أجاز البعض وصول النساء لمرتبة النبوة. منهم كل من أبي الحسن الأشعري، وابن حزم المتوفى، والقرطبي.
أجاز البعض وصول النساء لمرتبة النبوة. منهم كل من أبي الحسن الأشعري، وابن حزl، والقرطبي.

لم يعرف الإسلام وظائف كهنوتية دينية رسمية، كما عرفتها كل من اليهودية والمسيحية من قبل. رغم ذلك، ظهرت مجموعة من الوظائف المهمة في المجتمعات المسلمة، تلك التي ربطت بشكل وثيق بين الديني والدنيوي. عُرفت تلك الوظائف في الثقافة الإسلامية باسم "الأحكام السلطانية والولايات الدينية". وكتب الكثير من الفقهاء في تفاصيل تلك الوظائف، حتى عُدّ باب الولايات الدينية بابًا مستقلًا من أبواب الفقه والتشريع.

سنلقي الضوء في هذا المقال على نظرة الفقه الإسلامي لدور المرأة وموقعها في الولايات الدينية، لنرى كيف نظر الفقهاء المسلمون لقضية وصول المرأة لمناصب النبوة والخلافة وإمامة الصلاة والقضاء والحسبة.

 

القوامة.. الكلمة السحرية

 

تُعدّ فكرة "القوامة" الكلمة المفتاح الذي بنى عليه الفقهاء موقفهم من قضية ولاية المرأة للوظائف الدينية السياسية. وحسب هؤلاء الفقهاء، تظهر فكرة قوامة الرجل على المرأة في النص القرآني في الآية الرابعة والثلاثين من سورة النساء "الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ…". يوضح ابن كثير المتوفى 774هـ في تفسيره المقصود بالقوامة، فيقول: "أي الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها، والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت… إن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة. ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك المُلك الأعظم… وكذا منصب القضاء وغير ذلك"!

بدأ الجدل حول إمامة المرأة 2008، عندما قامت الأستاذة الجامعية أمينة ودود بإمامة الصلاة في أحد المساجد الواقعة بمدينة أكسفورد بإنجلترا.

اعتقاد الفقهاء بقوامة الرجل -بشكل مطلق- على المرأة، تم ترسيخه من خلال بعض النصوص القرآنية التي تم انتزاعها من السياق التاريخي والمجتمعي الخاص بها. على سبيل المثال، جاء في تفسير القرطبي للآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى" أن "معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع…".

من هنا، ذهب السواد الأعظم من الفقهاء المسلمين للقول بقصر الوظائف المهمة في الدولة على الرجال دونًا عن النساء. تم الترويج كذلك إلى أن وظيفة المرأة تنحصر في العناية بالزوج والأبناء، وما يتصل بذلك من أمور البيت.

 

نبوة النساء

 

ذهب جمهور الفقهاء إلى أن منصب النبوة مقصور على الرجال، وأن النساء لا يمكن أن يصبحن نبيّات. بنى هؤلاء الفقهاء موقفهم في المسألة على ما ورد في الآية الثالثة والأربعين من سورة النحل "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ..."، متغافلين عن الفارق الواضح بين مفهومي النبوة والرسالة.

أجاز البعض وصول النساء لمرتبة النبوة. منهم كل من أبي الحسن الأشعري المتوفى 324هـ، وابن حزم المتوفى 456هـ، والقرطبي المتوفى 671هـ. يوضح ابن حزم رأيه في المسألة في كتابه "الفِصل في الملل والأهواء والنحل"، فيقول: "فكل من أعلمه الله عز وجل بما يكون قبل أن يكون أو أوحى إليه مُنبئًا له بأمر ما، فهو نبي بلا شك". ذهب ابن حزم بناءً على ما سبق إلى تصحيح القول بنبوة نفر من النساء. منهن السيدة سارة زوجة النبي إبراهيم، وأم النبي موسى، والسيدة مريم العذراء.

 

للرجال فقط.. الإمامة العظمى

 

اتفق الفقهاء على اعتبار الذكورة من ضمن الشروط الواجب توافرها في الخليفة/الإمام. لم ينص القرآن على هذا الشرط، بل بنى هؤلاء الفقهاء رأيهم اعتمادًا على ما ورد في صحيح البخاري: "لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً".

تتفق معظم المذاهب الإسلامية -أهل السنة والجماعة والشيعة والزيدية والإباضية- على اعتبار شرط الذكورة في منصب الإمامة العظمى. لكن بعض الفرق المنتسبة للخوارج تخالف هذا الرأي. يتحدث عبد القاهر البغدادي المتوفى 429هـ، في كتابه "الفرق بين الفرق"، عن إحدى الجماعات ويسميها الشبيبية -نسبةً إلى زعيمها شبيب الشيباني المتوفى 77هـ- فيقول: "إنه -شبيب- مع أتباعه أجازوا إمامة المرأة منهم إذا قامت بأمورهم وخرجت على مخالفيهم، وزعموا أن غزالة أم شبيب كانت الإمام بعد قتل شبيب إلى أن قُتلت، واستدلوا على ذلك بأن شبيبًا لما دخل الكوفة أقام أمه على منبر الكوفة حتى خطبت".

لكن رغم الموقف الفقهي الرافض لإمامة المرأة، يذخر التاريخ الإسلامي بالشخصيات النسائية التي تمكنت من الوصول للسلطة والحكم، حتى لو تم ذلك بشكل غير رسمي أو من وراء ستار. على سبيل المثال، اشتهرت كل من الخيزران، زوجة الخليفة العباسي المهدي، وأم ولديه موسى الهادي وهارون الرشيد، وصبح البشكنشية أم الخليفة هشام المؤيد بالله في الأندلس، وست المُلك أخت الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وتركان خاتون، زوجة السلطان السلجوقي ملكشاه.

تسبب وصول المرأة للحكم في بعض الأحيان في عدد من ردود الأفعال المعارضة من جانب الخلفاء والعامة. من ذلك ما وقع في سنة 648هـ، بعد أن اعتلت شجر الدر -أرملة الصالح نجم الدين أيوب- عرش مصر. أرسل الخليفة العباسي المستعصم بالله متهكمًا "إن كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتى نسيّر إليكم رجلاً". انتهى هذا الموقف بقيام شجر الدر بالتنازل عن المُلك لزوجها الجديد عز الدين أيبك، ليبدأ عصر الدولة المملوكية.

 

إمامة الصلاة

 

يعتبر الفقهاء أن إمامة الصلاة هي الوجه المقابل "للإمامة العظمى"/ الخلافة. من هنا، رفضوا إجازة إمامة المرأة للرجال. وبنوا رأيهم في المسألة على الحديث المروي عن جابر بن عبد الله، والوارد في سنن ابن ماجة: "لا تؤمن امرأة رجلًا، ولا أعرابي مهاجرًا، ولا فاجر مؤمنًا".

على الجهة المقابلة، استدل بعض المجيزين لإمامة المرأة الرجل في الصلاة برواية وردت بشأن صحابية تحفظ القرآن تُدعى أم ورقة. تذكر تلك الرواية التي يذكرها أحمد بن حنبل المتوفى في مسنده، أن النبي كان يزور أم فروة في منزلها وأنه قد "جعلَ لَها مؤذِّنًا يؤذِّنُ لَها، وأمرَها أن تؤمَّ أهلَ دارِها".

ويوضح الفقيه والفيلسوف ابن رشد الحفيد في كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، الآراء الفقهية المختلفة في المسألة، فيقول: "...اختلفوا -أي الفقهاء- في إمامة المرأة فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال. واختلفوا في إمامتها النساء، فأجاز ذلك الشافعي ومنع ذلك مالك. وشذ أبو ثور والطبري فأجازا إمامتها على الإطلاق. وإنما اتفق الجمهور على منعها أن تؤم الرجال لأنه لو كان جائزًا لنُقل ذلك عن الصدر الأول ولأنه أيضًا لما كانت سنتهن في الصلاة التأخير عن الرجال علم أنه ليس يجوز لهن التقدم عليهم لقوله عليه الصلاة والسلام أخروهن حيث أخرهن الله...".

 

القضاء والحسبة

 

اتفق معظم الفقهاء على عدم جواز تولية المرأة أعمال القضاء، وما يتصل به من أمور مثل الحسبة. يذكر ابن قدامة المقدسي في كتابه "المغني" تفصيل المسألة مستدلًا بما وقع زمن النبي والخلفاء الراشدين. يقول: "لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاءً ولا ولاية بلد، فيما بلغنا، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبًا". ووأضح ابن رشد بعض الاختلافات التي طالت تلك المسألة، فقال: "وكذلك اختلفوا في اشتراطِ الذُّكورةِ؛ فقال الجمهورُ: هي شرطٌ في صِحَّةِ الحُكمِ، وقال أبو حنيفةَ: يجوزُ أن تكونُ المرأةُ قاضيًا في الأموالِ. قال الطبريُّ: يجوزُ أن تكونَ المرأةُ حاكمًا على الإطلاقِ في كُلِّ شيءٍ".

تؤكد الحوليات التاريخية أن البلاد الإسلامية قد عرفت بعض النساء اللاتي تولين أعمال القضاء والحسبة في بعض الفترات. على سبيل المثال، لما وصل الخليفة العباسي المقتدر بالله إلى الخلافة في بدايات القرن الرابع الهجري، تمكنت أمه من السيطرة على الدولة، وعينت واحدة من النساء القريبات منها لتتولى منصب القضاء. يذكر شمس الدين الذهبي في كتابه "سيّر أعلام النبلاء" الظروف التي أحاطت بتلك الحادثة، فيقول: "...واستقل بالأمر والنهي السيدة أم المقتدر، وأمرت القهرمانة ثمل أن تجلس بدار العدل، وتنظر في القصص، فكانت تجلس، ويحضر القضاة والأعيان، وتوقع ثمل على المراسم".

ويذكر الحافظ المزي المتوفى في كتابه "تهذيب الكمال" كذلك قصة تعيين عمر بن الخطاب للشفاء بنت عبد الله العدوية في وظيفة الحسبة، فيقول: "وكان عمر بن الخطاب يقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها، وربما ولاها شيئًا من أمر السوق…".

 

في العصر الحديث

 

تمكنت النساء المسلمات من الوصول لمعظم الوظائف السياسية في العصر الحديث. وصلت المرأة لرئاسة الدولة وسدة الحكم في كل من أندونيسيا وباكستان. وعُينت في المناصب الوزارية المختلفة في الأغلبية الغالبة من الدول العربية والإسلامية.

فيما يخص القضاء، فاختيرت المستشارة تهاني الجبالي في 2003م، نائبًا لرئيس المحكمة الدستورية العليا في مصر. وفي مارس 2022م، تولت السيدة رضوى حلمي أحمد علي منصبها كقاضية في مجلس الدولة بمصر للمرة الأولى في تاريخ البلاد.

وأيضًا، حظيت مسألة إمامة المرأة للرجال بزخم كبير في العصر الحديث. بدأ الجدل حول تلك المسألة في أكتوبر 2008م، عندما قامت الأستاذة الجامعية أمينة ودود بإمامة الصلاة في أحد المساجد الواقعة بمدينة أكسفورد بإنجلترا.

تجدد الجدل مرة أخرى في فبراير 2020م، عندما أمت كاهنة بهلول، الباحثة في الشؤون الإسلامية، صلاة الجمعة في إحدى القاعات المُستأجرة بالعاصمة الفرنسية باريس.

 

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".