ختان الإناث واحد من بين الانتهاكات الشائعة في عدد من الدول في المنطقة العربية بسبب الأعراف القديمة وبعض التفسيرات الدينية التقليدية. وتعرّف منظمة الصحة العالمية ختان البنات بأنه الإزالة الجزئية أو الكلية للأعضاء التناسلية الخارجية للإناث لأسباب غير طبية. تذكر بعض التقارير أن إجراء عمليات ختان الإناث شائع في ثلاثين دولة في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، وأن مئتي مليون فتاة وامرأة يعشن مع مضاعفات ختان الإناث حول العالم.
تتباين أشكال وطرق ختان الإناث بحسب المنطقة والتقاليد المتبعة. على سبيل المثال، تعرف السودان وأثيوبيا نوعاً مخصوصاً من الختان. يُعرف هذا النوع باسم الختان الفرعوني. وتتم فيه إزالة البظر والشفرتين، وغالباً ما يتضمن خياطة الفرج لتضييق فتحة المهبل. أما في مصر فيأخذ ختان الإناث شكلا مختلفاً. يتم قطع جزء من البظر. ويُعرف هذا الإجراء بـ"الختان السني". نلقي الضوء في هذا المقال على قضية ختان الإناث. لنرى كيف ظهرت تلك الممارسة قديماً، ولنتعرف على أبرز الجهود الفقهية والقانونية المعاصرة المبذولة للقضاء عليها.
الختان والفقه قديما
ظهرت فكرة الختان منذ آلاف السنين في العديد من الحضارات الإنسانية. على سبيل المثال، عرف المصريون القدماء ختان الذكور وصوروه في النقوش المحفورة على جدران المعابد.
اهتم اليهود أيضاً بختان الذكور. وجعلوه علامة العهد بين يهوه والنبي إبراهيم وذريته من بعده على مر العصور. لكن العهد القديم لم يتحدث عن ختان الإناث، فيما ورد في التلمود -التعاليم اليهودية الشفوية- أن بنات إسرائيل يولدن مختونات وربما المقصود أنهن لسن في حاجة إلى عملية الختان!
على الرغم من ذلك، توجد بعض الإشارات التاريخية إلى أن نساء اليهود الذين عاشوا في مصر في العهود القديمة مارسن الختان تأثراً بالعادات المصرية. الأمر ذاته حدث فيما يخص بعض المجتمعات اليهودية الهامشية كبدو النقب ويهود الفلاشا. على العكس من اليهودية، لم تهتم المسيحية بمسألة الختان. لم يُلزم مجمع أورشليم سنة 50م تقريباً المتحولين إلى المسيحية من غير اليهود بإجراء عملية الختان، وتركهم أحراراً بهذا الخصوص.
عاد طقس الختان إلى الواجهة مرة أخرى في الإسلام. أكدت المدونات الحديثية على أهمية ختان الذكور اقتداءً بالنبي إبراهيم. وتحدثت بعض الروايات عن ختان الإناث في المجتمع الإسلامي في الحقبة المدنية. ذكر الحاكم النيسابوري في كتابه "المُستدرك على الصحيحين" أن النبي قابل امرأة كانت تختن النساء بالمدينة، وقال لها: "اخْفِضِي ولا تُنْهِكِي، فإنَّهُ أنْضَرُ للوَجْهِ، وأحْظَى عند الزَّوْجِ". بعض الروايات الأخرى أشارت لختان الإناث بشكل يغلب عليه التلميح. على سبيل المثال ورد في سنن ابن ماجة قول النبي: "إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْل".
بنى الفقهاء القدامى على تلك الروايات أحكامهم بخصوص تلك المسألة. اعتبر غالبيتهم ختان الأنثى مشروعا، وإن اختلف حكمهم بين الوجوب والسنة. في القرن السادس الهجري، وضح الفقيه يحيى بن هبيرة الحنبلي في كتابه "الإفصاح عن معاني الصحاح" الاختلاف الحادث في تلك المسألة بين المذاهب السنية الأربعة، فقال إن "الفقهاء اتفقوا على أن الختان في حق الرجال والخفاض في حق الإناث مشروع، ثم اختلفوا في وجوبه، فقال الإمامان أبو حنيفة ومالك هو مسنون في حقهما وليس بواجب وجوب فرض ولكن يأثم بتركه تاركه، وقال الإمام الشافعي هو فرض على الذكور والإناث، وقال الإمام أحمد هو واجب في حق الرجال، وفى النساء عنه روايتان أظهرهما الوجوب".
تماشياً مع تلك الآراء، يذهب الكثير من الشيوخ المعاصرين اليوم، خاصة شيوخ الحركة السلفية، لجواز ختان الإناث. على سبيل المثال جاء في إحدى فتاوى مفتي السعودية عبد العزيز ابن باز أن "ختان البنات سنة، كختان البنين، إذا وجد من يحسن ذلك من الأطباء أو الطبيبات". كما ورد في مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين "أن حكم الختان محل خلاف، وأقرب الأقوال إن الختان واجب في حق الرجال، وسنة في حق النساء…".
على الجهة المقابلة، لم يحظ ختان الإناث بالمشروعية نفسها في الفقه الشيعي الإمامي الإثني عشري. وردت العديد من الروايات التي تنهى عن ممارسة ختان الإناث وتقلل من أهميته. على سبيل المثال، جاء في كتاب "الكافي" لمحمد بن يعقوب الكليني عن جعفر الصادق: "ختان الغلام من السنة وخفض الجواري ليس من السنة". من هنا، لم تشع ممارسة ختان الإناث في المجتمعات الشيعية، فيما بقيت منتشرة في العديد من المجتمعات السنية كمصر والسودان وبعض المناطق الكردية -الشافعية المذهب- في كل من إيران والعراق.
الآراء الفقهية المعاصرة
يلقى ختان الإناث معارضة قوية من جانب العديد من الفقهاء المسلمين المعاصرين. بنى هؤلاء الفقهاء رأيهم على التقارير الطبية التي تثبت أن تلك الممارسة تؤدي لوقوع الكثير من الأضرار الجسدية والنفسية على المرأة.
في 2006م، قدم رجل الدين المصري يوسف القرضاوي ورقة بعنوان "الحكم الشرعي في ختان الإناث" في "مؤتمر العلماء العالمي نحو حظر انتهاك جسد المرأة" والذي عُقد في القاهرة برعاية مفتي مصر. تناول القرضاوي قضية ختان الإناث في ورقته. وعمل على مناقشتها في ضوء القواعد العامة للشريعة الإسلامية، فأشار إلى ضعف الأحاديث التي ذكرت مسألة ختان الإناث. وخلص في النهاية إلى أنه "...إذا كان قطع هذا الجزء من جسم المرأة، يترتَّب عليه أذى أو ضرر معيَّن لها، في بدنها أو نفسها، أو يحرمها من حقٍّ فطري لها، مثل حقِّ المتعة الجنسية مع زوجها، وحقِّ الارتواء الجنسي، الذي جعله الله لبنات حواء بمقتضى الفطرة التي فطر الله الناس عليها، كان ذلك محظوراً شرعاً، لأنه ضرر على المرأة أو الأنثى، فرض عليها بغير إرادتها".
رغم تأييد الكثير من الفقهاء لهذا الرأي إلا أنه لم يصدر قرار واضح بمنعه أو بتحريمه في تلك الفترة. ظل الوضع على ما هو عليه حتى سنة 2021م. في فبراير من تلك السنة قال شيخ الأزهر أحمد الطيب إنه "تبين للأزهر من خلال ما قرره أهل الفقه والطب الموثوق بهم وبعلمهم أن للختان أضراراً كبيرة تلحق شخصية الفتاة بشكل عام وتؤثر على حياتها الأسرية بعد الزواج بشكل خاص، بما ينعكس سلباً على المجتمع بأسره. بناء عليه قرر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بعد أن تدارس موضوع الختان من كل جوانبه الفقهية الصحيحة وبإجماع أعضائه أن الختان لم ترد فيه أوامر شرعية صحيحة وثابتة لا بالقرآن ولا في السنة".
في نوفمبر من العام نفسه، أصدرت المؤسسة الدينية الرسمية في مصر حكمها النهائي في تلك المسألة. أوردت دار الإفتاء المصرية فتوى طويلة جاء فيها "ختان الإناث لا مُوجب له من الشرع الشريف، وكل ما ورد فيه من أحاديث إنما دلت على تقييده بُغية الوصول إلى منعه، وبيان عظيم شره، والتحذير من انتهاك جسد المرأة بهذه العادة، في سياقٍ يؤكد عدم جواز الادعاء بأن فعلها عبادة، بل هو سقف معرفي وصل إليه العقل البشري حينذاك، فإذا ما ارتفع هذا السقف المعرفي، وتغيرت أحوال الناس واختلفت البيئات، لزم أن يتغير الحكم، وهذا ما أقره الشرع في قواعده، وتواردت نصوصه على أن الأحكام المترتبة على العادات تتغير بتغيرها".
لم يقتصر الرأي الفقهي المعارض لختان الإناث على الفقهاء المصريين وحدهم. في سنة 2013م -ومع تزايد أعداد حالات ختان الإناث في كردستان العراقية- أفتى المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني بحرمة ختان الإناث بقوله: "إذا کان المقصود بختان الانثى هو قطع جلد الغلفة التي تغطي رأس الأنثوي (البظر) فالصحیح إنه لیس سنة شرعیة بل یحرم لو کان فیه ضرر علیها، وأما قطع العضو الانثوي بتمامه أو قطع بعضه فلا ینبغي الریب في أنه جنایة علیها ولا مسوّغ للأبوین في القیام به أبداً".
الرفض القانوني لختان الإناث
ارتفعت أصوات العديد من منظمات المجتمع المدني التي طالبت بوضع حد لممارسة ختان الإناث في الدول العربية، خصوصاً بعدما ثبتت خطورة هذه الممارسة على الفتاة أو المرأة التي تتعرض لها.
في 2011م، أقر إقليم كردستان العراق قانوناً مشدداً يمنع الختان، وينص في مادته الثامنة على أنه "استنادا للمادة (7) في القانون المتعلق بالعنف الأسري والخاص بعقوبة ختان الإناث، يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تزيد عن 3 سنوات وبغرامة لا تقل عن مليون دينار ولا تزيد على 5 ملايين دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب عنفاً أسرياً". رغم أن القانون لم يسم الختان إلا أنه عُدّ واحداً من أهم مظاهر العنف الأسري الذي قصدته المادة القانونية.
في يوليو سنة 2020م، خطت السودان خطوة مهمة نحو تجريم ممارسة ختان الإناث. صادق مجلس السيادة الانتقالي في السودان على قانون يجرّم تلك الممارسة في كافة أنحاء البلاد. جاء في هذا القانون "يُعدّ مرتكباً جريمة كل من يقوم بإزالة أو تشويه العضو التناسلي للأنثى، ما يؤدي إلى ذهاب وظيفته كلياً أو جزئياً سواء كان داخل أي مستشفى أو مركز صحي أو مستوصف أو عيادة أو غيرها من الأماكن. ويعاقب من يرتكب الجريمة بالسجن مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات وبالغرامة".
لحقت مصر مؤخراً بركب الدول المجرّمة لختان الإناث، وتم تم تغليظ عقوبة ممارسة عملية الختان في سنة 2021م. جاء في القانون رقم 10 لسنة 2021: "يُعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات كل من أجرى ختاناً لأنثى بإزالة أي جزء من أعضائها التناسلية الخارجية بشكل جزئي أو تام أو ألحق إصابات بتلك الأعضاء. فإذا نشأ عن ذلك الفعل عاهة مستديمة تكون العقوبة السجن المشدد مدة لا تقل عن سبع سنوات، أما إذا أفضى الفعل إلى الموت تكون العقوبة السجن المشدد لمدة لا تقل عن عشر سنوات".
لم يكتف القانون بذلك بل استهدف أيضاً جميع الفقهاء أو الدعاة الذين يروجون لتلك الممارسة. جاء في نص المادة القانونية "يُعاقب بالسجن كل من طلب ختان أنثى وتم ختانها بناءً على طلبه… كما يُعاقب بالحبس كل من روج، أو شجع، أو دعا لارتكاب جريمة ختان أنثى ولو لم يترتب على فعله أثر".