إستير أزهري ناشطة نسوية وصحافية سورية يهودية
إستير أزهري ناشطة نسوية وصحافية سورية يهودية

ظهر اسم الناشطة النسوية السورية-اليهودية الرائدة إستير أزهري (1873-1948م) للمرة الأولى عام 1892، حين وصلتها دعوة من رئيسة المؤتمر النسائي العالمي الأميركية بيرثا هونوريه بالمر (1849-1918) هي وسبع نساء أخريات، من سوريا العثمانية، للمشاركة في فعاليات المؤتمر الذي سيقام متزامناً مع فعاليات معرض إكسبو العالمي في مدينة شيكاغو.

ولكن مسيرة أزهري لم تتوقف عند هذه المحطة، كما حدث لأغلب اللواتي وردت أسماؤهن في نص الدعوة، بل تابعت نشاطها النسوي والصحافي، واستطاعت أن تؤسس صحيفة نسائية في مصر، لم تعمّر طويلاً، إلا أنها بقيت علامة في تاريخ الصحافة النسائية العربية.

كما طورت أفكارها حول قضية المرأة حتى وصلت في عام 1911 لأن تتبنى مقولات نسوية راديكالية، مغلفة بدعوة عروبية للوقوف في وجه الهيمنة الإمبريالية الغربية الصاعدة آنذاك.

 

مؤتمر شيكاغو

ولدت إستير أزهري في بيروت عام 1873 لعائلة يهودية شرقية (سفاردية) مهاجرة من الأندلس، استقرت في سوريا مطلع العصر العثماني، وكان والدها عبد الله أزهري تاجر حرير عُني بتربية ابنته تربية خاصة.

حفظت أزهري أجزاء من القرآن، وكانت تتقن قواعد التلاوة، ودرست الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، قبل أن تبدأ في عام 1884 دراسة اللغتين العربية والإنجليزية، حين كانت في الحادية عشرة من عمرها.

وفي عام 1890، حصلت على شهادة أكاديمية من الكلية الأميركية للبنات، ودرّست لبضع سنوات في بعثة الكنيسة الأسكتلندية، وفي الكلية البروتستانتية السورية (الجامعة الأميركية لاحقاً).

انضمت أزهري عام 1891 إلى جمعية "باكورة سوريا"، أولى الجمعيات النسائية السورية، وأصبحت بعد عامين سكرتيرة للجمعية، قبل أن تصلها دعوة للمؤتمر النسائي العالمي في شيكاغو عام 1893، تلتها رسالة من السيدة أنطوانيت واكان، رئيسة لجنة مؤتمر الصحافة النسوية؛ الذي سيعقد على هامش المؤتمر النسائي العالمي، حيث احتفت الصحافة آنذاك بهذا الحدث، ونشرت نص الرسالة، ضمن ذلك الاحتفاء.

وبحسب نص رسالة واكان فإن لجنة الصحافة النسائية تتكون من مئة كاتبة شهيرة، وتم اختيار أزهري عضوة لهذه اللجنة عن البلاد السورية.

وورد فيها: "جئت أسألك ولي ثقة عظيمة بك أن تبعثي إلينا بما ترتئيه ومما تجدينه مناسباً من المواضيع الخليقة بالبحث والنظر، وأن تتكرمي أيضاً بإرسال أسماء الأشخاص الذين تجدين فيهم أهلية لتقديم هذه المواضيع للمؤتمر. ولعلك تتلطفين بإرسال أية إفادة بشأن الكاتبات، مما تصل إليه مقدرتك ومعارفك، وبوجه خاص نرغب إليك التكرم بالجواب العاجل". 

تشير الحصيلة الصحافية في تلك الفترة إلى أن أزهري لم تشارك في المؤتمر، بسبب اشتراطات وضعتها على إدارته، أخبرت بها صديقتها هند نوفل رئيسة تحرير مجلة "الفتاة" النسائية، وطلبت منها ألا تنشرها إلى حين تلقيها جواباً من السيدة بالمر.

ويبدو أنها لم تتلق ذلك الجواب المنتظر، فامتنعت عن السفر إلى أميركا، وبسبب حساسيات "اشتراطات" إستير، التي تمس بعض زميلاتها كما هو واضح، لم تنشرها مجلة "الفتاة" فيما بعد كما وعدت قراءها.

ويكتب بعض الباحثين المعاصرين أن أزهري شاركت في مؤتمر النساء في معرض شيكاغو 1893، معتمدين على معلومات غير دقيقة، ولكن الوثائق والمصادر التي درسناها تنفي هذه المشاركة.

وتؤكد المصادر أن سيدة سورية واحدة شاركت في المؤتمر هي السيدة هناء كوراني (1871-1898). وللوقوف على ما حصل في هذه القضية يمكننا القول إن اشتراطات أزهري لا بد أن تكون متعلقة بمشاركة هنا كوراني، وكانت الأولى ترى فيها ناشطة تعارض عمل المرأة خارج البيت، وتدافع عن حرمان المرأة من المشاركة السياسية والانتخاب.

وهذه أمور كانت أزهري تدافع عنها في الصحف العربية إلى جانب الناشطة النسوية زينب فواز، وقد اندلعت معارك صحافية بين كوراني فواز حول هذه المسألة، ومنذ ذلك الوقت بدأ اسم إستير يتردد في الصحافة العربية بكثافة، وخصوصاً بعد زواجها من الطبيب سيمون مويال وانتقالها مع زوجها إلى مصر، حيث أسست عدداً من الصحف النسائية.

 

زواج وهجرة وعودة

تزوجت أزهري من الطبيب سيمون مويال عام 1894؛ وانتقل العريسان الجديدان إلى مدينة إسطنبول، بانتظار حصول الزوج على ترخيص ممارسة المهنة.

وبعد انتظار عامين حصل سيمون على الترخيص الطبي العثماني، وأثناء فترة الانتظار تعرفت إستير وزوجها على المفكر المصري عبد الله النديم (1845-1896) المنفي في عاصمة السلطنة بسبب أفكاره التحررية.

ونشأت بينهم صداقة عميقة، حيثا أطلقا اسمه على ابنهما الوحيد عبد الله النديم مويال، وفي عام 1896، ظهر اسمها ضمن مؤسِّسات جمعية أخرى في بيروت باسم جمعية "نهضة المرأة".

في عام 1899 هاجرت العائلة إلى مصر لتنضم إلى النخبة السورية المهاجرة إلى ذلك البلد، فأسست أزهري مجلة "العائلة" وهي مطبوعة نسائية عربية، كانت تصدر مرة كل شهرين، حتى أغلقت عام 1902 لتعاود الصدور كجريدة في عام 1904.

وإلى جانب عملها في الصحافة، أصدرت أزهري ترجمات عديدة من الأدب الفرنسي بلغت 12 عنواناً، منها رواية للكاتب الفرنسي إميل زولا، وكانت من دعاة ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأوروبية. 

بعد ثورة الدستور وتجريد السلطان عبد الحميد من سلطاته المطلقة عام 1908، عادت أزهري وزوجها إلى سوريا، واختارا الإقامة في يافا، وهناك نشطا في جمعية الاتحاد والترقي للدفاع عن الرابطة العثمانية، والدعوة إلى "وطن مشترك" في فلسطين يعيش فيه جميع أبناء الطوائف ضمن الدولة العثمانية، في رد على الدعاوى الصهيونية التقليدية.

وفي هذه الفترة أسست أزهري منظمة نسائية جديدة، وعملت في صحيفة مقرها يافا سميت "الأخبار". ثم أسس زوجها بالتعاون معها جريدة "صوت العثمانية" عام 1914 باللغة العربية، لكنها لم تستمر بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى التي أدت لأن يتم تجنيد زوجها طبيباً عسكرياً في اللد، ليموت بعد عام بسبب الحرب.

وعلى أثر ذلك، غادرت أزهري إلى أقارب لها في مدينة مرسيليا الفرنسية، واختفت حوالي عقدين من الزمن، لتعود في بداية الحرب العالمية الثانية إلى يافا، وتسكن في حي عربي، وتموت عجوزاً منسيّة قبيل نكبة فلسطين عام 1948.

 

مناضلة نسوية

دعت أزهري في مشاركاتها الصحافية في مجلة الهلال عام 1894، وفيما بعد في مجلتها "العائلة" ومجلة "الحسناء"، إلى المساواة بين المرأة والرجل، بما في ذلك حق العمل خارج المنزل.

وتدرجت في طرح أفكارها إلى أن نضجت تماماً ووصلت إلى تبني حق المرأة في العمل خارج المنزل، وهي أفكار تتجاوز السمة الغالبة على الدعوات النسوية في تلك المرحلة، التي كانت تنحصر في الدعوة إلى تعليم المرأة لكي تخدم عائلتها وزوجها.

أما فكرة عمل المرأة خارج منزلها فكانت موضع خلاف كبير، لم تؤيده من الناشطات النسويات في ذلك الوقت سوى زينب فواز، وهنا كوراني بعد أن عادت من أميركا عام 1896.

في مقارعتها لأفكار الدكتور أمين خوري المعارضة للمساواة بين الرجل والمرأة، والمنشورة في مجلة الهلال بين شهري يناير ومايو 1894، ردت أزهري على أمين خوري بالسخرية من أفكاره المنحازة، وحججه الواهية والضعيفة، التي جعلته يضع المرأة في مرتبة متساوية مع الخيول والحمير والكلاب، واستدركت ساخرة بأنه كان حرياً به أن يُسكن "طيور قلمه"، أي النساء، في أقفاص العصافير والبلابل والببغاوات. 

وعبرت أزهريعن دهشتها من ادعاءاته بأن عقل المرأة محدود في دائرة محصورة، مؤكدة أنها تعرف نساء كثيرات لا ينطبق عليهن توصيف الدكتور الخوري، معددة أسماء نساء ناجحات في العالم.

وأرجعت سبب تخلف أوضاع المرأة العربية إلى منعها من التعليم، وازدراء الجنس القوي، أي الرجال لها. وتستشهد على فكرتها بسخرية الشاعر الفرنسي موليير من النساء المتعلمات.

 

أسس المساواة

تتضح رؤية إستير أزهري أكثر لقضية تحرر المرأة من خلال استعراض الأفكار التي طرحتها في افتتاحيات مجلتها "العائلة"، اعتباراً من عام 1899، حيث أكدت على أن المرأة تمتلك إرادة حرة وضميراً حياً، وهي مساوية للرجل رغم الخصوصيات الجسمانية للمرأة التي تجعل الرجل متفوقاً عليها بالقوة العضلية، بينما تتفوق هي عليه برهافة المشاعر، ودقة الرؤية، وتقول إنه في حال حصلت على فرصة مساوية للرجل في التعليم، فإنها ستضاهيه في كل شيء.

وكانت تميز بين مسألتين على صعيد التأثر بالغرب، فهي تمتدح نجاح الأوروبيين في تحقيق المساواة بين المرأة والرجل، ولكنها في الوقت نفسه تدعو لتمسك العرب والشرقيين عموماً بالعادات الإيجابية والخصوصية الحضارية. 

وتتضح أفكار أزهري الداعية لخروج المرأة من منزلها، وتحقيق ذاتها خارج نطاق الأسرة في المقالات الخمسة التي نشرتها في مجلة "الحسناء" البيروتية بين عامي 1909 و1912، إذ دعت فيها إلى حق المرأة في المساهمة في الحياة العامة والاقتصاد، وأن مساهمتها ضرورية لتحقيق نهوض الأمة، وأن إقصاء المرأة عن الحياة العامة هو في الواقع إحدى العقبات الأساسية أمام التقدم في الشرق. 

 

خطاب 1911

تعبِّر أزهري عن أفكارها بشكل صريح في خطاب ألقته عام 1911 في "الكلية الأميركية للبنات" طالبت فيه بإتاحة فرص تعليمية مماثلة لتلك المتاحة للمرأة في الغرب. لأن وضع المرأة المتدني يؤثر على تقدم الشرق ويعيقه في صراعه ضد الهيمنة الغربية. 

وتدافع عن حق المرأة في العمل، وتنقد بشدة كل أولئك المعترضين، واصفة إياهم بالانحطاط، وتستحضر الآية القرآنية {إن الله لا يُغير ما بقَوْمٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}، وتؤكد على أهمية الاستقلال المالي للمرأة التي هي مصدر الدعم الوحيد لأسرتها.

وتدعو أزهري الفتيات لأن يميزن أنفسهن في دارسة الطب، والقانون، والعلوم، والموسيقى، والفنون، لأن النساء الأوروبيات حصلن على مكانة رفيعة بين أبناء وطنهن بسبب ذلك. 

وتختم خطابها بتذكير الفتيات جميعاً بأنهن عربيات سوريات، وأن معرفتهن بالإنجليزية أو الفرنسية لا تجعل منهن إنجليزيات أو فرنسيات. وبلهجة تقريعية ساخرة قالت لهن، إنه بغض النظر عن محاولات أي منهن إخفاء جنسيتها، فإن وجهها سوف يخونها، ويكشف ملامحها، وسيشهد دمها عليها ويفصح عن أخلاقها. 

وتتابع أزهري فكرتها بتذكير الفتيات المستمعات بأن المرأة الغربية مهما كانت لطيفة فلن تتخلى عن غطرستها والسبب أن المرأة العربية ستبقى غريبة عنها. وتستشهد بقول الشاعر المتنبي:

مَغاني الشَعبِ طيباً في المَغاني               بِمَنزِلَةِ الرَبيعِ مِنَ الزَمانِ

وَلَكِنَّ الفَتى العَرَبِيَّ فيها                  غَريبُ الوَجهِ وَاليَدِ وَاللِسانِ

وتشدد أزهري على ضرورة تعلم "لغتنا العربية، وتحبيبها لأطفالنا، وإشباعهم بالرغبة في حفظ قصائد الشعر العربي وأمثال حكمائنا"، داعية لتأسيس حضارة عربية شرقية تساهم فيها المرأة بالنصف، وبذلك سوف تتقدم المرأة العربية وتحظى باحترام الشعوب المتحضرة.

آمنت أزهري بقيم الحرية والعادلة والمساواة، وفصلت الانتماء الديني عن الانتماء المدني، واعتدَّت بالثقافة العربية، واعتبرها المظلة التي تجمع جميع السوريين بمختلف طوائفهم، ضمن اتحاد عثماني، وهي فكرة كانت تتبناها النخب العربية في سوريا العثمانية والعراق، فيما عرف بحزب اللامركزية، غير أن الأمور تغيرت في الحرب العالمية الأولى، وإعلان النفير العام "سفربرلك" حيث تحولت أفكار النخبة العربية بعد إعدام "شهداء 6 أيار" من اللامركزية إلى الاستقلال بدولة عربية في المشرق.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".