في سنة 2021، ما يزال 72 بالمئة من العراقيين المستطلعة آراؤهم يوافقون على الرأي القائل إن "الرجل أفضل من المرأة في القيادة السياسية".
في سنة 2021، ما يزال 72 بالمئة من العراقيين المستطلعة آراؤهم يوافقون على الرأي القائل إن "الرجل أفضل من المرأة في القيادة السياسية".

في سنة 1899، نشر المفكر المصري قاسم أمين كتابه الشهير "تحرير المرأة". دعا أمين في الكتاب للاهتمام بتعليم المرأة المصرية، وطالب بتحريرها من الأغلال التراثية التي قيدتها وعطلت نهضتها. بعد ذلك بسنوات قلائل، صدرت بعض الدعوات المماثلة في أرض الرافدين. ما هي أهم تلك الدعوات؟ وكيف انخرطت المرأة العراقية في السلك التعليمي في عشرينات القرن العشرين؟ وما هي أهم المحطات التي مرت بها العراقيات في طريقهن للمشاركة الاجتماعية والسياسية؟

 

الخطوات الأولى

 

عانت المرأة العراقية من التهميش والاستبعاد طويلا. اُستبعدت المرأة من ميادين العمل -الاجتماعي والسياسي- العام. وخضعت للأعراف المتوارثة التي ألزمتها بالحجاب وعدم الاختلاط بالرجال. ولم يُسمح بخروج الفتاة العراقية لتلقي العلوم الابتدائية إلا على نطاق ضيق إلى حد بعيد.

في هذا السياق، جهر بعض المفكرين العراقيين البارزين برأيهم في ضرورة تعليم المرأة وانفتاحها على المشاركة في الحياة العامة. على سبيل المثال نشر المفكر والشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي على صفحات جريدة المؤيد المصرية في السابع من أغسطس سنة 1910 مقالاً مهماً بعنوان "المرأة والدفاع عنها: صوت إصلاحي من العراق".

تتحدث الباحثة فريال صالح عمر في كتابها "تأثير الفكر الفرنسي على النخبة العراقية" عن أهمية هذا المقال والجدل الذي أحدثه في الساحة الثقافية وقتها، فتقول: "تناول فيها -أي المقالة- قضية المرأة تناولاً منطقياً، فيرى أن سيادة الرجل ليس لها ما يبررها، فإن كانت القوة البدنية فإن هناك من الحيوان من هو أشد منه ناباً وأوجع رفساً، وإن كانت القوة العقلية فإن الرجال أنفسهم يختلفون في المستوى العقلي ولم يهضم أحد منهم حق الآخر. ثم يعدد الجوانب التي هضم فيها الرجل حق المرأة، ولقد استعرض مجموعة من الحقوق المهضومة (حسب رأيه) بجرأة لم يسبقه إليها أحد من قبل، فكان الزهاوي حراً تماماً في طرح مثل هذه الأفكار التي لم يجرؤ أحد على الخوض فيها بكل حرية وصراحة...". ذهب الشاعر العراقي معروف الرصافي إلى الرأي نفسه. هاجم الرصافي الأوضاع الاجتماعية السيئة التي تعيش فيها المرأة العراقية. وطالب في قصيدته المشهورة "المرأة في الشرق" بتحريرها من الأصفاد التي تعيق انفتاحها على المجتمع. يقول الرصافي في قصيدته مهاجماً الثقافة الذكورية العرفية الشائعة:

لقد غمطوا حق النساء فشدَّدوا... عليهن في حبْسٍ وطول ثواء

وقد ألزموهن الحجاب وأنكروا... عليهن إلا خَرْجةً بغطاء

أضاقوا عليهن الفضاء كأنهم ... يغارون من نورٍ به وهواء

وقد زعموا أن لَسْن يصلحن في الدُّنا... لغير قرار في البُيوت وباء

 

تعليم المرأة العراقية

 

وقع التطور الأهم في حركة تحرير المرأة العراقية في سنة 1919م. رأى البريطانيون الذين فرضوا سيادتهم على الأراضي العراقية في تلك الفترة أن يبدأوا العمل لتعليم النساء العراقيات. في هذا السياق، اُستقدمت المس كيلي -وهي معلمة مشهورة كان لها خبرة كبيرة في التعليم في المستعمرات الهندية- وعُهد إليها بالإشراف على تعليم مجموعة من العراقيات. واُفتتحت أول مدرسة لتعليم البنات في يناير سنة 1920م.

نجحت التجربة بشكل لافت للنظر، وسرعان ما انخرطت العشرات من الفتيات في السلك الدراسي. شجع هذا السلطات على افتتاح المزيد من المدارس. وفي ذلك، تقول الباحثة وفاء كاظم ماضي محمد في كتابها "تطور الحركة النسوية في العراق"، ازداد عدد مدارس البنات في العراق من "أربع مدارس في العام الدراسي 1920-1921م إلى سبع وعشرين مدرسة في العام الدراسي 1921-1922م ثم أخذت الزيادة بالتدريج. وصل عدد المدارس في نهاية عهد الانتداب البريطاني للعراق عام 1932م إلى تسع وأربعين مدرسة، رافقتها زيادة في أعداد الطالبات، فبعد أن كان عددهن في العام الدراسي 1920- 1921 أربعمائة واثنين وستين طالبة وصل العدد إلى ثمانية آلاف وثمانمائة وخمس وأربعين في العام الدراسي 1931- 1932م".

أثمر تعليم الفتيات في تلك الفترة الحرجة من تاريخ العراق عن زيادة الوعي النسائي بشكل عام، وظهر ذلك بشكل واضح في مشاركة العشرات من النساء في المظاهرات الحاشدة التي تزامنت مع اندلاع ثورة العشرين ضد البريطانيين. في سنة 1923م، صدر العدد الأول من "مجلة ليلى"، والتي كانت أول مجلة نسائية عراقية، واهتمت بنشر موضوعات متنوعة حول تعليم المرأة وتحريرها ومشاركتها في العمل السياسي فضلاً عن بعض الجوانب الخاصة بتربية الأبناء والاقتصاد المنزلي والفنون والآداب. يُعزى الفضل في ظهور تلك المجلة إلى الصحفية العراقية بولينا حسون روفائيل، والتي أسهمت أيضاً في تأسيس أول نادي نسوي في العراق في سنة 1923م، وكان اسمه "نادي النهضة النسائية". ومما يُذكر هنا أن العدد الأول من مجلة ليلى قد تضمن نداء موجه إلى أعضاء أول مجلس تأسيسي عراقي. جاء في هذا العدد "إن نجاح النهضة النسوية الناشئة منوط بخبرتكم وشهامتكم أيها الرجال الكرام، ولاسيما أنتم الذين تحملتم أعباء مسؤولية تأسيس الحياة الديمقراطية العراقية على قواعد عصرية راسخة في الحياة، وأنتم تعلمون أنها ليست حق الرجل فقط".

في سنة 1924، قرر أعضاء نادي النهضة النسائية -وعلى رأسهم كل من أسماء الزهاوي شقيقة الشاعر جميل صدقي الزهاوي، ونعيمة السعيد، وماري عبد المسيح، وفخرية العسكري زوجة الوزير جعفر العسكري- أن ينشروا أفكارهم المطالبة بتحرير المرأة العراقية في مجلة جديدة. وبالفعل تم إصدار مجلة "الصحيفة".

نشرت المجلة في عددها الأول مقالة تناولت أوضاع المرأة العراقية بعنوان (حالة المرأة الاجتماعية والحقوقية وطرق إصلاحها) بقلم محمد سليم، تطرق فيها إلى عملية التطور التاريخي الذي مر بها النظام العائلي وضرورة مواكبة هذا التطور الذي أيدته الشريعة الإسلامية بعد أن ثبت أساسه وتحسنت بعض صفاته، وأن الشريعة أرادت أن ترفع بعض التقاليد المريرة كالوأد مثلاً وأبقت على بعضها الآخر بتحديده وتقييده ببعض الشروط. وعليه فإن تطور المرأة واكتسابها حقوقها وامتيازاتها المغصوبة لكي تحل محلها المناسب في المجتمع أمر مهم ولازم يحتم على كل وطني السعي في تعجيله وتسهيله".

وفي عددها الثاني، تطرقت المجلة في مقالاتها إلى أوضاع المرأة، ومنها تعدد الزوجات، والنتائج المترتبة عليه، كما نشرت عرضاً وافياً لكتابي قاسم أمين المعنونين (تحرير المرأة) و(المرأة الجديدة) اللذين أثارا ردود فعلٍ بين أوساط المحافظين في ذلك الوقت.

تضافرت تلك الجهود مع الدعوات الصادرة عن كبار المثقفين العراقيين في ذلك الوقت. والتي دعت إلى ضرورة الاهتمام بتعليم المرأة. على سبيل المثال أنشد الشاعر محمد مهدي الجواهري في سنة 1929م قصيدة جاء فيها:

أنجب الشرقُ جامداً يحسبُ المرأةَ عاراً وأنجبت طيارا

تحكم البرلمانَ من أمم الدنيا نساءٌ تمثلُ الأقطارا

ونساء العراقِ تُمنعُ أن ترسمَ خطّاً أَوْ تَقْرأَ الأسفارا

أسفرت تلك الجهود الحثيثة في دفع المرأة العراقية دفعاً إلى ساحة التعليم، بما في ذلك الجامعي. وبحسب بعض التقارير، كانت هناك طالبة واحدة في دار المعلمين العالية سنة 1939- 1940م وفي السنة التالية أصبح العدد 11 طالبة، وفي سنة 1947 – 1948م ارتفع العدد إلى 62 والسنة الدراسية التي تلتها إلى 80 طالبة، وأيضاً في كلية الطب كانت فيها طالبة واحدة سنة 1939م وفي سنة 1956م ارتفع العدد ليصل إلى 12 طالبة.

كانت صبيحة الشيخ داود أحد النماذج البارزة للفتاة العراقية المتعلمة في تلك المرحلة. تُعدّ صبيحة أول فتاة عراقية أكملت دراسة الحقوق. وكانت أولى النساء اللاتي عملن في سلك المحاماة والقانون، وعُينت بوظيفة مفتش في وزارة المعارف العراقية. وبحكم موقعها ساهمت في دعم الدعوة لتعليم النساء، وأسهمت في افتتاح عدد كبير من المدارس في بغداد والعراق. وفي سنة 1956، عُينت بمنصب قاضية في محاكم بغداد. أما في سنة 1958م فقد نشرت كتابها المهم "أول الطريق إلى النهضة النسوية الحديثة".

 

المشاركة السياسية

 

في سنة 1958، حصلت المرأة العراقية -للمرة الأولى- على اعتراف واضح بحقها في المشاركة في العملية السياسية بالبلاد. تحقق ذلك عندما أعلن رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري السعيد عن منح المرأة العراقية الحقوق السياسية وفقًا لأسس ومؤهلات معينة تلائم حالة البلاد الاجتماعية والثقافية في تلك الفترة. التطبيق العملي لذلك الإعلان نُفذ بعدها بسنة واحدة فحسب. وقع هذا عندما اُختيرت الناشطة النسوية نزيهة جودت الدليمي لتتسلم إحدى الحقائب الوزارية للمرة الأولى في تاريخ العراق والعالم العربي. أسهمت الدليمي بقدر وافر في إصدار قانون الأحوال الشخصية في العراق سنة 1959م. وهو القانون الذي اُعتبر حينها الأكثر تقدماً في منطقة الشرق الأوسط من حيث الحقوق التي منحها للمرأة.

بعد إسقاط حكومة النظام البعثي سنة 2003م، تم اختيار 3 نساء كعضوات من أصل 25 عضواً تشكل منهم مجلس الحكم الانتقالي. وفي سنة 2004م كان للنساء 4 حقائب وزارية من أصل 31 وزيراً تشكلت منهم أول حكومة بعد سقوط نظام صدام حسين. في السياق نفسه، نصت المادة 49 من الدستور العراقي على ضمان نصيب محدد (كوتة) للنساء في البرلمان العراقي. جاء في تلك المادة: "يستهدف قانون الانتخابات تحقيق نسبة تمثيل للنساء لا تقل عن الربع من عدد أعضاء مجلس النواب".

في بعض الأحيان، تمكنت المرأة العراقية من تجاوز تلك النسبة. على سبيل المثال تمكنت النساء العراقيات في انتخابات أكتوبر سنة 2021م من الاستحواذ على 97 مقعدا في البرلمان. وتجاوزن بذلك العدد المقرر بموجب الكوتا وهو 83 مقعدا فقط. الأمر الذي عدّه البعض دليلاً على حدوث "نقلة نوعية في مجال العمل السياسي للمرأة ورغبتها في المشاركة السياسية في عملية صنع القرار".

من جهة أخرى، لا تزال المرأة العراقية تخوض التحدي الصعب ضد الأعراف المتوارثة، والتي تعيق من مواصلة مشاركتها السياسية بشكل فعال. بحسب استطلاع أجراه "الباروميتر العربي" سنة 2021م فإن 72 بالمئة من العراقيين المستطلعة آراؤهم يوافقون على الرأي القائل إن "الرجل أفضل من المرأة في القيادة السياسية"، بينما كانت نسبة من يعارضون هذا الرأي 28 بالمئة فقط. بشكل عام، تنظر شريحة كبيرة من المواطنين لوجود مرشحة في الانتخابات على أنه أحد التهديدات، بوصف المرأة "غير مؤهلة" لخوض غمار العمل السياسي بالنسبة لبعض القوى السياسية المتنفذة، سواء كانت هذه النظرة مبنية على أسس ومفاهيم دينية أو عشائرية.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".