تعد عمليات ختان الإناث شائعة في ثلاثين دولة في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط.
تعد عمليات ختان الإناث شائعة في ثلاثين دولة في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط.

ختان الإناث واحد من بين الانتهاكات الشائعة في عدد من الدول في المنطقة العربية بسبب الأعراف القديمة وبعض التفسيرات الدينية التقليدية.  وتعرّف منظمة الصحة العالمية ختان البنات بأنه الإزالة الجزئية أو الكلية للأعضاء التناسلية الخارجية للإناث لأسباب غير طبية. تذكر بعض التقارير أن إجراء عمليات ختان الإناث شائع في ثلاثين دولة في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، وأن مئتي مليون فتاة وامرأة يعشن مع مضاعفات ختان الإناث حول العالم.

تتباين أشكال وطرق ختان الإناث بحسب المنطقة والتقاليد المتبعة. على سبيل المثال، تعرف السودان وأثيوبيا نوعاً مخصوصاً من الختان. يُعرف هذا النوع باسم الختان الفرعوني. وتتم فيه إزالة البظر والشفرتين، وغالباً ما يتضمن خياطة الفرج لتضييق فتحة المهبل. أما في مصر فيأخذ ختان الإناث شكلا مختلفاً. يتم قطع جزء من البظر. ويُعرف هذا الإجراء بـ"الختان السني". نلقي الضوء في هذا المقال على قضية ختان الإناث. لنرى كيف ظهرت تلك الممارسة قديماً، ولنتعرف على أبرز الجهود الفقهية والقانونية المعاصرة المبذولة للقضاء عليها.

 

الختان والفقه قديما

 

ظهرت فكرة الختان منذ آلاف السنين في العديد من الحضارات الإنسانية. على سبيل المثال، عرف المصريون القدماء ختان الذكور وصوروه في النقوش المحفورة على جدران المعابد.

اهتم اليهود أيضاً بختان الذكور. وجعلوه علامة العهد بين يهوه والنبي إبراهيم وذريته من بعده على مر العصور. لكن العهد القديم لم يتحدث عن ختان الإناث، فيما ورد في التلمود -التعاليم اليهودية الشفوية- أن بنات إسرائيل يولدن مختونات وربما المقصود أنهن لسن في حاجة إلى عملية الختان!

على الرغم من ذلك، توجد بعض الإشارات التاريخية إلى أن نساء اليهود الذين عاشوا في مصر في العهود القديمة مارسن الختان تأثراً بالعادات المصرية. الأمر ذاته حدث فيما يخص بعض المجتمعات اليهودية الهامشية كبدو النقب ويهود الفلاشا. على العكس من اليهودية، لم تهتم المسيحية بمسألة الختان. لم يُلزم مجمع أورشليم سنة 50م تقريباً المتحولين إلى المسيحية من غير اليهود بإجراء عملية الختان، وتركهم أحراراً بهذا الخصوص.

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
بين الفقه والقانون.. ألم يحن الوقت لغلق ملف زواج القاصرات؟
لم يحدد الإسلام سنا معينا للزواج. بقي تحديد السن أمراً مرهوناً بالمقام الأول بالظروف الخاصة بكل مجتمع. نلقي الضوء في هذا المقال على قضية زواج القاصرات، لنبيّن الاختلاف الفقهي الواقع في المسألة، ولنوضح كيف تناولتها المدونات القانونية ومجلات الأحوال الشخصية في العديد من الدول العربية.

عاد طقس الختان إلى الواجهة مرة أخرى في الإسلام. أكدت المدونات الحديثية على أهمية ختان الذكور اقتداءً بالنبي إبراهيم. وتحدثت بعض الروايات عن ختان الإناث في المجتمع الإسلامي في الحقبة المدنية. ذكر الحاكم النيسابوري في كتابه "المُستدرك على الصحيحين" أن النبي قابل امرأة كانت تختن النساء بالمدينة، وقال لها: "اخْفِضِي ولا تُنْهِكِي، فإنَّهُ أنْضَرُ للوَجْهِ، وأحْظَى عند الزَّوْجِ". بعض الروايات الأخرى أشارت لختان الإناث بشكل يغلب عليه التلميح. على سبيل المثال ورد في سنن ابن ماجة قول النبي: "إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ وَجَبَ الْغُسْل".

بنى الفقهاء القدامى على تلك الروايات أحكامهم بخصوص تلك المسألة. اعتبر غالبيتهم ختان الأنثى مشروعا، وإن اختلف حكمهم بين الوجوب والسنة. في القرن السادس الهجري، وضح الفقيه يحيى بن هبيرة الحنبلي في كتابه "الإفصاح عن معاني الصحاح" الاختلاف الحادث في تلك المسألة بين المذاهب السنية الأربعة، فقال إن "الفقهاء اتفقوا على أن الختان في حق الرجال والخفاض في حق الإناث مشروع، ثم اختلفوا في وجوبه، فقال الإمامان أبو حنيفة ومالك هو مسنون في حقهما وليس بواجب وجوب فرض ولكن يأثم بتركه تاركه، وقال الإمام الشافعي هو فرض على الذكور والإناث، وقال الإمام أحمد هو واجب في حق الرجال، وفى النساء عنه روايتان أظهرهما الوجوب".

تماشياً مع تلك الآراء، يذهب الكثير من الشيوخ المعاصرين اليوم، خاصة شيوخ الحركة السلفية، لجواز ختان الإناث. على سبيل المثال جاء في إحدى فتاوى مفتي السعودية عبد العزيز ابن باز أن "ختان البنات سنة، كختان البنين، إذا وجد من يحسن ذلك من الأطباء أو الطبيبات". كما ورد في مجموع فتاوى ورسائل الشيخ ابن عثيمين "أن حكم الختان محل خلاف، وأقرب الأقوال إن الختان واجب في حق الرجال، وسنة في حق النساء…".

على الجهة المقابلة، لم يحظ ختان الإناث بالمشروعية نفسها في الفقه الشيعي الإمامي الإثني عشري. وردت العديد من الروايات التي تنهى عن ممارسة ختان الإناث وتقلل من أهميته. على سبيل المثال، جاء في كتاب "الكافي" لمحمد بن يعقوب الكليني عن جعفر الصادق: "ختان الغلام من السنة وخفض الجواري ليس من السنة". من هنا، لم تشع ممارسة ختان الإناث في المجتمعات الشيعية، فيما بقيت منتشرة في العديد من المجتمعات السنية كمصر والسودان وبعض المناطق الكردية -الشافعية المذهب- في كل من إيران والعراق.

 

الآراء الفقهية المعاصرة

 

يلقى ختان الإناث معارضة قوية من جانب العديد من الفقهاء المسلمين المعاصرين. بنى هؤلاء الفقهاء رأيهم على التقارير الطبية التي تثبت أن تلك الممارسة تؤدي لوقوع الكثير من الأضرار الجسدية والنفسية على المرأة.

في 2006م، قدم رجل الدين المصري يوسف القرضاوي ورقة بعنوان "الحكم الشرعي في ختان الإناث" في "مؤتمر العلماء العالمي نحو حظر انتهاك جسد المرأة" والذي عُقد في القاهرة برعاية مفتي مصر. تناول القرضاوي قضية ختان الإناث في ورقته. وعمل على مناقشتها في ضوء القواعد العامة للشريعة الإسلامية، فأشار إلى ضعف الأحاديث التي ذكرت مسألة ختان الإناث. وخلص في النهاية إلى أنه "...إذا كان قطع هذا الجزء من جسم المرأة، يترتَّب عليه أذى أو ضرر معيَّن لها، في بدنها أو نفسها، أو يحرمها من حقٍّ فطري لها، مثل حقِّ المتعة الجنسية مع زوجها، وحقِّ الارتواء الجنسي، الذي جعله الله لبنات حواء بمقتضى الفطرة التي فطر الله الناس عليها، كان ذلك محظوراً شرعاً، لأنه ضرر على المرأة أو الأنثى، فرض عليها بغير إرادتها".

رغم تأييد الكثير من الفقهاء لهذا الرأي إلا أنه لم يصدر قرار واضح بمنعه أو بتحريمه في تلك الفترة. ظل الوضع على ما هو عليه حتى سنة 2021م. في فبراير من تلك السنة قال شيخ الأزهر أحمد الطيب إنه "تبين للأزهر من خلال ما قرره أهل الفقه والطب الموثوق بهم وبعلمهم أن للختان أضراراً كبيرة تلحق شخصية الفتاة بشكل عام وتؤثر على حياتها الأسرية بعد الزواج بشكل خاص، بما ينعكس سلباً على المجتمع بأسره. بناء عليه قرر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف بعد أن تدارس موضوع الختان من كل جوانبه الفقهية الصحيحة وبإجماع أعضائه أن الختان لم ترد فيه أوامر شرعية صحيحة وثابتة لا بالقرآن ولا في السنة".

في نوفمبر من العام نفسه، أصدرت المؤسسة الدينية الرسمية في مصر حكمها النهائي في تلك المسألة. أوردت دار الإفتاء المصرية فتوى طويلة جاء فيها "ختان الإناث لا مُوجب له من الشرع الشريف، وكل ما ورد فيه من أحاديث إنما دلت على تقييده بُغية الوصول إلى منعه، وبيان عظيم شره، والتحذير من انتهاك جسد المرأة بهذه العادة، في سياقٍ يؤكد عدم جواز الادعاء بأن فعلها عبادة، بل هو سقف معرفي وصل إليه العقل البشري حينذاك، فإذا ما ارتفع هذا السقف المعرفي، وتغيرت أحوال الناس واختلفت البيئات، لزم أن يتغير الحكم، وهذا ما أقره الشرع في قواعده، وتواردت نصوصه على أن الأحكام المترتبة على العادات تتغير بتغيرها".

لم يقتصر الرأي الفقهي المعارض لختان الإناث على الفقهاء المصريين وحدهم. في سنة 2013م -ومع تزايد أعداد حالات ختان الإناث في كردستان العراقية- أفتى المرجع الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني بحرمة ختان الإناث بقوله: "إذا کان المقصود بختان الانثى هو قطع جلد الغلفة التي تغطي رأس الأنثوي (البظر) فالصحیح إنه لیس سنة شرعیة بل یحرم لو کان فیه ضرر علیها، وأما قطع العضو الانثوي بتمامه أو قطع بعضه فلا ینبغي الریب في أنه جنایة علیها ولا مسوّغ للأبوین في القیام به أبداً".

 

الرفض القانوني لختان الإناث

 

ارتفعت أصوات العديد من منظمات المجتمع المدني التي طالبت بوضع حد لممارسة ختان الإناث في الدول العربية، خصوصاً بعدما ثبتت خطورة هذه الممارسة على الفتاة أو المرأة التي تتعرض لها.

في 2011م، أقر إقليم كردستان العراق  قانوناً مشدداً يمنع الختان، وينص في مادته الثامنة على أنه "استنادا للمادة (7) في القانون المتعلق بالعنف الأسري والخاص بعقوبة ختان الإناث، يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تزيد عن 3 سنوات وبغرامة لا تقل عن مليون دينار ولا تزيد على 5 ملايين دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من ارتكب عنفاً أسرياً". رغم أن القانون لم يسم الختان إلا أنه عُدّ واحداً من أهم مظاهر العنف الأسري الذي قصدته المادة القانونية.

في يوليو سنة 2020م، خطت السودان خطوة مهمة نحو تجريم ممارسة ختان الإناث. صادق مجلس السيادة الانتقالي في السودان على قانون يجرّم تلك الممارسة في كافة أنحاء البلاد. جاء في هذا القانون "يُعدّ مرتكباً جريمة كل من يقوم بإزالة أو تشويه العضو التناسلي للأنثى، ما يؤدي إلى ذهاب وظيفته كلياً أو جزئياً سواء كان داخل أي مستشفى أو مركز صحي أو مستوصف أو عيادة أو غيرها من الأماكن. ويعاقب من يرتكب الجريمة بالسجن مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات وبالغرامة".

لحقت مصر مؤخراً بركب الدول المجرّمة لختان الإناث، وتم تم تغليظ عقوبة ممارسة عملية الختان في سنة 2021م. جاء في القانون رقم 10 لسنة 2021: "يُعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات كل من أجرى ختاناً لأنثى بإزالة أي جزء من أعضائها التناسلية الخارجية بشكل جزئي أو تام أو ألحق إصابات بتلك الأعضاء. فإذا نشأ عن ذلك الفعل عاهة مستديمة تكون العقوبة السجن المشدد مدة لا تقل عن سبع سنوات، أما إذا أفضى الفعل إلى الموت تكون العقوبة السجن المشدد لمدة لا تقل عن عشر سنوات".

لم يكتف القانون بذلك بل استهدف أيضاً جميع الفقهاء أو الدعاة الذين يروجون لتلك الممارسة. جاء في نص المادة القانونية "يُعاقب بالسجن كل من طلب ختان أنثى وتم ختانها بناءً على طلبه… كما يُعاقب بالحبس كل من روج، أو شجع، أو دعا لارتكاب جريمة ختان أنثى ولو لم يترتب على فعله أثر".

 

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".