.وفي 7 مارس 1979، أصدرت الحكومة الإيرانية الجديدة قرارا بفرض الحجاب الإلزامي على كافة النساء

صخبٌ كبير يعيشه الشارع الإيراني هذه الأيام، بعد وفاة الشابة الإيرانية مهسا أميني، عقب اعتقالها من قبل "شرطة الآداب"، المعنية بمراقبة مدى التزام النساء بقواعد اللباس التي تفرضها الجمهورية الإسلامية.

ألقي القبض على الفتاة ذات الـ22 عامًا بزعم ارتدائها "حجابا غير لائق". وبحسب شهود عيان فإن أميني تعرضت للضرب بواسطة رجال الأمن. عقب الحادث، اندلعت موجة احتجاجات صاخبة ضد عُنف الشرطة ضد النساء غير المحجبات.

فتح ذلك الحادث الباب مُجددًا أمام نقاشات –تكاد لا تُحسم أبدًا- حول الحجاب في إيران، ومدى قانونية و-شرعية- إلزام النساء به، تحت طائلة الحبس والغرامة.

 

حوادث مثيرة للجدل

 

في يونيو 2019، رفض سائق تاكسي نقل امرأة غير محجبة في طهران، وحينما اشتكته المرأة للسُلطات أيدت الشرطة فِعل السائق، ووجّهت للمرأة اتهامًا بـ"امتهان التقاليد الإسلامية"، كما أعلن إبراهيم رئيسي رئيس السُلطة القضائية (رئيس الجمهورية لاحقا) أن تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُلزم الدولة وكافة أجهزتها بدعم المواطنين المؤيدين لتوجهات الدولة الإسلامية.

بالمثل، فإن امرأة ضُبطت عام 2018 خلال اعتراضها على فرض الحجاب، فعُوقبت بالسجن 24 شهرًا.

هذا العام، أعلنت السُلطات الإيرانية إغلاق 3 مقاهٍ في مدينة قم استقبلت نساء لم يلتزمن بالحجاب.

وكما يحدث دائمًا، تسبّبت تلك الحوادث في وقوع معركة محتدمة بين الإصلاحيين وبين الأصوليين حول حق الدولة –أو عدمه- فيما تفعله في تطبيق الحجاب على النساء بالقوة حتى لو كنَّ غير مسلمات!

لنفهم هذه القضية كما ينبغي، سيكون علينا العودة سنوات طويلة إلى الخلف حتى عهد الشاه رضا بهلوي.

 

"الشادور" ضد الشاه

 

قصّة الإيرانيات مع الحجاب تبدو مثيرة على نحو كبير. ففي الوقت الذي تخوض فيه إيرانيات اليوم نضالًا مريرًا عنوانه "إنهاء إلزامية ارتداء الحجاب"، خاضت أمهاتهن وبما جداتهن نضالًا مختلفًا ضد نظام "الشاه" رفضًا لإلزامية خلع الحجاب.

شهدت إيران احتجاجات واسعة على وفاة أميني، وتضامن عالمي.
إيرانيات ضحايا التمييز.. "مهسا أميني" ليست الأولى فهل تكون الأخيرة؟
توفيت الشابة الإيرانية مهسا أميني (22 عامًا) بعد أيام من اعتقالها على يد "شرطة الآداب" بزعم ارتدائها الحجاب بشكل "غير لائق"، حادثة فجرت غضب الشارع الإيراني، وجددت الحديث عن أشكال التمييز الممارس على الإيرانيات في شتى مجالات الحياة.

في يناير 1936، أصدر الشاه رضا بهلوي مرسومًا ملكيًا يمنع على النساء ارتداء الحجاب، بذريعة أنه "ممارسة غير حضارية " وأوكل للشرطة معاقبة كل من ترديه. قوبل المرسوم برفض واسع من قبل الإيرانيات اللواتي أقبلن على ارتدائه في إشارة صريحة على رفضهن للنظام السياسي.

بعد وفاة بهلوي، وتولي ابنه محمد رضا بهلوي، وخلال الأيام الأخيرة لحُكمه، تنافست الإيرانيات على ارتداء الشادور (زي نسائي إيراني محتشم يُشبه العباءة)، ليس فقط من منطلق قناعات دينية ولكن باعتباره أداة احتجاج في مواجهة الشاه وسياساته العلمانية.

لذا، حرصت آلاف النساء على ارتدائه رغم انتمائهن إلى تيارات سياسية مختلفة، بعضها كانت بعيدة عن المرجعية الإسلامية.

يقول محمد الصياد في دراسته "الحجاب في إيران بين ثنائية الأيدولوجيا والسياسة"، إن اليساريين اعتبروا أن آراء الشاه "التحررية" بحقِّ النساء هي نوع من "الانحلال"، لذا دعوا الناشطات اليساريات لارتداء الشادور كنايةً عن رفض الشاه وكافة آرائه، وهو ما حوّل الحجاب إلى رمزٍ مركزي ضد الشاه، واعتُبر أحد الشعارات الثورية لإسقاط عرشه.

أشهَرُ من تماهَى مع تلك الشعارات هو الخميني نفسه الذي قال في خطبة شهيرة قبيل الثورة إنّ الحكومة التي يقوم أعوانها من رجال الشرطة بالاعتداء على النساء وإجبارهن في المدن والقُرى على نزع الحجاب بقوّة السلاح، ما هي إلا حكومة ظالمة. ولم يتردد الخميني في وصف التعاوُن مع هذ الحكومة "بالكُفر".

 

"دولة إسلامية" = "حجاب إسلامي"

 

عقب نجاح الثورة، اعتبر قادة إيران الجُدد أن على النساء أن يرمزن إلى الطابع الإسلامي الجديد للدولة. وفي 7 مارس 1979 فُرض الحجاب الإلزامي على كافة النساء، كما أصبح الزي الرسمي الذي يجب أن ترتديه كل النساء اللواتي توليّن مناصب قيادية في الدولة أو تزوجن من وزراء؛ تعبيرًا عن أنه الرداء الذي يرضى عنه الخميني في دولته الجديدة.

تصادفت صبيحة اليوم التالي لاتخاذ ذلك القرار مع الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، وهو ما عدَّته آلاف النساء فرصة ذهبية للاحتجاج على القرار فخرجن في تظاهرات عدة أجبرت الحكومة الإيرانية على التراجع عن تطبيقه لفترةٍ من الزمن.

رغم الاحتجاجات النسائية، لم يتخل رجال الدين عن فكرة "التحجيب"، فعادوا وطبّقوها مُجددًا ولكن بشكل تدريجي. في عام 1981، فُرض على الطالبات أولا وعلى موظفات الحكومة وعلى كل امرأة تريد دخول المكاتب والمباني الحكومية، ووُضعت إعلانات في مختلف الدوائر الحكومية تقول بالفارسية "ورود بدون حجاب اسامى أكيدا ممنوع است" أي "يُمنع دخول النساء بدون ارتداء الحجاب".

بعدها بعامين، فرضت طهران الحجاب على جميع النساء -مسلمات أو غير مسلمات- طالما تجاوزن سن التاسعة. وبحسب المادة 638 من قانون العقوبات الإسلامي، فإنّ عقوبة خلع الحجاب تتراوح بين التعزير وغرامة مالية نحو عشرين دولارا، وأحياًنا بالحبس من عشرة أيّام إلى شهرين.

يقول الكاتب فهمي هويدي في كتابه: "إيران من الداخل" إن السُلطة الإيرانية اعتبرت ضمنًا أنّ الحجاب زيٌّ إسلامي ملزم للجميع. وتولَّت لجان الثورة تطبيق هذا التوجيه ومتابعة الالتزام به في الشوارع.

يقول هويدي: "اندفع الشباب في هذا الاتّجاه حتّى أساء بعضهم التصرُّف. وتجاوز حدود النصح والإرشاد إلى الإهانة والتقريع. وقيل لي إّنهم كانوا يستوقفون بعض النساء في الشوارع، ويطالبونهنّ بإحكام غطاء الرأس، أو إزالة الأصباغ من الوجه".

زاد الأمر تطرفًا حينما تقرّر تشكيل فرقة نسائية عُرفت بِاسم "أخوات زينب" تراقب مدى التزام النساء بالحجاب و"عدم الإسراف" في استخدام مستحضرات تجميل، إلا أنه تقرّر إلغاء هذا التنظيم في أوائل التسعينات بسبب عنف منتسباته الشديد تجاه الإيرانيات حتى وُصفن بأنهن "سبّبن الرعب للنساء في الشوارع".

 

عقوبة إيرانية لا إسلامية

 

تأتي تلك الخطوات الإيرانية بالرغم من أن الشريعة الإسلامية لم تُقر حُكمًا يٌعاقب غير المحجبات، فلم يرد نص قاطع في القرآن أو عن النبي محمد يأمر فيه بعقاب المرأة التي لا تلتزم بالحجاب.

وهو ما حاول عددٌ من رجال الدين الشيعة تبريره بأنه يدخل ضمن سُلطة الدولة في ضبط المجتمع، مثلما فعل المرجع عبد الكريم موسوي أردبيلي رئيس السُلطة القضائية في إيران الذي برّر تقنين الحجاب بقوله: يجب أن نفرق بين المبدأ والأسلوب. وأنا أوافق على التفرقة بين الأحكام الشرعية والآداب الإسلامية، لكنِّي أُضيف أنّ المسائل التي لم يُنَصّ فيها على حُكم شرعي، لا ينبغي أن تُترَك بغير تدخُّل من جانب الدولة.

وكذا قال المرجع الديني لطف الله الصافي الكلبايكاني: "جميع النساء مطالبات بالحجاب حتى غير المسلمات، وللحاكم أن يُعاقب المخالفات".

 

رمز "للجمهورية الإسلامية"

 

بحسب محمد الصياد، فإن مسألة الحجاب لم تعد مشكلة اجتماعية أو دينية، بل أصبحت رمزًا سياسيًا للدولة الدينية في إيران. رمز يتصارع حوله المعارضون لحُكم الرجال الدين والمؤيدون له الذين يدعون للتمسّك بالقانون وتنفيذه بصرامة.

لذا كان الحجاب حاضرًا دائمًا وأبدًا في أي صراع سياسي تشهده إيران. وكان مفهوما أن يقل تشدّد السُلطات تجاه الحجاب في عهدي الرئيسين ذوَيْ الميول الإصلاحية؛ هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي. لكن هذا التشدد عاد بقوة في عهد الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد، الذي دشّنت الشُرطة في عهده حملة للتصدي لـ"الحجاب السيء".

يفسر هذا أيضا تصريحات قادة أمنيين إيرانيين بأن الحجاب "خلق أجواءً إسلامية ساعدت الجمهورية الإسلامية على البقاء"، لذا هم يعتبرونه "خطا أحمر" لا يُسمح للإصلاحيين ومعارضي النظام تجاوزه.

من قلب مدينة "قم" معقل رجال الدين، قال عبد الرضى آقاخاني قائد قوى الأمن الداخلي في المدينة:  "إنّ العفَّة والحجاب إحدى هواجس المرشد ومراجع التقليد، والأئمة، والشعب المتديِّن. وهناك 26 جهاًزا يلعبون دوًرا في موضوع الحجاب والعفاف، الجانب الأكبر منها له دور ثقافي، والجزء الأصغر منه تنفيذي، وهو الذي تتولّاه القوّات الأمنية الإيرانية".

وهو تقريبًا نفس ما عبّر عنه المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي حين صرّح قائلاً: "لا أرى الحجاب منحصرا فقط في الشادور، ولكنّي أقول إنها أفضل أنواع الحجاب، هي شعارنا الوطني الذي لا يتنافى مع حركة المرأة".

ووفقًا لدراسة الصياد، اعتقلت 30 ألف امرأة بين عامي 2003 و2013، وتعرضت 460 ألف أخرى للتوبيخ بسبب سوء ارتداء الحجاب.

يأتي هذا التمسّك الإيراني بالحجاب بالرغم من بعض الآراء المتسامحة، حول شكل الحجاب وشروطه ومدى حق الدولة في إلزام النساء به، التي صدرت ليس فقط عن زعماء سياسيين وإنما عن رجال دين بارزين، مثل المرجعَيْن كمال الحيدري وحسين منتظري (أحد قادة الثورة الإيرانية وأول نائب للخميني بعد وصوله إلى الحُكم) ورجل الدين المعروف أحمد قابل.

لكن هذه الآراء لم تخترق النواة الصلبة للنخبة الدينية الإيرانية التي تدعم النظام الحالي في معركته ضد نزع الحجاب، وتعتبرها مسألة وجودية قد تهدّد استمرار الجمهورية الإسلامية برمّتها.

 

دعاوى نزع الحجاب

 

خلال جنازة أميني، عبّرت العديد من النساء على احتجاجهن على قتلها عبر نزع حجابهن للتعبير عن رفضهن على إجبار النساء على ارتدائه.

تكرّر هذا المشهد في العديد من المظاهرات المُعارِضة للدولة مثلما جرى في عام 2014، حينما دُشنت عشرات الحملات النسائية التي تنادي بإزالة الحجاب انتشرت صور عضواتها على مواقع التواصل الاجتماعي وهنَّ يتخلصن من الحجاب في الأماكن العامة.

وفي 2017 قادت الناشطة السياسي ويدا موحدي عشرات النساء إلى التعبير عن احتجاجهن ضد السُلطة عبر خلع حجابها والتلويح به على عصا تعبيرًا عن رفضها للنظام وقوانين. لاحقًا قُبض عليها وزُج بها في السجن.

 وفي العام التالي، أُلقي القبض على المحامية نسرين ستوده، التي كانت تدافع عن النساء المعتقلات بسبب خلع الحجاب في الأماكن العامة، وحُكم عليها بالسجن 33 عامًا بسبب إصرارها على حضورها المحكمة دون حجاب، وهو ما اعتُبر مخالفةً للقانون الإيراني.

وبحسب كتاب "التيارات السياسية في إيران" لفاطمة الصمادي، فإن استطلاعات رأي أُجريت في فبراير 2018 أشارت إلى أن نسبة المعارضة المحلية للحجاب الإجباري وصلت إلى 80%.

وربما تكون أكثر الخطوات النسائية المعارِضة شدة، ما قامت به الطبيبة النفسية هما دارابي عام 1993، حين ألقت خطابًا ضد الحجاب الإلزامي في طهران، ثم خلعت حجابها أمام الناس وأشعلت النار في جسدها، معلنةً احتجاجًا لا يُنسى على قضية لا تتوقّف عن الجدل داخل إيران وخارجها.

كل هذا الصراع يُمكن تلخيصه في ما قالته فزهراء رهنورد، الكاتبة الإيرانية المُعارِضة وزوجة رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي، حين صرّحت بأن رجال الدين والسياسيين الإيرانيين لا يكفّون عن تمجيد سيرة السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب ودورها البطولي في مقاومة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، لكن سيوفهم تُرفع في وجه كل امرأة تتمثّل بخطاها وتحاول مقاومة الحاكم.

"فأخوات زينب الحقيقيات لن يقفن في الطرقات لترويع المارة، لكن سيتظاهرن في الشوارع ضد العنف والقهر والظلم يهتفون بسقوط أي قائد لا ينفذ وعوده، مهما علا شأنه"، تقول فزهراء رهنورد.

 

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".