ظهر اسم الناشطة النسوية السورية-اليهودية الرائدة إستير أزهري (1873-1948م) للمرة الأولى عام 1892، حين وصلتها دعوة من رئيسة المؤتمر النسائي العالمي الأميركية بيرثا هونوريه بالمر (1849-1918) هي وسبع نساء أخريات، من سوريا العثمانية، للمشاركة في فعاليات المؤتمر الذي سيقام متزامناً مع فعاليات معرض إكسبو العالمي في مدينة شيكاغو.
ولكن مسيرة أزهري لم تتوقف عند هذه المحطة، كما حدث لأغلب اللواتي وردت أسماؤهن في نص الدعوة، بل تابعت نشاطها النسوي والصحافي، واستطاعت أن تؤسس صحيفة نسائية في مصر، لم تعمّر طويلاً، إلا أنها بقيت علامة في تاريخ الصحافة النسائية العربية.
كما طورت أفكارها حول قضية المرأة حتى وصلت في عام 1911 لأن تتبنى مقولات نسوية راديكالية، مغلفة بدعوة عروبية للوقوف في وجه الهيمنة الإمبريالية الغربية الصاعدة آنذاك.
مؤتمر شيكاغو
ولدت إستير أزهري في بيروت عام 1873 لعائلة يهودية شرقية (سفاردية) مهاجرة من الأندلس، استقرت في سوريا مطلع العصر العثماني، وكان والدها عبد الله أزهري تاجر حرير عُني بتربية ابنته تربية خاصة.
حفظت أزهري أجزاء من القرآن، وكانت تتقن قواعد التلاوة، ودرست الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، قبل أن تبدأ في عام 1884 دراسة اللغتين العربية والإنجليزية، حين كانت في الحادية عشرة من عمرها.
وفي عام 1890، حصلت على شهادة أكاديمية من الكلية الأميركية للبنات، ودرّست لبضع سنوات في بعثة الكنيسة الأسكتلندية، وفي الكلية البروتستانتية السورية (الجامعة الأميركية لاحقاً).
انضمت أزهري عام 1891 إلى جمعية "باكورة سوريا"، أولى الجمعيات النسائية السورية، وأصبحت بعد عامين سكرتيرة للجمعية، قبل أن تصلها دعوة للمؤتمر النسائي العالمي في شيكاغو عام 1893، تلتها رسالة من السيدة أنطوانيت واكان، رئيسة لجنة مؤتمر الصحافة النسوية؛ الذي سيعقد على هامش المؤتمر النسائي العالمي، حيث احتفت الصحافة آنذاك بهذا الحدث، ونشرت نص الرسالة، ضمن ذلك الاحتفاء.
وبحسب نص رسالة واكان فإن لجنة الصحافة النسائية تتكون من مئة كاتبة شهيرة، وتم اختيار أزهري عضوة لهذه اللجنة عن البلاد السورية.
وورد فيها: "جئت أسألك ولي ثقة عظيمة بك أن تبعثي إلينا بما ترتئيه ومما تجدينه مناسباً من المواضيع الخليقة بالبحث والنظر، وأن تتكرمي أيضاً بإرسال أسماء الأشخاص الذين تجدين فيهم أهلية لتقديم هذه المواضيع للمؤتمر. ولعلك تتلطفين بإرسال أية إفادة بشأن الكاتبات، مما تصل إليه مقدرتك ومعارفك، وبوجه خاص نرغب إليك التكرم بالجواب العاجل".
تشير الحصيلة الصحافية في تلك الفترة إلى أن أزهري لم تشارك في المؤتمر، بسبب اشتراطات وضعتها على إدارته، أخبرت بها صديقتها هند نوفل رئيسة تحرير مجلة "الفتاة" النسائية، وطلبت منها ألا تنشرها إلى حين تلقيها جواباً من السيدة بالمر.
ويبدو أنها لم تتلق ذلك الجواب المنتظر، فامتنعت عن السفر إلى أميركا، وبسبب حساسيات "اشتراطات" إستير، التي تمس بعض زميلاتها كما هو واضح، لم تنشرها مجلة "الفتاة" فيما بعد كما وعدت قراءها.
ويكتب بعض الباحثين المعاصرين أن أزهري شاركت في مؤتمر النساء في معرض شيكاغو 1893، معتمدين على معلومات غير دقيقة، ولكن الوثائق والمصادر التي درسناها تنفي هذه المشاركة.
وتؤكد المصادر أن سيدة سورية واحدة شاركت في المؤتمر هي السيدة هناء كوراني (1871-1898). وللوقوف على ما حصل في هذه القضية يمكننا القول إن اشتراطات أزهري لا بد أن تكون متعلقة بمشاركة هنا كوراني، وكانت الأولى ترى فيها ناشطة تعارض عمل المرأة خارج البيت، وتدافع عن حرمان المرأة من المشاركة السياسية والانتخاب.
وهذه أمور كانت أزهري تدافع عنها في الصحف العربية إلى جانب الناشطة النسوية زينب فواز، وقد اندلعت معارك صحافية بين كوراني فواز حول هذه المسألة، ومنذ ذلك الوقت بدأ اسم إستير يتردد في الصحافة العربية بكثافة، وخصوصاً بعد زواجها من الطبيب سيمون مويال وانتقالها مع زوجها إلى مصر، حيث أسست عدداً من الصحف النسائية.
زواج وهجرة وعودة
تزوجت أزهري من الطبيب سيمون مويال عام 1894؛ وانتقل العريسان الجديدان إلى مدينة إسطنبول، بانتظار حصول الزوج على ترخيص ممارسة المهنة.
وبعد انتظار عامين حصل سيمون على الترخيص الطبي العثماني، وأثناء فترة الانتظار تعرفت إستير وزوجها على المفكر المصري عبد الله النديم (1845-1896) المنفي في عاصمة السلطنة بسبب أفكاره التحررية.
ونشأت بينهم صداقة عميقة، حيثا أطلقا اسمه على ابنهما الوحيد عبد الله النديم مويال، وفي عام 1896، ظهر اسمها ضمن مؤسِّسات جمعية أخرى في بيروت باسم جمعية "نهضة المرأة".
في عام 1899 هاجرت العائلة إلى مصر لتنضم إلى النخبة السورية المهاجرة إلى ذلك البلد، فأسست أزهري مجلة "العائلة" وهي مطبوعة نسائية عربية، كانت تصدر مرة كل شهرين، حتى أغلقت عام 1902 لتعاود الصدور كجريدة في عام 1904.
وإلى جانب عملها في الصحافة، أصدرت أزهري ترجمات عديدة من الأدب الفرنسي بلغت 12 عنواناً، منها رواية للكاتب الفرنسي إميل زولا، وكانت من دعاة ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأوروبية.
بعد ثورة الدستور وتجريد السلطان عبد الحميد من سلطاته المطلقة عام 1908، عادت أزهري وزوجها إلى سوريا، واختارا الإقامة في يافا، وهناك نشطا في جمعية الاتحاد والترقي للدفاع عن الرابطة العثمانية، والدعوة إلى "وطن مشترك" في فلسطين يعيش فيه جميع أبناء الطوائف ضمن الدولة العثمانية، في رد على الدعاوى الصهيونية التقليدية.
وفي هذه الفترة أسست أزهري منظمة نسائية جديدة، وعملت في صحيفة مقرها يافا سميت "الأخبار". ثم أسس زوجها بالتعاون معها جريدة "صوت العثمانية" عام 1914 باللغة العربية، لكنها لم تستمر بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى التي أدت لأن يتم تجنيد زوجها طبيباً عسكرياً في اللد، ليموت بعد عام بسبب الحرب.
وعلى أثر ذلك، غادرت أزهري إلى أقارب لها في مدينة مرسيليا الفرنسية، واختفت حوالي عقدين من الزمن، لتعود في بداية الحرب العالمية الثانية إلى يافا، وتسكن في حي عربي، وتموت عجوزاً منسيّة قبيل نكبة فلسطين عام 1948.
مناضلة نسوية
دعت أزهري في مشاركاتها الصحافية في مجلة الهلال عام 1894، وفيما بعد في مجلتها "العائلة" ومجلة "الحسناء"، إلى المساواة بين المرأة والرجل، بما في ذلك حق العمل خارج المنزل.
وتدرجت في طرح أفكارها إلى أن نضجت تماماً ووصلت إلى تبني حق المرأة في العمل خارج المنزل، وهي أفكار تتجاوز السمة الغالبة على الدعوات النسوية في تلك المرحلة، التي كانت تنحصر في الدعوة إلى تعليم المرأة لكي تخدم عائلتها وزوجها.
أما فكرة عمل المرأة خارج منزلها فكانت موضع خلاف كبير، لم تؤيده من الناشطات النسويات في ذلك الوقت سوى زينب فواز، وهنا كوراني بعد أن عادت من أميركا عام 1896.
في مقارعتها لأفكار الدكتور أمين خوري المعارضة للمساواة بين الرجل والمرأة، والمنشورة في مجلة الهلال بين شهري يناير ومايو 1894، ردت أزهري على أمين خوري بالسخرية من أفكاره المنحازة، وحججه الواهية والضعيفة، التي جعلته يضع المرأة في مرتبة متساوية مع الخيول والحمير والكلاب، واستدركت ساخرة بأنه كان حرياً به أن يُسكن "طيور قلمه"، أي النساء، في أقفاص العصافير والبلابل والببغاوات.
وعبرت أزهريعن دهشتها من ادعاءاته بأن عقل المرأة محدود في دائرة محصورة، مؤكدة أنها تعرف نساء كثيرات لا ينطبق عليهن توصيف الدكتور الخوري، معددة أسماء نساء ناجحات في العالم.
وأرجعت سبب تخلف أوضاع المرأة العربية إلى منعها من التعليم، وازدراء الجنس القوي، أي الرجال لها. وتستشهد على فكرتها بسخرية الشاعر الفرنسي موليير من النساء المتعلمات.
أسس المساواة
تتضح رؤية إستير أزهري أكثر لقضية تحرر المرأة من خلال استعراض الأفكار التي طرحتها في افتتاحيات مجلتها "العائلة"، اعتباراً من عام 1899، حيث أكدت على أن المرأة تمتلك إرادة حرة وضميراً حياً، وهي مساوية للرجل رغم الخصوصيات الجسمانية للمرأة التي تجعل الرجل متفوقاً عليها بالقوة العضلية، بينما تتفوق هي عليه برهافة المشاعر، ودقة الرؤية، وتقول إنه في حال حصلت على فرصة مساوية للرجل في التعليم، فإنها ستضاهيه في كل شيء.
وكانت تميز بين مسألتين على صعيد التأثر بالغرب، فهي تمتدح نجاح الأوروبيين في تحقيق المساواة بين المرأة والرجل، ولكنها في الوقت نفسه تدعو لتمسك العرب والشرقيين عموماً بالعادات الإيجابية والخصوصية الحضارية.
وتتضح أفكار أزهري الداعية لخروج المرأة من منزلها، وتحقيق ذاتها خارج نطاق الأسرة في المقالات الخمسة التي نشرتها في مجلة "الحسناء" البيروتية بين عامي 1909 و1912، إذ دعت فيها إلى حق المرأة في المساهمة في الحياة العامة والاقتصاد، وأن مساهمتها ضرورية لتحقيق نهوض الأمة، وأن إقصاء المرأة عن الحياة العامة هو في الواقع إحدى العقبات الأساسية أمام التقدم في الشرق.
خطاب 1911
تعبِّر أزهري عن أفكارها بشكل صريح في خطاب ألقته عام 1911 في "الكلية الأميركية للبنات" طالبت فيه بإتاحة فرص تعليمية مماثلة لتلك المتاحة للمرأة في الغرب. لأن وضع المرأة المتدني يؤثر على تقدم الشرق ويعيقه في صراعه ضد الهيمنة الغربية.
وتدافع عن حق المرأة في العمل، وتنقد بشدة كل أولئك المعترضين، واصفة إياهم بالانحطاط، وتستحضر الآية القرآنية {إن الله لا يُغير ما بقَوْمٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم}، وتؤكد على أهمية الاستقلال المالي للمرأة التي هي مصدر الدعم الوحيد لأسرتها.
وتدعو أزهري الفتيات لأن يميزن أنفسهن في دارسة الطب، والقانون، والعلوم، والموسيقى، والفنون، لأن النساء الأوروبيات حصلن على مكانة رفيعة بين أبناء وطنهن بسبب ذلك.
وتختم خطابها بتذكير الفتيات جميعاً بأنهن عربيات سوريات، وأن معرفتهن بالإنجليزية أو الفرنسية لا تجعل منهن إنجليزيات أو فرنسيات. وبلهجة تقريعية ساخرة قالت لهن، إنه بغض النظر عن محاولات أي منهن إخفاء جنسيتها، فإن وجهها سوف يخونها، ويكشف ملامحها، وسيشهد دمها عليها ويفصح عن أخلاقها.
وتتابع أزهري فكرتها بتذكير الفتيات المستمعات بأن المرأة الغربية مهما كانت لطيفة فلن تتخلى عن غطرستها والسبب أن المرأة العربية ستبقى غريبة عنها. وتستشهد بقول الشاعر المتنبي:
مَغاني الشَعبِ طيباً في المَغاني بِمَنزِلَةِ الرَبيعِ مِنَ الزَمانِ
وَلَكِنَّ الفَتى العَرَبِيَّ فيها غَريبُ الوَجهِ وَاليَدِ وَاللِسانِ
وتشدد أزهري على ضرورة تعلم "لغتنا العربية، وتحبيبها لأطفالنا، وإشباعهم بالرغبة في حفظ قصائد الشعر العربي وأمثال حكمائنا"، داعية لتأسيس حضارة عربية شرقية تساهم فيها المرأة بالنصف، وبذلك سوف تتقدم المرأة العربية وتحظى باحترام الشعوب المتحضرة.
آمنت أزهري بقيم الحرية والعادلة والمساواة، وفصلت الانتماء الديني عن الانتماء المدني، واعتدَّت بالثقافة العربية، واعتبرها المظلة التي تجمع جميع السوريين بمختلف طوائفهم، ضمن اتحاد عثماني، وهي فكرة كانت تتبناها النخب العربية في سوريا العثمانية والعراق، فيما عرف بحزب اللامركزية، غير أن الأمور تغيرت في الحرب العالمية الأولى، وإعلان النفير العام "سفربرلك" حيث تحولت أفكار النخبة العربية بعد إعدام "شهداء 6 أيار" من اللامركزية إلى الاستقلال بدولة عربية في المشرق.