاتي لعبن أدوارًا مهمة في تاريخها المبكر. تأتي مريم العذراء، أم المسيح على رأس القائمة. تؤكد السردية المسيحية على أن العذراء ولدت المسيح بشكل إعجازي، وعلى أنها قدمت له الحماية وأبعدته عن أيدي أعدائه، كما أنها ربته حتى بلغ مبلغ الرجال. وبعدها آمنت بتعاليمه وتبعته بثبات حتى صُلب في تل الجلجثة.

منحت الكنائس المسيحية مريم واحدًا من الألقاب الدينية التي لا مثيل لها، وهو لقب أم الإله (ثيوتوكوس)". يذكر قاموس المصطلحات الكنسية الظروف التي أحاطت بظهور هذا اللقب، فيقول: "قام مجمع أفسس المسكوني المقدس الذي انعقد سنة 431م، بحضور 200 من أساقفة العالم، بإقرار عظمة العذراء ووضع مقدمة قانون الإيمان التي ورد فيها: "نعظمك يا أم النور الحقيقي ونمجدك أيتها العذراء القديسة والدة الإله لأنك ولدت لنا مخلص العالم. أتى وخلص نفوسنا".

منحت الكنائس المسيحية مريم واحدًا من الألقاب الدينية التي لا مثيل لها، وهو لقب أم الإله (ثيوتوكوس)".

من جهة أخرى، أقرت المسيحية بما ورد في العهد القديم من جواز تسمية بعض النساء بالنبيّات. في هذا المعنى، جاء على لسان بطرس في الإصحاح الثاني من سفر أعمال الرسل، أنه لمّا حلت الروح القدس على الرسل في اليوم الخمسين من قيامة المسيح، أنه قال: "بَلْ هذَا مَا قِيلَ بِيُوئِيلَ النَّبِيِّ. يَقُولُ اللهُ: وَيَكُونُ فِي الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ أَنِّي أَسْكُبُ مِنْ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ، فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ، وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤًى وَيَحْلُمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَمًا". القول الذي يحمل اعترافًا واضحًا بنبوة بعض النساء. في هذا السياق، كانت بنات فِيلُبُّسَ الْمُبَشِّرِ من أشهر من لقبن بالنبيّات في العهد الجديد.

مريم المجدلية كما تظهر في فسيفساء واجهة كنيسة القديس أنتوني في فيينا بالنمسا.

اشتهرت أيضًا مريم المجدلية في الفترة المبكرة من المسيحية باعتبارها واحدة من أقرب الشخصيات النسائية للمسيح. عُرفت المجدلية باسم رسولة الرسل، وكانت أول من رأى المسيح بعد قيامته من الموت، حسب المعتقدات المسيحية. حينها، قال لها: "لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ …"، وذلك بحسب إنجيل يوحنا. يتحدث الإصحاح العاشر من إنجيل لوقا أيضًا، عن الأختين مريم ومرثا اللتين علمهما المسيح بنفسه تعاليم الشريعة.

 

طابيثا ودميانة وهيلانة.. القديسات في حقبة الرسل

 

عرف العالم المسيحي في فترة الرسل (السبعون سنة التالية لقيامة المسيح) العديد من النساء اللاتي اضطلعن بمهام مؤثرة ومحورية. يذكر الإصحاح التاسع من سفر أعمال الرسل قصة طابيثا التي قامت من الموت على يد بطرس، فيقول: "وَكَانَ فِي يَافَا تِلْمِيذَةٌ اسْمُهَا طَابِيثَا، الَّذِي تَرْجَمَتُهُ غَزَالَةُ. هذِهِ كَانَتْ مُمْتَلِئَةً أَعْمَالًا صَالِحَةً وَإِحْسَانَاتٍ كَانَتْ تَعْمَلُهَا. وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ أَنَّهَا مَرِضَتْ وَمَاتَتْ، فَغَسَّلُوهَا وَوَضَعُوهَا فِي عِلِّيَّةٍ.. فَأَخْرَجَ بُطْرُسُ الْجَمِيعَ خَارِجًا، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْجَسَدِ وَقَالَ: «يَا طَابِيثَا، قُومِي!» فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا. وَلَمَّا أَبْصَرَتْ بُطْرُسَ جَلَسَتْ، فَنَاوَلَهَا يَدَهُ وَأَقَامَهَا. ثُمَّ نَادَى الْقِدِّيسِينَ وَالأَرَامِلَ وَأَحْضَرَهَا حَيَّةً. فَصَارَ ذلِكَ مَعْلُومًا فِي يَافَا كُلِّهَا، فَآمَنَ كَثِيرُونَ بِالرَّبِّ". ووردت أيضًا أسماء العديد من النسوة اللاتي حظين بإشادة بولس خلال رحلاته المتعددة في آسيا وأوروبا. من تلك النسوة كل من بريسكّلا، وتريفينا، وتريفوسا، وبرسيس.

وظهرت العديد من القديسات مع وقوع الاضطهاد البيزنطي للمسيحيين، منهن القديسة دميانة في مصر، والقديسة مارينا الراهبة في سوريا، والقديسة مونيكا في شمال أفريقيا، وهي أم القديس أوغسطينوس، والذي يُعد واحدًا من أهم رجال الدين المسيحي عبر التاريخ.

وقد تزامن تصالح الإمبراطورية البيزنطية مع المسيحيين مع ظهور القديسة هيلانة والدة الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الأول، وهي التي "عثرت" على "الصليب المقدس" (الصليب الذي صلب عليه المسيح)، كما لعبت دورًا مهمًا في إقامة كل من كنيسة المهد ببيت لحم، وكنيسة القيامة بأورشليم.

 

المرأة والكهنوت

 

يؤكد الإصحاح الأول من سفر التكوين أن الله خلق آدم وحواء على صورته، فيقول: "فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ". رغم ذلك، اعتاد العقل المسيحي الجمعي على الإشارة لله في صورة ذكورية. فالأقنوم الأول هو الأب، والأقنوم الثاني هو الابن. ولم يكن من المستساغ أبدًا قبول الإشارة إليهما بالأم أو الابنة.

كان من الطبيعي -والحال كذلك- أن نجد أن معظم الوظائف الكهنوتية في المسيحية -مثل الأب، والبطريرك، والبابا- تحمل بالأساس صبغة لغوية ذكورية. الأمر الذي تماشى مع تعاليم العهد القديم، تلك التي أكدت على أن وظائف الكهنوت مقصورة على الرجال فحسب.

تسمح الكنيسة الأرثوذكسية للنساء بأن يخدمن في الكنيسة في منصب الشماس فقط، وهو من المناصب غير الكهنوتية.

يؤكد القمص صليب حكيم في كتابه "سؤال وجواب" على هذا المعنى، فيقول: "إن الذي يقوم بالخدمة الكنسية من إقامة الذبيحة وقيادة الشعب في الصلاة والتسبيح وقراءة فصول الكتاب وسيرة قديس اليوم والوعظ والتعليم هو الرجل". يستشهد على ذلك بأن المسيح اختار اثني عشر رجلًا كتلاميذ له، كما اختار سبعين رجلًا آخرين وأرسلهم للتبشير، بينما لم يختر امرأة واحدة لتلك المهمة.

من هنا، ترفض الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية ترسيم المرأة في أي وظيفة من وظائف الكهنوت. تسمح الكنيسة الأرثوذكسية للنساء بأن يخدمن في الكنيسة في منصب الشماس فقط دون غيره من المناصب، مع العلم بأن منصب الشماس من المناصب غير الكهنوتية، أي التي لا تدخل ضمن سر الكهنوت. وتعتمد الكنيسة في إباحتها تولي النساء لهذا المنصب لسابقة تاريخية وردت الإشارة إليها في سفر رسالة بولس إلى أهل رومية. ورد في هذا السفر الحديث عن فيبي الشماسة، والتي أشار بولس إليها بالقول: "أوصي إليكم بأختنا فيبي خادمة الكنيسة التي في كنخريا كي تقبلوها في الرب كما يحق للقديسين، وتقوموا لها في أي شيء احتاجته منكم لأنها صارت مساعدة لكثيرين ولي أنا أيضًا". كتبت فيبي الرسالة إلى أهل رومية، على لسان بولس، ثم أوصلتها إلى المؤمنين فيما بعد.

يذكر الأنبا متاؤس في كتاب "الشمامسة والشماسات" أنه من الشروط التي تراعيها الكنيسة القبطية عند اختيار الشماسات أن تكون عذراء أو أرملة أو تكون بلغت الستين من عمرها. تقوم الشماسة بعدد من الوظائف المساعدة، ومنها معاونة الكاهن في طقوس تعميد النساء، والتناول، وتنظيف الكنيسة، ومساعدة العجائز والمرضى، والتدريس في مدارس الأحد.

يبدو رفض الكنيسة الكاثوليكية لسيامة النساء في المناصب الكهنوتية أكثر وضوحًا. خصوصًا مع رفضها لتعيين النساء في منصب الشماسة حتى، وفي ظل انتشار الكثير من القصص التراثية التي تتهكم على دخول النساء للإكليروس (الاسم الذي يُطلق على النظام الكهنوتي الخاص بالكنيسة).

من تلك القصص قصة "البابا" جون الثامن. تحكي بعض السرديات التي تعود للعصور الوسطى أن واحدة من الفتيات الألمانيات انضمت لأحد الأديرة المخصصة للذكور فقط، وأنها تنكرت في هيئة شاب، ولم تلبث أن ترقت في المناصب حتى وصلت لمرتبة الكاردينال، وبعدها تم اختيارها كبابا تحت اسم جون الثامن. بقيت الفتاة في منصبها لمدة سنتين كاملتين، ثم انكشف أمرها أثناء مرور موكبها البابوي في أحد الميادين. تذكر القصة أن الفتاة كانت حاملًا، وأن المخاض قد باغتها، لتلد طفلها أمام عيون الناس المحيطين بالموكب!

في الشرق الأوسط، تم ترسيم رولا سليمان، راعية للكنيسة الإنجيلية المشيخية بطرابلس بلبنان عام 2009.

طبعا، تحيط بهذه القصة الكثير من الشكوك، وهي أقرب إلى الرواية الشعبية، خاصة أن الروايات تختلف حول مصير الفتاة المتنكرة ووليدها. وتزعم بعضها أنهما رُجما حتى الموت، في حين تكتفي روايات أخرى بالقول إنهما نُقلا إلى أحد الأديرة البعيدة.

يختلف الوضع في الكنائس الأخرى. على سبيل المثال، أعلنت الكنيسة الإنجليكانية -كنيسة إنجلترا- في مؤتمر لامبث سنة 1988م عن إباحتها سيامة المرأة في منصب القسيس، أو في منصب الأسقف. أما الكنائس البروتستانتية -وهي الكنائس التي ظهرت في أوروبا في عصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر الميلادي، ولا تؤمن بسر الكهنوت- فأجازت سيامة النساء في المناصب الكهنوتية. على سبيل المثال، قامت الكنيسة اللوثرية في الولايات المتحدة الأميركية في سنة 1970م، بسيامة إليزابيث ألفينا بلاتز كأول امرأة تُعين في منصب قسيس في قارة أميركا الشمالية.

أما في منطقة الشرق الأوسط، فتم ترسيم رولا سليمان، راعية للكنيسة الإنجيلية المشيخية بطرابلس بلبنان، في 2009، وهي أول راعي كنيسة امرأة بالمنطقة العربية. في العام نفسه، تقدمت آن إميل زكي بأول طلب من نوعه لترسيمها قسيسة في الكنيسة الإنجيلية في مصر، وهو الطلب الذي لم يتم البت فيه حتى الآن.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".