قبل مئة عام، شهد العراق بوادر نهضة نسائية تمثلت بتأسيس "نادي النهضة النسائي"، وصدور مجلة "ليلى" أولى المجلات النسوية العراقية.
القاسم المشترك بين الحدثين هو الصحافية الرائدة بولينا حسون التي اضطرت لمغادرة العراق بعد عامين فقط، بسبب حملة المحافظين ضدها وضد أفكارها الداعية لتحرير المرأة، والمساواة التامة بينها وبين الرجل؛ حتى في الحقوق السياسية.
ليس ثمة تاريخ دقيق لميلاد حسون، ولكن من الراجح أنها ولدت في مدينة الموصل عام 1895 من أب عراقي موصلي وأم حلبية؛ هي شقيقة رائد تحرير المرأة في بلاد الشام الكاتب والمترجم إبراهيم الحوراني (1844 -1916م). ومن المؤكد أن بولينا حسون، تأثرت جداً بأفكار خالها الذي سبق أن رعى تأسيس أول جمعية نسائية في سورية العثمانية عام 1880 باسم "باكورة سورية".
جمعية ومجلة
تخبرنا المعلومات المتناثرة من سيرة بولينا أنها عاشت شطراً من حياتها متنقلة بين بلاد الشام ومصر التي كانت تشكل ملاذاً للحالمين بالحرية من باقي الدول العربية، وخصوصاً بلاد الشام والعراق. وقد شهدت كل من القاهرة والإسكندرية، منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ولادة صحف ومجلات نسائية شكلت ظاهرة لافتة. ويبدو أن بولينا عادت إلى العراق في العام 1922، أي بعد شهور من تسمية الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على العراق، حيث كانت الأحلام كبيرة بمستقبل مشرق لهذا البلد العريق، خصوصاً وأن تجربة فيصل في سوريا كانت غاية في الأهمية على صعيد حقوق المرأة. ولذلك سعت بولينا منذ عودتها إلى تأسيس نهضة نسائية تواكب نهضة العراق الحديث.
وعند تأسيس الجمعية النسائية، أوكلت رئاستها إلى أسماء الزهاوي، ابنة مفتي العراق الشيخ أمجد الزهاوي في ذلك الوقت، فيما تراجعت بولينا إلى الصف الثاني، حيث كانت تعمل على إصدار العدد الأول من مجلتها "ليلى".
وقد روت سبب تسمية مجلتها بهذا الاسم، حيث كتبت حاشية في العدد الأول: "على إثر قدومي دار السلام (بغداد)، دعيت إلى إلقاء خطبة في الحفلة التي أقامها منتدى التهذيب (10 جزيران 1923) لتكريم الشاعر الكبير الأستاذ الزهاوي. فرأيت وسمعت هنالك، لأول مرة، الأستاذ الجليل ينشد شعره بتلهف وتحرق ويصيح:
وإني بليلى مغرم وهي موطني... وعلي أقضي في غرامي بها نحبي
فهبطت الكلمتان ليلى والوطن على قلبي هبوط الوحي، فاندفعت إلى تحلية المجلة باسم (ليلى)، وقد كنت قبلها أريد أن اسمي المجلة (فتاة العراق)".
بعد فترة إعداد استغرقت شهوراً عدة؛ أصدرت بولينا مجلة "ليلى" يوم 15 أكتوبر 1923 تحت شعار "في سبيل نهضة المرأة العراقية"، وقد عرفتها على غلافها بأنها: "مجلة نسائية شهرية تبحث في كل مفيد وجديد مما يتعلق بالعلم والأدب والفن وتدبير المنزل".
هجوم على المحافظين
كرست بولينا افتتاحية العدد الأول للهجوم على معارضي إصدار المجلة، ويبدو أنها خاضت معركة شرسة قبل الصدور، إذ كانت كلمات افتتاحيتها نارية، تعبر عن مقدار الممانعة التي تعرضت له، حيث كتبت: "يفتكر بعضهم أن ظهور مجلة نسائية في العراق من "الكماليات" التي لا حاجة إليها الآن، وأن المناداة بنهضة المرأة العراقية نفخ في رماد... فهؤلاء وأمثالهم معتادون إطفاء الأرواح، ولعلهم من بقايا "الوائدين"... ولكن ما لنا وفكرهم الرجعي؟ وأنى يسمع صوتهم رعود الأصوات الحية الداعية إلى التجدد المنعش؟ لله أنتم أيها المنادون بالحياة، والساعون إلى ما به خير البلاد. أنتم روح العراق! أنتم قلب العراق.. إلخ".
استطاعت بولينا أن تستقطب لمجلتها عدداً من أهم الأسماء الأدبية والصحافية في ذلك أمثال الشاعر جميل صدقي الزهاوي، والشاعر معروف الرصافي، والصحافي كاظم الدجيلي، والشاعر اللبناني حليم دموس، وسلمى صائغ، وأنور شاؤول، ويوسف غنيمة.
وكرست حسون مقالاتها الجريئة المطالبة بتشريع قوانين تحفظ حقوق المرأة اعتباراً من العدد الصادر في 15 آذار/ مارس 1924، في مواكبة منها لعقد المجلس التأسيس العراقي (البرلمان) المنتخب جلساته التي كان يناقش فيها إصدار الدستور العراقي، وإصدار قانون الانتخابات.
وكتبت حسون: "إن نجاح النهضة النسوية الناشئة منوط بغيرتكم وشهامتكم أيها الرجال الكرام، ولاسيما وأنتم الذين تحملتم أعباء مسؤولية تأسيس الحياة الديمقراطية العراقية على قواعد عصرية راسخة وأنتم تعلمون أنها ليست حق الرجل فقط.. إلخ".
وواصلت بولينا حملتها في الأعداد اللاحقة، محاولة أن تستقطب وتستفتي آراء رجال السياسة بهذا الموضوع، ونشرت مقالات حول البرلمانات الأوروبية والأميركية التي شرعت الحقوق السياسية للنساء.
حملة أولى
لم تعجب جرأة حسون الطبقات المحافظة القوية في المجتمع العراقي آنذاك، فبدأت الحملة الأولى ضدها بمقالة شديدة القسوة في جريدة "المفيد" صدرت في أغسطس عام 1924، وقعها شخص مجهول أطلق على نفسه اسم "خبير بما هنالك". لكن جاء رد جريدة "العالم العربي" عليها بمقال شدَّ من أزر بولينا حسون ومجلتها ليلى، داعياً إياها لأن تثابر وألا تبرد همتها من أقوال سخيفة "فأهل الإصلاح مضطهدون في كل قرن.. لك يا ليلى أنصارك أيتها المصلحة النسائية.. إلخ".
ولم يتوقف الأمر عند حملة "المفيد" فانبرى وكيل مجلة "فتاة الشرق" المصرية في بغداد بالهجوم على بولينا، لأنه "لم يسمع عنها أية علاقة بالفنون الأدبية" و"مجلة ليلى لا تحتوي إلا على كل تافه لا يفيد الرجال والنساء، وهي لا تزال طفلة رضيعة".
وقد اتهمت جريدة "العالم العربي" التي تولت الدفاع عن بولينا وكيل "فتاة الشرق" بأنه مكلف من صاحبة مجلته، أي الصحافية لبيبة هاشم، بالتحريض على المجلة وصاحبتها.
وردت بولينا على هذه الحملة رداً هادئاً قالت فيه: "لا يثني عزمي ولا يثبط مساعي ما يقوله بعضهم عني أو ينشره في الصحف، ولا أكترث لتلك المطاعن والأراجيف، فمن شاء أن يصدِّق فليصدِّق، ومن شاء أن يكذِّب فليكذِّب.. إلخ".
وقد صدر أمر بإيقاف الحملة كما كتبت ذلك جريدة "المفيد" في عددها الصادر يوم 19/8/1924، مقدمة اعتذاراً للكتاب الذين لم تنشر مقالاتهم وهو ما يشير إلى حجم الهجوم.
ولكن المناوئين لبولينا حسون سرعان ما وجودوا في تعيينها مديرة لمدرسة "باب الشيخ" الابتدائية في بغداد، في العام الدراسي 1925 فرصة مواتية لإعادة الهجوم عليها في حملة ثانية.
حملة ثانية ورحيل
تولت مهمة الهجوم هذه المرة جريدة "العراق"، بدعوى أن بولينا تزرع أفكاراً "مخالفة لأصول التربية والتعليم". وزعمت الجريدة أن صاحبة المقال هي طالبة تركت المدرسة بسبب سلوك المديرة الجديدة، أي بولينا حسون.
وهاجمت الجريدة في عدد 9 أكتوبر 1925 بولينا حسون واتهمتها بأنها لا علاقة لها بالتربية والتعليم، وأن مؤهلاتها تقتصر على إصدار "مجلة نسائية ليس لها فيها ومنها إلا الاسم". وختمت الطالبة المزعومة مقالها بالطلب من وزير المعارف ساطع الحصري بأن يخلصهم من هذه المديرة "الطاغية المستبدة".
وواصلت جريدة "العراق" حملتها بمقالات أخرى موجهة لوزير المعارف وللجمهور، شارك فيها كتاب آخرون، إلى أن استجابت الوزارة لهذه الحملة في شهر نوفمبر 1925، وقامت بتخفيض وظيفتها من مديرة إلى معلمة في المدرسة الحيدرية.
حينها، ما كان من بولينا حسون إلا أن رفعت دعوى ضد جريدة "العراق"؛ كسبتها في النهاية، ولكنها كانت قد خسرت جريدتها نتيجة حملات المقاطعة، الأمر الذي أدى إلى إفلاسها، واضطرارها إلى أن ترحل عن العراق نهائياً وتلجأ إلى فلسطين، ثم الأردن لتموت هناك منسية عام 1969.