حينما تولّى الخليفة العباسي المقتدر بالله الحُكم كان صبيًّا لا يتجاوز عُمره 13 سنة. وهو ما فتح الباب واسعًا أمام أمه "شغب" للسيطرة على مقاليد الدولة، فعينت خيرة خواصها في المناصب القيادية للخلافة، وهو ما جرى مع وصيفتها "ثمل" التي كانت تعمل قهرمانة -أي كبيرة خدم- أم المقتدر، ثم أمرت بتعيينها رئيسة لديوان المظالم سنة 306هـ، تنظر في شكاوى الناس كل جمعة وتقضي بينهم.
وبهذا القرار أصبحت "ثمل" أول قاضية في تاريخ الإسلام، فماذا فعلت؟
زمن القهرمانات
بلغت "شغب" من النفوذ وكثرة الصلاحيات أن أنشأت ديوانًا (جهاز سكرتارية) كاملاً لمعاونتها في أداء مهامها كان يقوم عليه كاتب، عدَّ الناس تلك الوظيفة أكثر نفاسة من العمل في بلاط الخليفة أو في الوزارة! كما عيّنت "شغب" قهرمانة (كبيرة خدم) تشرف على أملاكها الواسعة، وتتعاون معها في تدبير الأمور، وتكون حلقة وصل بينها وبين الخليفة وبين باقي الوزراء.
هكذا، أصبحت القهرمانة بمثابة "المرأة الثانية" في الدولة بعد أم الخليفة التي باتت في الصدارة، ومثّلت القهرمانة أهمية قصوى أكبر حتى من كاتب ديوان "شغب" لأن صدور قرار تعيينه كان بيد القهرمانة في أغلب الأحوال، فـ"ثمل" هي التي عيّنت أحمد بن الخصيب كاتبًا لأم الخليفة، وعقب رحيله عن منصبه عيّنت عبد الرحمن بن سهل بدلاً منه.
وبحسب كتاب "ولاية العهد في الدولة العباسية" ليوسف شعبان، فإن بعض المصادر التاريخية خلطت بين شخصية "أم موسى" و"ثمل" واعتبرتهما امرأة واحدة، لكنهما في الحقيقة امرأتان مختلفتان شغلتا نفس المنصب وهو "قهرمانة أم الخليفة"، نالتا حظوة كبيرة في المملكة.
فخلال تقلُّد أم موسى منصبها، أُقيل الوزير علي بن عيسى من منصبه لأنها زارته في بيته خلال نومه، ولما تأخر عليها في القدوم رحلت وأخبرت "شغب" فأمرت بإزاحته من منصبه بعدما اعتبرتْ أن إهانة خادمتها إهانة مُباشرة لها.
وأم موسى هي سكينة بنت العباس بن محمد، عَظِم أمرها في عهد المقتدر؛ فملكت الضياع الواسعة والأموال النفيسة. عيّنتها أم المقتدر خادمتها الخاصة سنة 299هـ، بدلاً من قهرمانتها السابقة فاطمة التي غرقت في النهر.
مارست سكينة\أم موسى دورها بنشاط، ولعبت دورًا كبيرًا في التواصل بين الخليفة وأمه، كما حازت نفوذًا مكّنها من تعيين الوزراء وعزلهم، وأشرفت حتى على تعذيب الوزير ابن الفرات عقب خلعه من الوزارة، لدرجة كان يتوسّل إليها قائلاً: "اقتليني يا أم موسى".
وتدخّلت أم موسى في قرار تعيين أمير الحج. فبدلاً من تعيين رجلٍ من الأشراف كما اعتاد العباسيون عيّنت أخاها أحمد بن العباس في ذلك المنصب الحساس.
رغم تلك الحظوة، فإن حكم "أم موسى" شهد نهاية مأساوية على يديْ "ثمل"، بعدما اكتشفت "شغب" أن أم موسى تتآمر على الخليفة المقتدر فأمرت بالقبض عليها وأهلها وسلّمتها إلى "ثمل" التي أخضعتها لتعذيب شديد ثم استولت منها على أموال بلغت قيمتها ألف ألف دينار.
رغم أهميتها الكبيرة في تاريخ الإسلام، فإن "ثمل" شخصية شبه مجهولة لا نعرف عنها إلا أقل القليل الذي يرتبط فقط بخدمتها لأم الخليفة؛ لا نعرف لها اسمًا كاملاً، ولا حسبًا ولا نسبًا. فقط ما نعرفه هو "ثمل" تلك الخادمة التي أخلصت لـ"شغف" حتى آخر يوم في حياتها.
بحسب كتاب "البلاط العباسي" لأسماء عمارة، فقد اشتهرت ثمل بـ"الشر والإسراف في العقوبة"، لذا سُلّمت إليها أم موسى، وسريعًا ما نجحت وسائلها في استنطاق القهرمانة والاستيلاء على أموالها.
ومن كثرة الأموال التي صادرتها الدولة من أم موسى، أنشأ الوزير ديوانًا خاصًا حمل اسم "ديوان المقبوضات" خصيصًا لمراجعة وتصفية ثورة القهرمانة المغضوب عليها.
وبغياب أم موسى عن المشهد، اعتلت "ثمل" منصب القهرمانة، ومنه أصبحت قاضية البلاد الأولى.
"ثمل" كبيرة القضاة
ما إن انتشر خبر تعيين "ثمل" بين الناس حتى استشاطوا غضبوا، وكثر الهمز واللمز حول صحة هذا القرار، وشهد يوم تعيينها الأول فوضى عارمة بسبب اهتزاز ثقة "ثمل" بنفسها، وهو ما تداركته في الأيام التالية بعدما استعانت بالفقيه أبي الحسن بن الأشناني يُساعدها في مهامها الشاقة.
كان لابن الأشناني مفعول السحر على "ثمل"، فأجادت في منصبها وحسنت سيرتها بين الناس واستقبلوا قرارتها بالقبول والإذعان.
رغم هذا النجاح، فإن عددًا من المؤرخين اعتبروا أن مجرد جلوسها في ذلك المنصب علامة على تدهور الخلافة العباسية. يقول المسعودي: غلبت النساء على المُلك والتدبير حتى إن جارية لأم المقتدر تُدعى ثمل كانت تجلس للنظر في مظالم الخاصة والعامة.
وفي سنة 317هـ ماتت ثمل، بعدما خلّفت وراءها ثروة كبيرة.
الموت للجميع
كانت ثمل حسنة الحظ في وفاتها قبل الرحيل المفاجئ للخليفة المقتدر بالله. فبحسب كتاب "سير أعلام النبلاء" لشمس الدين الذهبي، فإن جميع أطراف تلك العملية نالوا نهاية بشعة سنة 317هـ، بعدما مات الخليفة المقتدر فجأة، وتولّى أخوه أبو المنصور (المُلقب بالقاهر بالله) الحُكم من بعده، والذي كان أول قرار اتخذه هو التنكيل بحاشية أخيه، وعلى رأسهم أمه "شغب" وجاريتها السابقة "أم موسى" المغضوب عليها سابقا، وبالتأكيد كانت "ثمل" لتكون على رأس القائمة لو ظلّت حية.
ماتت "شغب" من فرط التعذيب وهي مُعلّقة بحبل. وبحسب تعبير الذهبي "بالغ القاهر بالله في الإساءة، ونفرت منه القلوب"، وسريعًا انقلبت الدائرة على الخليفة القاهر بعدما تآمر عليه جنوده وأجبروه على خلع نفسه من الخلافة.