صورة متداولة في مواقع التواصل الاجتماعي للطالبة نيرة- فيسبوك
قتلت "نيرة أشرف" على يد أحد زملائها بسلاح أبيض في مدينة المنصورة بمصر.

أُثير الجدل في المجتمعات العربية مؤخرًا عقب مقتل الطالبة الجامعية المصرية نيرة أشرف على يد أحد زملائها أمام باب الجامعة في واضحة النهار. لم تكن دموية المشهد الباعث الوحيد لتصاعد حالة الجدل. زاد النقاش حول الحادثة بعدما دافع البعض عن القاتل والتمسوا له الأعذار. ووصل النقاش للذروة بعدما عرض أحد الأثرياء دفع الدية لأهل القتيلة مقابل قبولهم التصالح مع الجاني.

أعادت مأسوية تلك الحادثة بعض المواقف القديمة إلى الأذهان. منذ شهور، راح أربعة شباب ضحية حادث تصادم سيارة يقودها ابن أحد كبار رجال الأعمال في مصر. قام أهل الجاني وقتها بدفع ديات القتلى لذويهم وتم إخلاء سبيل المتهم وسط احتجاجات مجتمعية رافضة ومستنكرة. في 2011م أيضًا، وعقب اندلاع ثورة يناير في مصر، دعا عدد من رجال الدين لدفع دية ضحايا الثورة عوضًا عن القصاص من قاتليهم. طرحت تلك المواقف بعض الأسئلة المُعلقة التي تنتظر الإجابة. تُرى هل يمكن أن يُعوض الدم بالمال؟ وهل تبيح الشريعة الإسلامية ذلك؟

نلقي في هذا المقال الضوء على الدية وأحكامها في كل من المدونات القانونية الحديثة والمصادر الفقهية القديمة، لنرى إذا كان هذا المفهوم لا يزال متاحًا للاشتباك مع السياقات والظروف الآنية المعاصرة، أم أنه مجرد مفهوم فقهي تراثي تجاوزته الإنسانية منذ قرون.

 

الدية في قوانين الدول العربية

 

جاء تعريف الدية في كتب الفقه والقانون بأنها "المال الواجب بجناية على الحر في نفس أو فيما دونها". تختلف قوانين الدول العربية اختلافًا واسعًا فيما يخص اعتباريتها لمفهوم الدية. تنص قوانين بعض الدول على قبول الدية في حالات القتل العمد والقتل الخطأ. وترفضه قوانين البعض الآخر من الدول وإن لمحت إليه بطريق الإشارة في بعض المواضع، دون أن تذكره بشكل صريح.

تُعد قوانين الدول الخليجية من الصنف الأول. تعترف تلك القوانين بشكل كامل بشرعية الدية. وتُقبل فيها الدية في حالات القتل على نحو واسع. في السعودية، يتم اللجوء للدية في الكثير من حالات القتل العمد والقتل الخطأ. في مطلع 2021م، ولمواجهة المبالغة في تقدير الديات التي يدفعها الجناة لأهالي القتلى، قرر مجلس الشورى السعودي تحديد التعويض عن القصاص في النفس وفقاً للحالة الاجتماعية، "فإن كان المجني عليه أعزبا ولديه إخوة يعوض ذووه بمبلغ لا يقل عن مليون ريال، ولا يزيد على مليونين، أما إن كان هذا الأعزب وحيد والديه فيعوض ذووه بمبلغ لا يقل عن مليوني ريال، ولا يزيد على ثلاثة ملايين، فيما يعوض ذوو المجني عليه المتزوج، وليس لديه أطفال بثلاثة ملايين، ولا يزيد على أربعة ملايين، فيما تصل التعويضات المقترحة المقدرة لذوي المجني عليه إن كان متزوجاً ولديه أطفال بأربعة ملايين ريال، إضافة إلى مليون ريال لكل طفل".

يختلف الوضع بعض الشيء في دولة الإمارات. لم يذكر المشرع الدية في القوانين ضمن جرائم القتل العمد "كون العقوبة فيها تصل إلى إعدام الجاني وتنفيذ القصاص بحقه ردعًا له عن فعلته الجسيمة بحق الضحية ولحماية المجتمع منه، لكن القانون جعل المجال مفتوحًا لتقديم ذوي الجاني "دية شرعية لورثة الضحية" تحدد قيمتها باتفاق خارجي بين الطرفين لينتهي الأمر بتقديم تنازل إلى المحكمة... وفي حال اتفاق الطرفين على "الدية الشرعية"، فإنهما يوثقان الاتفاق بتنازل رسمي يقدم إلى المحكمة التي تأخذه في عين الاعتبار وتعمل على تخفيض الحكم فبدلًا من الإعدام تجعلها سجناً".

صورة تعبيرية
حياة عواطف في خطر.. الانتحار كـ"غطاء" لجرائم قتل النساء في العراق
"على سبيل المثال كأن تحترق الفتاة أو الشاب في الحمام أو بالمدفأة أو يلقى حتفه بعد السقوط عند نشر الغسيل، إلا أن التحقيقات لاحقاً تظهر أو من خلال تقرير الطب العدلي بأن سبب الوفاة هو القتل خنقاً أو ضرباً وغيره" يتابع البيراوي.

يختلف الأمر في حالة القتل الخطأ. حدد القانون الاتحادي لدولة الإمارات رقم 17 لسنة 1991م دية المتوفى خطأ ذكرًا أو أنثى بمبلغ مائتي ألف درهم. أما في قطر، تظهر الدية كأحد السبل التي يلجأ إليها الجاني لتخفيف عقوبته. نصت المادة 302 من قانون العقوبات "يُعاقب بالإعدام أو الحبس المؤبد، كل من قتل نفسًا عمدًا... ويُعاقب الجاني بالحبس مدة لا تجاوز سبع سنوات، إذا عفا ولي الدم أو قَبِل الدية". وكذلك نص القانون رقم (19) لسنة 2008م على أنه "تحدد دية المتوفى عن القتل الخطأ، ذكرًا أو أنثى، بمبلغ مائتي ألف ريال".

الأمر نفسه ظهر في المدونات القانونية اليمنية. يقر قانون العقوبات اليمني الدية في حالات القتل العمد والقتل الخطأ. جاء في المادة رقم 40 من قانون العقوبات أن "ديـة القتل العمـد وشـبه العمـد خمسـة ملايين وخمسـمائة ألـف ريال... ودية الخطأ مليون وستمائة ألف ريال...". في السياق نفسه، نص المشرع الليبي في القانون رقــم 6 لسنة 1994م "القاتل عمدًا يُعاقب بالإعدام قصاصًا كل من قتل نفس عمدًا إذا طلبه أولياء الدم ويسقط القصاص بالعفو ممن له الحق فيه وتكون العقوبة الدية... يعاقب كل من قتل نفسًا خطأ أو تسبب في قتلها، بغير قصد ولا تعمد، بالدية كما ورد في سورة النساء الآية 91 و 92".

على الجهة المقابلة، لم يرد ذكر الدية في عدد من المدونات القانونية المعمول بها في بعض الدول العربية. في مصر على سبيل المثال، يؤكد الكثير من القانونيين أن "قانون العقوبات المصري يخلو من أي نص يبيح التسامح مع القاتل والعفو عنه إذا دفع دية، باعتبار أن القصاص من القاتل ليس حقًا لأهل القتيل وذويه فقط بل للمجتمع بأسره الذي روِّع جراء ارتكاب تلك الجريمة الشنيعة". بحسب هؤلاء القانونيين، فإنه يمكن للقاضي أن يخفف العقوبة طبقا للمادة 17 من قانون العقوبات المصري وينزل درجة منها من الإعدام إلى السجن المؤبد مثلًا لأن أهل القتيل تسامحوا ولكن القاضي غير مُلزم بذلك. أما فيما يخص عقوبة القتل الخطأ، فورد في مادة 18 مكرر في قانون رقم 145 لسنة 2006م أنه يجوز التصالح بين أهل الميت والجاني في العديد من الحالات، ومنها "القتل الخطأ الناشئ عن الإهمال، أو الرعونة، أو عدم الاحتراز والتبصر، أو عدم مراعاة اللوائح والقوانين.. والقتل الخطأ الناتج عن إخلال الجاني إخلالًا جسيمًا بما تفرضه على أصول المهنة… أو القتل الذي يحدث نتيجة تعاطي الجاني لمسكر أو مخدر أدى إلى وقوع الحادث الذي ينتج عنه حالة الوفاة…".

يتشابه هذا التصور مع ما ورد في قانون العقوبات العراقي. لم يشر القانون على الإطلاق للدية في المواد القانونية المرتبطة بالقتل العمد، غير أنه تحدث عن التصالح في المادة رقم (36) من قانون العقوبات، والتي تتعلق بالقتل الخطأ في حوادث السيارات. نصت تلك المادة على أن المتسبب في القتل الخطأ يدفع "غرامة لا تقل عن 4 ملايين دينار ولا تزيد على 7 ملايين دينار… وتسقط عقوبة السجن حال التصالح ويكتفى بالغرامة".

 

الدية في الفقه الإسلامي

 

وردت الإشارة إلى الدية في القرآن، وذلك في الآية 92 من سورة النساء "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا".

يذكر الفقيه الحنبلي ابن قدامة المقدسي في كتابه "المغني" أن الأصل في الدية أن تكون بالإبل. يقول: "أجمع أهل العلم على أن الإبل أصلٌ في الدِّية، وأن دِية الحر المسلم مئةٌ من الإبل…". وأوضح رجل الدين المعاصر محمد ناصر الدين الألباني في كتابه "إرواء الغليل" التطور الذي وقع في شكل قبول الدية بعد وفاة النبي. يذكر الألباني أن عمر بن الخطاب لما اُستخلف قام خطيبًا بين المسلمين ذات يوم، وقال: "إن الإبل قد غلت" ثم فصل مقدار الدية المفروضة في كل بلد بحسب نوع المال الشائع فيه. فقال: "على أهلِ الذَّهبِ ألفُ دينارٍ، وعلى أهلِ الوَرِقِ -الفضة- اثنَيْ عشَرَ ألفًا، وعلى أهلِ البقَرِ مِئَتيْ بقرةٍ، وعلى أهلِ الشَّاءِ ألفَيْ شاةٍ، وعلى أهلِ الحُلَلِ مِئتَيْ حُلَّةٍ…".

تذكر المدونات الفقهية الكثير من التفاصيل المتعلقة بالدية. على سبيل المثال، يرى الفقهاء أن دية "أهل الكتاب" تعادل نصف دية المسلم! بنى الفقهاء هذا الرأي على بعض الروايات المنسوبة للنبي. من تلك الروايات ما ورد في سنن ابن ماجة "قضَى رسولُ الله أنَّ عقْلَ -دية- أهلِ الكتابَيْن نصفُ عقْلِ المسلمين، وهم اليهودُ والنَّصارَى".

وأيضًا ذهب الفقهاء إلى أن دية المرأة تعادل نصف دية الرجل. ورد في تفسير القرطبي "وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل…". التباين في تقدير الدية ارتبط أيضًا بالمكانة الاجتماعية. يقول عبد الله الطيار في كتابه "الفقه الميسر": "يرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية وهو مذهب أحمد أن دية العبد هي قيمته ولو زادت عن دية الحر وذلك لأنه مال متقوم فيضمن بقيمته بالغة ما بلغت". في السياق نفسه، تماشت قيمة الدية مع اكتمال خلق الإنسان بعد ولادته. ذهب أكثر الفقهاء إلى أن دية الجنين هي نصف عشر الدية، وهي خمس من الإبل أو خمسون دينارًا.

 

هل تصلح الدية للتطبيق حاليًا؟

 

تثير مسألة الدية العديد من التساؤلات المهمة التي تنتظر الإجابة. فالتشريعات الفقهية المرتبطة بالدية تبدو غريبة بالنظر إلى القوانين العصرية الحديثة.

لتوضيح ذلك التعارض ينبغي الرجوع للسياق التاريخي التي قُررت فيه التشريعات المرتبطة بالدية. ظهرت الدية في المجتمع العربي البدوي منذ عشرات القرون. تألف هذا المجتمع في شكل أسر وعشائر وقبائل. لم يُنظر إلى الفرد في هذا العصر بمعزل عن امتداده العشائري والقبلي. كانت العشيرة- القبيلة هي المحدد الأهم في تحديد هوية الفرد وانتمائه. في هذا السياق، منحت القوانين البدوية العرفية سلطة واسعة للقبيلة لتحديد مصائر أبنائها. في ظل غياب حكومة مركزية قوية مُعترف بها، كان أولياء الدم هم الذين يحددون الخيار الأنسب لأخذ حق قتيلهم.

يتضح أثر البعد التاريخي- الجغرافي في المسألة في تعيين الإبل كأصل للدية. كانت الإبل هي وسيلة النقل الأهم في الصحراء الواسعة، وحملت على ظهورها البضائع والسلع في القوافل التجارية. كان الحصول على مائة من الإبل عوضًا عن قتل أحد الأفراد، يضمن -بالتبعية- قدرًا مقبولًا من الثراء والغنى لأهل القتيل وعشيرته. مع توسع الدولة الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، تم قبول الذهب والفضة عند تحصيل الديات. كان شكل المجتمع الإسلامي يتغير، وصادف هذا التغير تغيرًا موازيًا في التشريعات والأحكام الفقهية.

قتل النساء.. أزمنة الوأد
قتل النساء.. أزمنة الوأد
لا يعني هذا أن المجتمعات المتحضرة خالية من هذا العنف المُوَجَّه ضد النساء، وإنما المقصود أنه في المجتمعات التقليدية البدائية (بدائية على مستوى الوعي الكلي) راسخ، قد جرى تطبيعه وتأكيده، بينما في المجتمعات المتحضرة مُطارَد، قد جرى تجريمه وتأثيمه. والفارق بين النساء في المجتمع التقليدي والمجتمع المتحضر هو ذاته الفارق بين التطبيع والتجريم.   

النقطة الثانية أن الفقهاء القدامى فرقوا في ديات القتلى بناءً على أوضاعهم الاجتماعية ومقدار منفعتهم لقبائلهم. على سبيل المثال يقول ابن القيم الجوزية في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" في تبرير التفرقة بين دية الرجل ودية المرأة: "فَلَمَّا كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَنْقَصَ مِنْ الرَّجُلِ، وَالرَّجُلُ أَنْفَعُ مِنْهَا، وَيَسُدُّ مَا لَا تَسُدُّهُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَالْوِلَايَاتِ وَحِفْظِ الثُّغُورِ وَالْجِهَادِ وَعِمَارَةِ الْأَرْضِ وَعَمَلِ الصَّنَائِعِ الَّتِي لَا تَتِمُّ مَصَالِحُ الْعَالَمِ إلَّا بِهَا وَالذَّبِّ عَنْ الدُّنْيَا وَالدِّينِ لَمْ تَكُنْ قِيمَتُهُمَا مَعَ ذَلِكَ مُتَسَاوِيَةً وَهِيَ الدِّيَةُ"!. أيضًا اتفق أغلب الفقهاء على أن دية اليهودي أو المسيحي تعادل نصف دية المسلم. يتماشى ذلك مع ميول تمييزية واضحة عُرفت بها العصور الوسطى في دول الإسلام وغيرها من الدول.

النقطة الثالثة التي ينبغي الإشارة إليها ها هنا أن النص القرآني لم يشر على الإطلاق لشرعية قبول الديات بدلًا عن القصاص في حالات القتل العمد. اكتفت سورة النساء التأكيد على قبول الدية في حالات القتل الخطأ فحسب. يمكن أن نفهم أن قبول الدية في حالات القتل العمد لم يكن إلا استثناءً فرضته ظروف تلك الحقبة الزمنية التي اعتادت فيها القبائل العربية على شن الغارات ضد بعضهم البعض.

إجمالًا، تظهر تشريعات الدية -وخصوصًا تلك المرتبطة بالقتل العمد- خارج المنظومات القانونية والقيم الحداثية التي ارتضتها المجتمعات المعاصرة. تحتكر الدولة الآن الحق في تنظيم العقوبات واسترداد الحقوق. ولم يعدّ لمفهوم ولي الدم أي وجود مؤثر في المجتمع، باستثنائ المناطق ذات الطابع العشائري المحض. أيضًا، انتهت قانونيا أشكال التمايز المبنية على أسس عرقية أو دينية أو جندرية داخل الدولة. أصبح جميع أفراد المجتمع مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. ولم يعدّ ممكنا التفرقة في تقدير أثمان أرواحهم بناء على أي من المعايير السابقة.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".