قبل الإسلام، تحكّم العرب في الطرق التجارية الكبرى التي تصل تجارة الهند وجنوب الجزيرة العربية واليمن وأفريقيا بمناطق الشام الداخلية وثغورها الساحلية. وكان النزاع على هذه الخطوط التجارية هو الدافع الرئيسي اندلاع الحروب العربية الآشورية، حسب ما يذكر فراس السواح في كتابه "الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم".
لهذا كان طبيعيا أن تكون أقدم الإشارات الآشورية التي وصلتنا عن العرب تتعلّق بخوض الحروب تلو الأخرى معهم. ومن تلك الحروب عرفنا الكثير من المعلومات حول النساء اللائي نجحن في تبوء مكانة كبيرة في النواحي العربية.
وهنا، يوضّح يوسف زيدان في كتابه "اللاهوت العربي" أن هناك العدد من الملكات العربيات حكمن مناطق بالشام والعراق بعد وفاة أزواجهن أو آبائهن، وهو ما يدلُّ على استقرار النُظُم العربية في الحُكم هنا قبل ظهور الإسلام بزمانٍ طويل.
في بعض الأحيان، فضّل ملوك الإمبراطورية الآشورية التعاون مع الممالك العربية الصغيرة المتناثرة على حدودهم وخطوط تجارتهم بدلاً من محاربتها، فاختاروا دمجها في النظام الإداري للإمبراطورية عبر إقرار ملوكها أو ملكاتها مقابل دفع إتاوة مقررة، وهو ما فتح الباب واسعا للحديث عنهن حسبما تجلّى في النقوش الأثرية التي وصلت إلينا.
من ضمن العديد من الملكات العربيات اللائي حكمن المنطقة قبل الإسلام، اخترنا تسليط الضوء على بعض من تبوأنَّ مكانة سياسية وروحية كُبرى في مجتمعاتهن.
زبيبة أو زبييبي
هي ليست الملكة العربية الشهيرة زينب\ الزباء التي حكمت تدمر، والتي أسهبت المرويات التاريخية في الحديث عنها، وإنما نتحدّث عن ملكة أخرى ورد ذِكرها في بعض النصوص التي نجت من عهد الملك الآشوري "تيجلات بليسر الثالث Tiglath-pileser III" (745-727 ق.م)، وتحديدا في السنة السابعة من حُكمه.
وحسبما ذكرت هند التركي في كتابها "الملكات العربيات قبل الإسلام"، فإنها أقدم ملكة عربية أتى على ذِكرها في نقشٍ آشوري.
ملكة العرب زبيبة
— مشاري العنزي (@mshre21) May 4, 2022
ملكة مملكة قيدار، حكمت لخمس سنوات، وأسمها في المخطوطات الآشورية "ملكة العرب"، تمكنت من تطبيق نظام يتواكب مع مجريات الأحداث السياسية المعاصرة لفترة حكمها، وشاركت في تقديم الإتاوة لإيقاف التوسع الآشوري في المنطقة.
⏳القرن الثامن قبل الميلاد
📍دومة الجندل 🇸🇦 pic.twitter.com/1PxMkkbO6z
فعلى الجدران الحجرية للقصر الملكي بكالخو عاصمة الآشوريين القديمة التي كانت واقعة على نهر دجلة، نُقش اسمها 4 مرات. تحدّث النص عن "زبيبة ملكة العرب"، التي خضعت لحُكم الملك الآشوري تيجلات ودفعت له الجزية. ويظهر أن مملكتها تمتّعت بشيءٍ من الثراء، فقد فصّلت الرواية أن تلك الإتاوة كانت عامرة بالكثير من الأصناف غالية الثمن بمعايير ذلك العصر، فتكونت من: الذهب، والجمال، والحديد، والصوف المغزول.
لا يرد ذِكر زبييبي في مصدر تاريخي آخر كما لم تنصّ النقوش صراحةً على موقع مملكتها، لكن هند التركي قدّرت في دراستها أن مملكتها وقعت في واحة دومة (تقع ضمن حدود وادي السرحان السعودي)، والذي شكّل أهمية كبرى لأنه كان المعبر التجاري الذي يربط بين شمال الجزيرة وباقي بلاد الشام.
يطيعة
شكّلت تلك الملكة العربية سابقة في تاريخ انصياع العرب للإرادة الآشورية بعدما أعلنت الثورة ضد الملك سنحاريب (704-681 ق.م).
وحسب ما ورد في نقشٍ كُتب في عهد الملك الآشوري أسرحدون، فإنها امتلكت جيشا كبيرا بقيادة أخيها بسقانو، كما أنها كانت تحمل اسما آخر هو "يانيعة".
دعّمت الملكة الثورة التي أشعلها الكلدانيون والآراميون والعرب بزعامة الملك البابلي "مردوخ بالادن" ضد سُلطة سنحاريب الآشوري. انضمّ الجيش العربي -بقيادة سقانو- إلى تلك الثورة التي انتهت بالهزيمة في نهاية المطاف.
نصَّ النقش على معركٍة ما جرت بين الآشوريين وبين الجيش العربي انتهت بخسارته وأسر قائده سقانو حيًّا. يقول النقش على لسان القائد العسكري الآشوري: "قبضت يداي على المركبات الحربية وعربات النقل والجياد والبغال والحمير والجمال".
باسلو
خلال السنة الخامسة من حُكم الملك الآشوري أسرحدون، اتّصل بتلك المرأة العربية التي حكمت مملكة عُرفت بِاسم إيخيلو كانت تقع شمال وادي السرحان، وهو جزء من حدود المملكة السعودية حاليا.
لم يُعرف لها أعمال تاريخية كُبرى، لكن خلّدها نقش استعرض ضحايا الملك الآشوري أسرحدون ضمن ملوك المنطقة الذين قتلتهم بسبب عدم خضوعهم له.
تعلخونو
عاصرتْ ملكين آشوريين، هما: سنحاريب، وآشور بانيبال. تصفها الروايات الآشورية بأنها حكمت مدينة مهمة أُطلق عليها اسم "قلعة العرب". وبحسب النقوش الآشورية، فقد جمعت الملكة العربية بين السُلطتين الدينية والدنيوية في مملكتها. فبخلاف صلاحياتها الإدارية حملت لقبا دينيّا أيضا هو "الكاهنة".
لا نعلم الكثير من تفاصيل الخلاف بين الطرفين، لكنه على الأغلب لن يبتعد كثيرا عن مُسبّبات غضب الملوك الآشوريين على الحكام العرب، والتي كانت تقتصر على رفضهم الانصياع للسيطرة الآشورية وإعلانهم الثورة مرةً تلو الأخرى.
على أية حال، يبدو أن الملك الآشوري غضب بشدّة على تلك الملكة العربية فنظّم حملة ضدها عام 688 ق.م تقريبا. انتهت الحملة بهزيمة الملكة وانسحابها إلى قلعة أدوماتو (دومة الجندل حاليا) وسط الصحراء، فلحق بها الجيش الآشوري وفرض حصارا على المدينة حتى تمكن من احتلالها.
وقعت تعلخونو في الأسر ونُقلت إلى عاصمة الآشوريين نينوي.
تبوأة \ تبؤوة
هي ابنة الملكة تعلخونو، التي اصطُحبت مع أمها إلى عاصمة الآشوريين وتربّت فيها. حكت لنا النصوص الآشورية عن تلك الملكة التي أُسرت وهي فتاة صغيرة، وتربّت في قصر الملك الآشوري سنحاريب، وبعدما بلغت أشدّها نُصّبت ملكةً وكاهنةً على مملكة أدوماتو العربية.
تقول هند التركي إن ذلك التعيين يمثّل نقلةً في العلاقات السياسية بين المملكة الآشورية والعرب، فلم يعد الملك الآشوري يكتفي بتلقّي الإتاوات والسماح للحاكم العربي بقيادة منطقته دون تدخّل في تعيينه، وإنما هذه المرة تدخّل الملك الآشوري أسرحدون لتعيين شخصٍ بعينه آمرا على العرب، يتّبع سياسة شديدة الانصياع للآشوريين.
إنه ذلك التاريخ الحافل بالملكات العربيات.. ملكة سبأ بلقيس، ويثيعة ملكة العرب وسيدة قيدار، ملكات دومة الجندل، تلهونة، وملكة العرب شمسي، والملكة زبيبة.. وتلك الملكة العظيمة التدمرية زنوبيا. pic.twitter.com/3ws8taq9iu
— د.عبدالله الرشيد (@ALRrsheed) September 6, 2020
وفي دراستها "ملكات العرب في العصر الآشوري الحديث"، اعتبرت إليانور بينيت أن الآشوريين ربما قرروا اللجوء إلى هذا الأسلوب بعدما فشلت طريقتهم التقليدية في مهاجمة الممالك العربية بشكلٍ منتظم، فكلما انتهت حملتهم عاد العرب للثورة من جديد.
ومن واقع المرويات، لم يرضَ العرب عن هذا التدخل الآشوري السافر في شؤونهم، ودبّروا ثورةً ضد تبوؤة انتهت بالفشل بسبب دعم الآشوريين لها.
عادية
هي زوجة الملك العربي يوتع بن حزائيل، لعبت دورا متمردا على المملكة الآشورية، بعدما تحالفت مع القبائل الناقمة على الآشوريين وحضّتهم على الثورة ضدّهم.
ويبدو أن ذلك التمرّد انتهى بهزيمةٍ نكراء، إذ تروي لنا النقوش الآشورية أن عادية ملكة بلاد العرب لقيت هزيمةً ساحقة، وأحرقت خيامها بالنار، وأُسرت حية ثم أُرسلت مع غنائم بلادها إلى آشور.
تعامَل الملك الآشوري أسرحدون مع تلك الملكة العربية خلال العام الخامس لحُكمه، وكانت تقود مملكة عُرفت بِاسم "إيخيلو".
ماوية
لم تحتف المرويات الإسلامية بسيرتها كثيرا، وإنما قدّمت عنها عرضا مبتورا، إذ قدّمها الطبري وابن الأثير والأصفهاني بأنها أمُّ امرؤ القيس الذي تسلّم الحُكم ما بين عامي 288 و328م، وكان خاضعا للفرس.
كما تطرّق عمر رضا في موسوعته "أعلام النساء في عالم العرب والإسلام" إلى سيرة ماوية بنت عَفْزَر، والتي عرّفها بأنها "ملكة من ملكات العرب في الجاهلية كانت تتزوّج بمن أرادت من الرجال".
هذا الوضع يختلف قليلاً عند المؤرخين المسيحيين، الذين منحونا بعض التفاصيل عن حياة تلك الملكة العربية، فحكى تيرانو روفينوس عن ماوية الملكة العربية التي "أشعلت نار حربٍ شعواء بفلسطين وبمنطقة الثغور العربية، خرّبت فيها القلاع والمدن ونسفت القرى والأرياف".
في هذا الوقت، كانت الدولة الرومانية تُعاني من فرط الهجمات التي شنّها القوط عليها من جهة والفرس من جهة أخرى، ما جعلها عاجزة عن وأد ذلك التمرد العربي في الشام.

ووفقًا لروفينوس فلقد فشل الرومان في التعامل مع ثورة الملك العربية فاضطروا إلى عرض الصُلح عليها فوافقت مقابل تعيين أسقف تختاره على بني قومها.
ذات القصة تقريبا تطرّق إليها سقراط خلال حديثه عن جانبٍ من تاريخ الدولة الرومانية، لكن مع تغيير طفيف في اسم الملكة إلى "مافيا"، وهو ذات ما فعله المؤرخ الكنسي سالامينوس هرمياس الذي منح الملكة اسما آخر هو "مانيا"، التي توّلت حُكم قومها بعد زوجها فقادت كتائبها القتالية إلى فلسطين وبعض أجزاء مصر.
وخلّد اسم تلك الملكة الحاذقة نقشٌ يعود للقرن الخامس الميلادي موجود في كنيسة القديس توما الأثرية، التي تقع بالقرب من مدينة الخناصر (تقع الآن داخل حدود دولة سوريا، ضمن حدود محافظة حلب). دُوّن هذا النقش بالسريانية واليونانية والعربية ونصَّ على أن هذه الكنيسة شُيدت بأمر "السيدة النبيلة ماوية الموهوبة بالحكمة وشدة التقوى والحب الزوجي".