صخبٌ كبير يعيشه الشارع الإيراني هذه الأيام، بعد وفاة الشابة الإيرانية مهسا أميني، عقب اعتقالها من قبل "شرطة الآداب"، المعنية بمراقبة مدى التزام النساء بقواعد اللباس التي تفرضها الجمهورية الإسلامية.
ألقي القبض على الفتاة ذات الـ22 عامًا بزعم ارتدائها "حجابا غير لائق". وبحسب شهود عيان فإن أميني تعرضت للضرب بواسطة رجال الأمن. عقب الحادث، اندلعت موجة احتجاجات صاخبة ضد عُنف الشرطة ضد النساء غير المحجبات.
فتح ذلك الحادث الباب مُجددًا أمام نقاشات –تكاد لا تُحسم أبدًا- حول الحجاب في إيران، ومدى قانونية و-شرعية- إلزام النساء به، تحت طائلة الحبس والغرامة.
حوادث مثيرة للجدل
في يونيو 2019، رفض سائق تاكسي نقل امرأة غير محجبة في طهران، وحينما اشتكته المرأة للسُلطات أيدت الشرطة فِعل السائق، ووجّهت للمرأة اتهامًا بـ"امتهان التقاليد الإسلامية"، كما أعلن إبراهيم رئيسي رئيس السُلطة القضائية (رئيس الجمهورية لاحقا) أن تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُلزم الدولة وكافة أجهزتها بدعم المواطنين المؤيدين لتوجهات الدولة الإسلامية.
بالمثل، فإن امرأة ضُبطت عام 2018 خلال اعتراضها على فرض الحجاب، فعُوقبت بالسجن 24 شهرًا.
هذا العام، أعلنت السُلطات الإيرانية إغلاق 3 مقاهٍ في مدينة قم استقبلت نساء لم يلتزمن بالحجاب.
وكما يحدث دائمًا، تسبّبت تلك الحوادث في وقوع معركة محتدمة بين الإصلاحيين وبين الأصوليين حول حق الدولة –أو عدمه- فيما تفعله في تطبيق الحجاب على النساء بالقوة حتى لو كنَّ غير مسلمات!
لنفهم هذه القضية كما ينبغي، سيكون علينا العودة سنوات طويلة إلى الخلف حتى عهد الشاه رضا بهلوي.
"الشادور" ضد الشاه
قصّة الإيرانيات مع الحجاب تبدو مثيرة على نحو كبير. ففي الوقت الذي تخوض فيه إيرانيات اليوم نضالًا مريرًا عنوانه "إنهاء إلزامية ارتداء الحجاب"، خاضت أمهاتهن وبما جداتهن نضالًا مختلفًا ضد نظام "الشاه" رفضًا لإلزامية خلع الحجاب.

في يناير 1936، أصدر الشاه رضا بهلوي مرسومًا ملكيًا يمنع على النساء ارتداء الحجاب، بذريعة أنه "ممارسة غير حضارية " وأوكل للشرطة معاقبة كل من ترديه. قوبل المرسوم برفض واسع من قبل الإيرانيات اللواتي أقبلن على ارتدائه في إشارة صريحة على رفضهن للنظام السياسي.
بعد وفاة بهلوي، وتولي ابنه محمد رضا بهلوي، وخلال الأيام الأخيرة لحُكمه، تنافست الإيرانيات على ارتداء الشادور (زي نسائي إيراني محتشم يُشبه العباءة)، ليس فقط من منطلق قناعات دينية ولكن باعتباره أداة احتجاج في مواجهة الشاه وسياساته العلمانية.
لذا، حرصت آلاف النساء على ارتدائه رغم انتمائهن إلى تيارات سياسية مختلفة، بعضها كانت بعيدة عن المرجعية الإسلامية.
يقول محمد الصياد في دراسته "الحجاب في إيران بين ثنائية الأيدولوجيا والسياسة"، إن اليساريين اعتبروا أن آراء الشاه "التحررية" بحقِّ النساء هي نوع من "الانحلال"، لذا دعوا الناشطات اليساريات لارتداء الشادور كنايةً عن رفض الشاه وكافة آرائه، وهو ما حوّل الحجاب إلى رمزٍ مركزي ضد الشاه، واعتُبر أحد الشعارات الثورية لإسقاط عرشه.
أشهَرُ من تماهَى مع تلك الشعارات هو الخميني نفسه الذي قال في خطبة شهيرة قبيل الثورة إنّ الحكومة التي يقوم أعوانها من رجال الشرطة بالاعتداء على النساء وإجبارهن في المدن والقُرى على نزع الحجاب بقوّة السلاح، ما هي إلا حكومة ظالمة. ولم يتردد الخميني في وصف التعاوُن مع هذ الحكومة "بالكُفر".
"دولة إسلامية" = "حجاب إسلامي"
عقب نجاح الثورة، اعتبر قادة إيران الجُدد أن على النساء أن يرمزن إلى الطابع الإسلامي الجديد للدولة. وفي 7 مارس 1979 فُرض الحجاب الإلزامي على كافة النساء، كما أصبح الزي الرسمي الذي يجب أن ترتديه كل النساء اللواتي توليّن مناصب قيادية في الدولة أو تزوجن من وزراء؛ تعبيرًا عن أنه الرداء الذي يرضى عنه الخميني في دولته الجديدة.
تصادفت صبيحة اليوم التالي لاتخاذ ذلك القرار مع الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، وهو ما عدَّته آلاف النساء فرصة ذهبية للاحتجاج على القرار فخرجن في تظاهرات عدة أجبرت الحكومة الإيرانية على التراجع عن تطبيقه لفترةٍ من الزمن.
رغم الاحتجاجات النسائية، لم يتخل رجال الدين عن فكرة "التحجيب"، فعادوا وطبّقوها مُجددًا ولكن بشكل تدريجي. في عام 1981، فُرض على الطالبات أولا وعلى موظفات الحكومة وعلى كل امرأة تريد دخول المكاتب والمباني الحكومية، ووُضعت إعلانات في مختلف الدوائر الحكومية تقول بالفارسية "ورود بدون حجاب اسامى أكيدا ممنوع است" أي "يُمنع دخول النساء بدون ارتداء الحجاب".
بعدها بعامين، فرضت طهران الحجاب على جميع النساء -مسلمات أو غير مسلمات- طالما تجاوزن سن التاسعة. وبحسب المادة 638 من قانون العقوبات الإسلامي، فإنّ عقوبة خلع الحجاب تتراوح بين التعزير وغرامة مالية نحو عشرين دولارا، وأحياًنا بالحبس من عشرة أيّام إلى شهرين.
يقول الكاتب فهمي هويدي في كتابه: "إيران من الداخل" إن السُلطة الإيرانية اعتبرت ضمنًا أنّ الحجاب زيٌّ إسلامي ملزم للجميع. وتولَّت لجان الثورة تطبيق هذا التوجيه ومتابعة الالتزام به في الشوارع.
يقول هويدي: "اندفع الشباب في هذا الاتّجاه حتّى أساء بعضهم التصرُّف. وتجاوز حدود النصح والإرشاد إلى الإهانة والتقريع. وقيل لي إّنهم كانوا يستوقفون بعض النساء في الشوارع، ويطالبونهنّ بإحكام غطاء الرأس، أو إزالة الأصباغ من الوجه".
زاد الأمر تطرفًا حينما تقرّر تشكيل فرقة نسائية عُرفت بِاسم "أخوات زينب" تراقب مدى التزام النساء بالحجاب و"عدم الإسراف" في استخدام مستحضرات تجميل، إلا أنه تقرّر إلغاء هذا التنظيم في أوائل التسعينات بسبب عنف منتسباته الشديد تجاه الإيرانيات حتى وُصفن بأنهن "سبّبن الرعب للنساء في الشوارع".
عقوبة إيرانية لا إسلامية
تأتي تلك الخطوات الإيرانية بالرغم من أن الشريعة الإسلامية لم تُقر حُكمًا يٌعاقب غير المحجبات، فلم يرد نص قاطع في القرآن أو عن النبي محمد يأمر فيه بعقاب المرأة التي لا تلتزم بالحجاب.
وهو ما حاول عددٌ من رجال الدين الشيعة تبريره بأنه يدخل ضمن سُلطة الدولة في ضبط المجتمع، مثلما فعل المرجع عبد الكريم موسوي أردبيلي رئيس السُلطة القضائية في إيران الذي برّر تقنين الحجاب بقوله: يجب أن نفرق بين المبدأ والأسلوب. وأنا أوافق على التفرقة بين الأحكام الشرعية والآداب الإسلامية، لكنِّي أُضيف أنّ المسائل التي لم يُنَصّ فيها على حُكم شرعي، لا ينبغي أن تُترَك بغير تدخُّل من جانب الدولة.
وكذا قال المرجع الديني لطف الله الصافي الكلبايكاني: "جميع النساء مطالبات بالحجاب حتى غير المسلمات، وللحاكم أن يُعاقب المخالفات".
رمز "للجمهورية الإسلامية"
بحسب محمد الصياد، فإن مسألة الحجاب لم تعد مشكلة اجتماعية أو دينية، بل أصبحت رمزًا سياسيًا للدولة الدينية في إيران. رمز يتصارع حوله المعارضون لحُكم الرجال الدين والمؤيدون له الذين يدعون للتمسّك بالقانون وتنفيذه بصرامة.
لذا كان الحجاب حاضرًا دائمًا وأبدًا في أي صراع سياسي تشهده إيران. وكان مفهوما أن يقل تشدّد السُلطات تجاه الحجاب في عهدي الرئيسين ذوَيْ الميول الإصلاحية؛ هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي. لكن هذا التشدد عاد بقوة في عهد الرئيس المحافظ محمود أحمدي نجاد، الذي دشّنت الشُرطة في عهده حملة للتصدي لـ"الحجاب السيء".
يفسر هذا أيضا تصريحات قادة أمنيين إيرانيين بأن الحجاب "خلق أجواءً إسلامية ساعدت الجمهورية الإسلامية على البقاء"، لذا هم يعتبرونه "خطا أحمر" لا يُسمح للإصلاحيين ومعارضي النظام تجاوزه.
من قلب مدينة "قم" معقل رجال الدين، قال عبد الرضى آقاخاني قائد قوى الأمن الداخلي في المدينة: "إنّ العفَّة والحجاب إحدى هواجس المرشد ومراجع التقليد، والأئمة، والشعب المتديِّن. وهناك 26 جهاًزا يلعبون دوًرا في موضوع الحجاب والعفاف، الجانب الأكبر منها له دور ثقافي، والجزء الأصغر منه تنفيذي، وهو الذي تتولّاه القوّات الأمنية الإيرانية".
وهو تقريبًا نفس ما عبّر عنه المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي حين صرّح قائلاً: "لا أرى الحجاب منحصرا فقط في الشادور، ولكنّي أقول إنها أفضل أنواع الحجاب، هي شعارنا الوطني الذي لا يتنافى مع حركة المرأة".
ووفقًا لدراسة الصياد، اعتقلت 30 ألف امرأة بين عامي 2003 و2013، وتعرضت 460 ألف أخرى للتوبيخ بسبب سوء ارتداء الحجاب.
يأتي هذا التمسّك الإيراني بالحجاب بالرغم من بعض الآراء المتسامحة، حول شكل الحجاب وشروطه ومدى حق الدولة في إلزام النساء به، التي صدرت ليس فقط عن زعماء سياسيين وإنما عن رجال دين بارزين، مثل المرجعَيْن كمال الحيدري وحسين منتظري (أحد قادة الثورة الإيرانية وأول نائب للخميني بعد وصوله إلى الحُكم) ورجل الدين المعروف أحمد قابل.
لكن هذه الآراء لم تخترق النواة الصلبة للنخبة الدينية الإيرانية التي تدعم النظام الحالي في معركته ضد نزع الحجاب، وتعتبرها مسألة وجودية قد تهدّد استمرار الجمهورية الإسلامية برمّتها.
دعاوى نزع الحجاب
خلال جنازة أميني، عبّرت العديد من النساء على احتجاجهن على قتلها عبر نزع حجابهن للتعبير عن رفضهن على إجبار النساء على ارتدائه.
إيرانيات يحرقن الحجاب في إحدى الساحات في محافظة مازندران شمال إيران، احتجاجاً على مقتل #مهسا_أميني. وتتواصل التظاهرات في إيران لليلة الخامسة على التوالي احتجاجاً على وفاة الشابة بعد أن أوقفتها "شرطة الأخلاق"، في وقت تتعطل فيه خدمة الإنترنت. pic.twitter.com/7oB9ddJAnS
— IrfaaSawtak ارفع صوتك (@IrfaaSawtak) September 21, 2022
تكرّر هذا المشهد في العديد من المظاهرات المُعارِضة للدولة مثلما جرى في عام 2014، حينما دُشنت عشرات الحملات النسائية التي تنادي بإزالة الحجاب انتشرت صور عضواتها على مواقع التواصل الاجتماعي وهنَّ يتخلصن من الحجاب في الأماكن العامة.
وفي 2017 قادت الناشطة السياسي ويدا موحدي عشرات النساء إلى التعبير عن احتجاجهن ضد السُلطة عبر خلع حجابها والتلويح به على عصا تعبيرًا عن رفضها للنظام وقوانين. لاحقًا قُبض عليها وزُج بها في السجن.
BRAVE Iranian woman who hit out at her homeland’s strict religious dress code by waving her hijab in public and was arrested ,is freed today. a lawyer claimed.
— mary (@maryazizi1) January 28, 2018
good news. #Where_Is_She #ویدا_موحدی #hijab #IranProtests pic.twitter.com/VxmQBvKOHq
وفي العام التالي، أُلقي القبض على المحامية نسرين ستوده، التي كانت تدافع عن النساء المعتقلات بسبب خلع الحجاب في الأماكن العامة، وحُكم عليها بالسجن 33 عامًا بسبب إصرارها على حضورها المحكمة دون حجاب، وهو ما اعتُبر مخالفةً للقانون الإيراني.
إيران تفرج مؤقتا عن المحامية الحقوقية نسرين ستودهhttps://t.co/lwzjFKykDG
— قناة الحرة (@alhurranews) November 7, 2020
وبحسب كتاب "التيارات السياسية في إيران" لفاطمة الصمادي، فإن استطلاعات رأي أُجريت في فبراير 2018 أشارت إلى أن نسبة المعارضة المحلية للحجاب الإجباري وصلت إلى 80%.
وربما تكون أكثر الخطوات النسائية المعارِضة شدة، ما قامت به الطبيبة النفسية هما دارابي عام 1993، حين ألقت خطابًا ضد الحجاب الإلزامي في طهران، ثم خلعت حجابها أمام الناس وأشعلت النار في جسدها، معلنةً احتجاجًا لا يُنسى على قضية لا تتوقّف عن الجدل داخل إيران وخارجها.
Homa Darabi, an Iranian pediatrician, academic & political activist burned herself in protest to compulsory hijab in Tehran 28 years ago, today. She died a day later.
— Masih Alinejad 🏳️ (@AlinejadMasih) February 21, 2022
She was fired from her job at the university because of “bad hijab” and later banned from teaching.#LetUsTalk pic.twitter.com/oiYKvS7OGh
كل هذا الصراع يُمكن تلخيصه في ما قالته فزهراء رهنورد، الكاتبة الإيرانية المُعارِضة وزوجة رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي، حين صرّحت بأن رجال الدين والسياسيين الإيرانيين لا يكفّون عن تمجيد سيرة السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب ودورها البطولي في مقاومة الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، لكن سيوفهم تُرفع في وجه كل امرأة تتمثّل بخطاها وتحاول مقاومة الحاكم.
"فأخوات زينب الحقيقيات لن يقفن في الطرقات لترويع المارة، لكن سيتظاهرن في الشوارع ضد العنف والقهر والظلم يهتفون بسقوط أي قائد لا ينفذ وعوده، مهما علا شأنه"، تقول فزهراء رهنورد.