"نظرة زنوبيا الأخيرة الى تدمر".. لوحة للرسام البريطاني لوحة للفنان هربرت جوستاف شمالز، رسمت عام 1888.
"نظرة زنوبيا الأخيرة الى تدمر".. لوحة للرسام البريطاني لوحة للفنان هربرت جوستاف شمالز، رسمت عام 1888.

قبل الإسلام، تحكّم العرب في الطرق التجارية الكبرى التي تصل تجارة الهند وجنوب الجزيرة العربية واليمن وأفريقيا بمناطق الشام الداخلية وثغورها الساحلية. وكان النزاع على هذه الخطوط التجارية هو الدافع الرئيسي اندلاع الحروب العربية الآشورية، حسب ما يذكر فراس السواح في كتابه "الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم".

لهذا كان طبيعيا أن تكون أقدم الإشارات الآشورية التي وصلتنا عن العرب تتعلّق بخوض الحروب تلو الأخرى معهم. ومن تلك الحروب عرفنا الكثير من المعلومات حول النساء اللائي نجحن في تبوء مكانة كبيرة في النواحي العربية.

وهنا، يوضّح يوسف زيدان في كتابه "اللاهوت العربي" أن هناك العدد من الملكات العربيات حكمن مناطق بالشام والعراق بعد وفاة أزواجهن أو آبائهن، وهو ما يدلُّ على استقرار النُظُم العربية في الحُكم هنا قبل ظهور الإسلام بزمانٍ طويل.

في بعض الأحيان، فضّل ملوك الإمبراطورية الآشورية التعاون مع الممالك العربية الصغيرة المتناثرة على حدودهم وخطوط تجارتهم بدلاً من محاربتها، فاختاروا دمجها في النظام الإداري للإمبراطورية عبر إقرار ملوكها أو ملكاتها مقابل دفع إتاوة مقررة، وهو ما فتح الباب واسعا للحديث عنهن حسبما تجلّى في النقوش الأثرية التي وصلت إلينا.

من ضمن العديد من الملكات العربيات اللائي حكمن المنطقة قبل الإسلام، اخترنا تسليط الضوء على بعض من تبوأنَّ مكانة سياسية وروحية كُبرى في مجتمعاتهن.

 

زبيبة أو زبييبي

 

هي ليست الملكة العربية الشهيرة زينب\ الزباء التي حكمت تدمر، والتي أسهبت المرويات التاريخية في الحديث عنها، وإنما نتحدّث عن ملكة أخرى ورد ذِكرها في بعض النصوص التي نجت من عهد الملك الآشوري "تيجلات بليسر الثالث Tiglath-pileser III" (745-727 ق.م)، وتحديدا في السنة السابعة من حُكمه.

وحسبما ذكرت هند التركي في كتابها "الملكات العربيات قبل الإسلام"، فإنها أقدم ملكة عربية أتى على ذِكرها في نقشٍ آشوري.

فعلى الجدران الحجرية للقصر الملكي بكالخو عاصمة الآشوريين القديمة التي كانت واقعة على نهر دجلة، نُقش اسمها 4 مرات. تحدّث النص عن "زبيبة ملكة العرب"، التي خضعت لحُكم الملك الآشوري تيجلات ودفعت له الجزية. ويظهر أن مملكتها تمتّعت بشيءٍ من الثراء، فقد فصّلت الرواية أن تلك الإتاوة كانت عامرة بالكثير من الأصناف غالية الثمن بمعايير ذلك العصر، فتكونت من: الذهب، والجمال، والحديد، والصوف المغزول.

لا يرد ذِكر زبييبي في مصدر تاريخي آخر كما لم تنصّ النقوش صراحةً على موقع مملكتها، لكن هند التركي قدّرت في دراستها أن مملكتها وقعت في واحة دومة (تقع ضمن حدود وادي السرحان السعودي)، والذي شكّل أهمية كبرى لأنه كان المعبر التجاري الذي يربط بين شمال الجزيرة وباقي بلاد الشام.

 

يطيعة

 

شكّلت تلك الملكة العربية سابقة في تاريخ انصياع العرب للإرادة الآشورية بعدما أعلنت الثورة ضد الملك سنحاريب (704-681 ق.م).

وحسب ما ورد في نقشٍ كُتب في عهد الملك الآشوري أسرحدون، فإنها امتلكت جيشا كبيرا بقيادة أخيها بسقانو، كما أنها كانت تحمل اسما آخر هو "يانيعة".

دعّمت الملكة الثورة التي أشعلها الكلدانيون والآراميون والعرب بزعامة الملك البابلي "مردوخ بالادن" ضد سُلطة سنحاريب الآشوري. انضمّ الجيش العربي -بقيادة سقانو- إلى تلك الثورة التي انتهت بالهزيمة في نهاية المطاف.

نصَّ النقش على معركٍة ما جرت بين الآشوريين وبين الجيش العربي انتهت بخسارته وأسر قائده سقانو حيًّا. يقول النقش على لسان القائد العسكري الآشوري: "قبضت يداي على المركبات الحربية وعربات النقل والجياد والبغال والحمير والجمال".

 

باسلو

 

خلال السنة الخامسة من حُكم الملك الآشوري أسرحدون، اتّصل بتلك المرأة العربية التي حكمت مملكة عُرفت بِاسم إيخيلو كانت تقع شمال وادي السرحان، وهو جزء من حدود المملكة السعودية حاليا.

لم يُعرف لها أعمال تاريخية كُبرى، لكن خلّدها نقش استعرض ضحايا الملك الآشوري أسرحدون ضمن ملوك المنطقة الذين قتلتهم بسبب عدم خضوعهم له.

 

تعلخونو

 

عاصرتْ ملكين آشوريين، هما: سنحاريب، وآشور بانيبال. تصفها الروايات الآشورية بأنها حكمت مدينة مهمة أُطلق عليها اسم "قلعة العرب". وبحسب النقوش الآشورية، فقد جمعت الملكة العربية بين السُلطتين الدينية والدنيوية في مملكتها. فبخلاف صلاحياتها الإدارية حملت لقبا دينيّا أيضا هو "الكاهنة".

لا نعلم الكثير من تفاصيل الخلاف بين الطرفين، لكنه على الأغلب لن يبتعد كثيرا عن مُسبّبات غضب الملوك الآشوريين على الحكام العرب، والتي كانت تقتصر على رفضهم الانصياع للسيطرة الآشورية وإعلانهم الثورة مرةً تلو الأخرى.

على أية حال، يبدو أن الملك الآشوري غضب بشدّة على تلك الملكة العربية فنظّم حملة ضدها عام 688 ق.م تقريبا. انتهت الحملة بهزيمة الملكة وانسحابها إلى قلعة أدوماتو (دومة الجندل حاليا) وسط الصحراء، فلحق بها الجيش الآشوري وفرض حصارا على المدينة حتى تمكن من احتلالها.

وقعت تعلخونو في الأسر ونُقلت إلى عاصمة الآشوريين نينوي.

 

تبوأة \ تبؤوة

 

هي ابنة الملكة تعلخونو، التي اصطُحبت مع أمها إلى عاصمة الآشوريين وتربّت فيها. حكت لنا النصوص الآشورية عن تلك الملكة التي أُسرت وهي فتاة صغيرة، وتربّت في قصر الملك الآشوري سنحاريب، وبعدما بلغت أشدّها نُصّبت ملكةً وكاهنةً على مملكة أدوماتو العربية.

تقول هند التركي إن ذلك التعيين يمثّل نقلةً في العلاقات السياسية بين المملكة الآشورية والعرب، فلم يعد الملك الآشوري يكتفي بتلقّي الإتاوات والسماح للحاكم العربي بقيادة منطقته دون تدخّل في تعيينه، وإنما هذه المرة تدخّل الملك الآشوري أسرحدون لتعيين شخصٍ بعينه آمرا على العرب، يتّبع سياسة شديدة الانصياع للآشوريين.

وفي دراستها "ملكات العرب في العصر الآشوري الحديث"، اعتبرت  إليانور بينيت أن الآشوريين ربما قرروا اللجوء إلى هذا الأسلوب بعدما فشلت طريقتهم التقليدية في مهاجمة الممالك العربية بشكلٍ منتظم، فكلما انتهت حملتهم عاد العرب للثورة من جديد.

ومن واقع المرويات، لم يرضَ العرب عن هذا التدخل الآشوري السافر في شؤونهم، ودبّروا ثورةً ضد تبوؤة انتهت بالفشل بسبب دعم الآشوريين لها.

 

عادية

 

هي زوجة الملك العربي يوتع بن حزائيل، لعبت دورا متمردا على المملكة الآشورية، بعدما تحالفت مع القبائل الناقمة على الآشوريين وحضّتهم على الثورة ضدّهم.

ويبدو أن ذلك التمرّد انتهى بهزيمةٍ نكراء، إذ تروي لنا النقوش الآشورية أن عادية ملكة بلاد العرب لقيت هزيمةً ساحقة، وأحرقت خيامها بالنار، وأُسرت حية ثم أُرسلت مع غنائم بلادها إلى آشور.

تعامَل الملك الآشوري أسرحدون مع تلك الملكة العربية خلال العام الخامس لحُكمه، وكانت تقود مملكة عُرفت بِاسم "إيخيلو".

 

ماوية

 

لم تحتف المرويات الإسلامية بسيرتها كثيرا، وإنما قدّمت عنها عرضا مبتورا، إذ قدّمها الطبري وابن الأثير والأصفهاني بأنها أمُّ امرؤ القيس الذي تسلّم الحُكم ما بين عامي 288 و328م، وكان خاضعا للفرس.

كما تطرّق عمر رضا في موسوعته "أعلام النساء في عالم العرب والإسلام" إلى سيرة ماوية بنت عَفْزَر، والتي عرّفها بأنها "ملكة من ملكات العرب في الجاهلية كانت تتزوّج بمن أرادت من الرجال".

هذا الوضع يختلف قليلاً عند المؤرخين المسيحيين، الذين منحونا بعض التفاصيل عن حياة تلك الملكة العربية، فحكى تيرانو روفينوس عن ماوية الملكة العربية التي "أشعلت نار حربٍ شعواء بفلسطين وبمنطقة الثغور العربية، خرّبت فيها القلاع والمدن ونسفت القرى والأرياف".

في هذا الوقت، كانت الدولة الرومانية تُعاني من فرط الهجمات التي شنّها القوط عليها من جهة والفرس من جهة أخرى، ما جعلها عاجزة عن وأد ذلك التمرد العربي في الشام.

قادت الملكة ماوية حربا شرسة ضد الرومان انتهت بتوقيع اتفاقية سلام مع الإمبراطور الروماني فالانس.
ماوية ملكة العرب "السراسين".. من تهديد بيزنطة إلى إنقاذها
لم يكم أمام الإمبراطور الروماني فالانس سوى طلب السلام. وهكذا، بعد أن فرضت ماوية شروط الحرب، فرضت أيضًا شروط السلام، ونجحت في فرض أسقف من أبناء شعبها، ومن مذهبها، ولم يكن أمام الأريوسيين سوى القبول، فعُيِّن موسى حسب الأصول كأول أسقف من العرب وللعرب.

ووفقًا لروفينوس فلقد فشل الرومان في التعامل مع ثورة الملك العربية فاضطروا إلى عرض الصُلح عليها فوافقت مقابل تعيين أسقف تختاره على بني قومها.

ذات القصة تقريبا تطرّق إليها سقراط خلال حديثه عن جانبٍ من تاريخ الدولة الرومانية، لكن مع تغيير طفيف في اسم الملكة إلى "مافيا"، وهو ذات ما فعله المؤرخ الكنسي سالامينوس هرمياس الذي منح الملكة اسما آخر هو "مانيا"، التي توّلت حُكم قومها بعد زوجها فقادت كتائبها القتالية إلى فلسطين وبعض أجزاء مصر.

وخلّد اسم تلك الملكة الحاذقة نقشٌ يعود للقرن الخامس الميلادي موجود في كنيسة القديس توما الأثرية، التي تقع بالقرب من مدينة الخناصر (تقع الآن داخل حدود دولة سوريا، ضمن حدود محافظة حلب). دُوّن هذا النقش بالسريانية واليونانية والعربية ونصَّ على أن هذه الكنيسة شُيدت بأمر "السيدة النبيلة ماوية الموهوبة بالحكمة وشدة التقوى والحب الزوجي".

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".