في سنة 1899، نشر المفكر المصري قاسم أمين كتابه الشهير "تحرير المرأة". دعا أمين في الكتاب للاهتمام بتعليم المرأة المصرية، وطالب بتحريرها من الأغلال التراثية التي قيدتها وعطلت نهضتها. بعد ذلك بسنوات قلائل، صدرت بعض الدعوات المماثلة في أرض الرافدين. ما هي أهم تلك الدعوات؟ وكيف انخرطت المرأة العراقية في السلك التعليمي في عشرينات القرن العشرين؟ وما هي أهم المحطات التي مرت بها العراقيات في طريقهن للمشاركة الاجتماعية والسياسية؟
الخطوات الأولى
عانت المرأة العراقية من التهميش والاستبعاد طويلا. اُستبعدت المرأة من ميادين العمل -الاجتماعي والسياسي- العام. وخضعت للأعراف المتوارثة التي ألزمتها بالحجاب وعدم الاختلاط بالرجال. ولم يُسمح بخروج الفتاة العراقية لتلقي العلوم الابتدائية إلا على نطاق ضيق إلى حد بعيد.
في هذا السياق، جهر بعض المفكرين العراقيين البارزين برأيهم في ضرورة تعليم المرأة وانفتاحها على المشاركة في الحياة العامة. على سبيل المثال نشر المفكر والشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي على صفحات جريدة المؤيد المصرية في السابع من أغسطس سنة 1910 مقالاً مهماً بعنوان "المرأة والدفاع عنها: صوت إصلاحي من العراق".
تتحدث الباحثة فريال صالح عمر في كتابها "تأثير الفكر الفرنسي على النخبة العراقية" عن أهمية هذا المقال والجدل الذي أحدثه في الساحة الثقافية وقتها، فتقول: "تناول فيها -أي المقالة- قضية المرأة تناولاً منطقياً، فيرى أن سيادة الرجل ليس لها ما يبررها، فإن كانت القوة البدنية فإن هناك من الحيوان من هو أشد منه ناباً وأوجع رفساً، وإن كانت القوة العقلية فإن الرجال أنفسهم يختلفون في المستوى العقلي ولم يهضم أحد منهم حق الآخر. ثم يعدد الجوانب التي هضم فيها الرجل حق المرأة، ولقد استعرض مجموعة من الحقوق المهضومة (حسب رأيه) بجرأة لم يسبقه إليها أحد من قبل، فكان الزهاوي حراً تماماً في طرح مثل هذه الأفكار التي لم يجرؤ أحد على الخوض فيها بكل حرية وصراحة...". ذهب الشاعر العراقي معروف الرصافي إلى الرأي نفسه. هاجم الرصافي الأوضاع الاجتماعية السيئة التي تعيش فيها المرأة العراقية. وطالب في قصيدته المشهورة "المرأة في الشرق" بتحريرها من الأصفاد التي تعيق انفتاحها على المجتمع. يقول الرصافي في قصيدته مهاجماً الثقافة الذكورية العرفية الشائعة:
لقد غمطوا حق النساء فشدَّدوا... عليهن في حبْسٍ وطول ثواء
وقد ألزموهن الحجاب وأنكروا... عليهن إلا خَرْجةً بغطاء
أضاقوا عليهن الفضاء كأنهم ... يغارون من نورٍ به وهواء
وقد زعموا أن لَسْن يصلحن في الدُّنا... لغير قرار في البُيوت وباء
تعليم المرأة العراقية
وقع التطور الأهم في حركة تحرير المرأة العراقية في سنة 1919م. رأى البريطانيون الذين فرضوا سيادتهم على الأراضي العراقية في تلك الفترة أن يبدأوا العمل لتعليم النساء العراقيات. في هذا السياق، اُستقدمت المس كيلي -وهي معلمة مشهورة كان لها خبرة كبيرة في التعليم في المستعمرات الهندية- وعُهد إليها بالإشراف على تعليم مجموعة من العراقيات. واُفتتحت أول مدرسة لتعليم البنات في يناير سنة 1920م.

نجحت التجربة بشكل لافت للنظر، وسرعان ما انخرطت العشرات من الفتيات في السلك الدراسي. شجع هذا السلطات على افتتاح المزيد من المدارس. وفي ذلك، تقول الباحثة وفاء كاظم ماضي محمد في كتابها "تطور الحركة النسوية في العراق"، ازداد عدد مدارس البنات في العراق من "أربع مدارس في العام الدراسي 1920-1921م إلى سبع وعشرين مدرسة في العام الدراسي 1921-1922م ثم أخذت الزيادة بالتدريج. وصل عدد المدارس في نهاية عهد الانتداب البريطاني للعراق عام 1932م إلى تسع وأربعين مدرسة، رافقتها زيادة في أعداد الطالبات، فبعد أن كان عددهن في العام الدراسي 1920- 1921 أربعمائة واثنين وستين طالبة وصل العدد إلى ثمانية آلاف وثمانمائة وخمس وأربعين في العام الدراسي 1931- 1932م".
أثمر تعليم الفتيات في تلك الفترة الحرجة من تاريخ العراق عن زيادة الوعي النسائي بشكل عام، وظهر ذلك بشكل واضح في مشاركة العشرات من النساء في المظاهرات الحاشدة التي تزامنت مع اندلاع ثورة العشرين ضد البريطانيين. في سنة 1923م، صدر العدد الأول من "مجلة ليلى"، والتي كانت أول مجلة نسائية عراقية، واهتمت بنشر موضوعات متنوعة حول تعليم المرأة وتحريرها ومشاركتها في العمل السياسي فضلاً عن بعض الجوانب الخاصة بتربية الأبناء والاقتصاد المنزلي والفنون والآداب. يُعزى الفضل في ظهور تلك المجلة إلى الصحفية العراقية بولينا حسون روفائيل، والتي أسهمت أيضاً في تأسيس أول نادي نسوي في العراق في سنة 1923م، وكان اسمه "نادي النهضة النسائية". ومما يُذكر هنا أن العدد الأول من مجلة ليلى قد تضمن نداء موجه إلى أعضاء أول مجلس تأسيسي عراقي. جاء في هذا العدد "إن نجاح النهضة النسوية الناشئة منوط بخبرتكم وشهامتكم أيها الرجال الكرام، ولاسيما أنتم الذين تحملتم أعباء مسؤولية تأسيس الحياة الديمقراطية العراقية على قواعد عصرية راسخة في الحياة، وأنتم تعلمون أنها ليست حق الرجل فقط".
في سنة 1924، قرر أعضاء نادي النهضة النسائية -وعلى رأسهم كل من أسماء الزهاوي شقيقة الشاعر جميل صدقي الزهاوي، ونعيمة السعيد، وماري عبد المسيح، وفخرية العسكري زوجة الوزير جعفر العسكري- أن ينشروا أفكارهم المطالبة بتحرير المرأة العراقية في مجلة جديدة. وبالفعل تم إصدار مجلة "الصحيفة".
نشرت المجلة في عددها الأول مقالة تناولت أوضاع المرأة العراقية بعنوان (حالة المرأة الاجتماعية والحقوقية وطرق إصلاحها) بقلم محمد سليم، تطرق فيها إلى عملية التطور التاريخي الذي مر بها النظام العائلي وضرورة مواكبة هذا التطور الذي أيدته الشريعة الإسلامية بعد أن ثبت أساسه وتحسنت بعض صفاته، وأن الشريعة أرادت أن ترفع بعض التقاليد المريرة كالوأد مثلاً وأبقت على بعضها الآخر بتحديده وتقييده ببعض الشروط. وعليه فإن تطور المرأة واكتسابها حقوقها وامتيازاتها المغصوبة لكي تحل محلها المناسب في المجتمع أمر مهم ولازم يحتم على كل وطني السعي في تعجيله وتسهيله".
وفي عددها الثاني، تطرقت المجلة في مقالاتها إلى أوضاع المرأة، ومنها تعدد الزوجات، والنتائج المترتبة عليه، كما نشرت عرضاً وافياً لكتابي قاسم أمين المعنونين (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة) اللذين أثارا ردود فعلٍ بين أوساط المحافظين في ذلك الوقت.
تضافرت تلك الجهود مع الدعوات الصادرة عن كبار المثقفين العراقيين في ذلك الوقت. والتي دعت إلى ضرورة الاهتمام بتعليم المرأة. على سبيل المثال أنشد الشاعر محمد مهدي الجواهري في سنة 1929م قصيدة جاء فيها:
أنجب الشرقُ جامداً يحسبُ المرأةَ عاراً وأنجبت طيارا
تحكم البرلمانَ من أمم الدنيا نساءٌ تمثلُ الأقطارا
ونساء العراقِ تُمنعُ أن ترسمَ خطّاً أَوْ تَقْرأَ الأسفارا

أسفرت تلك الجهود الحثيثة في دفع المرأة العراقية دفعاً إلى ساحة التعليم، بما في ذلك الجامعي. وبحسب بعض التقارير، كانت هناك طالبة واحدة في دار المعلمين العالية سنة 1939- 1940م وفي السنة التالية أصبح العدد 11 طالبة، وفي سنة 1947 – 1948م ارتفع العدد إلى 62 والسنة الدراسية التي تلتها إلى 80 طالبة، وأيضاً في كلية الطب كانت فيها طالبة واحدة سنة 1939م وفي سنة 1956م ارتفع العدد ليصل إلى 12 طالبة.
كانت صبيحة الشيخ داود أحد النماذج البارزة للفتاة العراقية المتعلمة في تلك المرحلة. تُعدّ صبيحة أول فتاة عراقية أكملت دراسة الحقوق. وكانت أولى النساء اللاتي عملن في سلك المحاماة والقانون، وعُينت بوظيفة مفتش في وزارة المعارف العراقية. وبحكم موقعها ساهمت في دعم الدعوة لتعليم النساء، وأسهمت في افتتاح عدد كبير من المدارس في بغداد والعراق. وفي سنة 1956، عُينت بمنصب قاضية في محاكم بغداد. أما في سنة 1958م فقد نشرت كتابها المهم "أول الطريق إلى النهضة النسوية الحديثة".
المشاركة السياسية
في سنة 1958، حصلت المرأة العراقية -للمرة الأولى- على اعتراف واضح بحقها في المشاركة في العملية السياسية بالبلاد. تحقق ذلك عندما أعلن رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري السعيد عن منح المرأة العراقية الحقوق السياسية وفقًا لأسس ومؤهلات معينة تلائم حالة البلاد الاجتماعية والثقافية في تلك الفترة. التطبيق العملي لذلك الإعلان نُفذ بعدها بسنة واحدة فحسب. وقع هذا عندما اُختيرت الناشطة النسوية نزيهة جودت الدليمي لتتسلم إحدى الحقائب الوزارية للمرة الأولى في تاريخ العراق والعالم العربي. أسهمت الدليمي بقدر وافر في إصدار قانون الأحوال الشخصية في العراق سنة 1959م. وهو القانون الذي اُعتبر حينها الأكثر تقدماً في منطقة الشرق الأوسط من حيث الحقوق التي منحها للمرأة.
— IrfaaSawtak ارفع صوتك (@IrfaaSawtak) November 4, 2022
بعد إسقاط حكومة النظام البعثي سنة 2003م، تم اختيار 3 نساء كعضوات من أصل 25 عضواً تشكل منهم مجلس الحكم الانتقالي. وفي سنة 2004م كان للنساء 4 حقائب وزارية من أصل 31 وزيراً تشكلت منهم أول حكومة بعد سقوط نظام صدام حسين. في السياق نفسه، نصت المادة 49 من الدستور العراقي على ضمان نصيب محدد (كوتة) للنساء في البرلمان العراقي. جاء في تلك المادة: "يستهدف قانون الانتخابات تحقيق نسبة تمثيل للنساء لا تقل عن الربع من عدد أعضاء مجلس النواب".
في بعض الأحيان، تمكنت المرأة العراقية من تجاوز تلك النسبة. على سبيل المثال تمكنت النساء العراقيات في انتخابات أكتوبر سنة 2021م من الاستحواذ على 97 مقعدا في البرلمان. وتجاوزن بذلك العدد المقرر بموجب الكوتا وهو 83 مقعدا فقط. الأمر الذي عدّه البعض دليلاً على حدوث "نقلة نوعية في مجال العمل السياسي للمرأة ورغبتها في المشاركة السياسية في عملية صنع القرار".
من جهة أخرى، لا تزال المرأة العراقية تخوض التحدي الصعب ضد الأعراف المتوارثة، والتي تعيق من مواصلة مشاركتها السياسية بشكل فعال. بحسب استطلاع أجراه "الباروميتر العربي" سنة 2021م فإن 72 بالمئة من العراقيين المستطلعة آراؤهم يوافقون على الرأي القائل إن "الرجل أفضل من المرأة في القيادة السياسية"، بينما كانت نسبة من يعارضون هذا الرأي 28 بالمئة فقط. بشكل عام، تنظر شريحة كبيرة من المواطنين لوجود مرشحة في الانتخابات على أنه أحد التهديدات، بوصف المرأة "غير مؤهلة" لخوض غمار العمل السياسي بالنسبة لبعض القوى السياسية المتنفذة، سواء كانت هذه النظرة مبنية على أسس ومفاهيم دينية أو عشائرية.