يدور النقاش مرة أخرى حول مسألة الطلاق الشفوي بالتزامن مع الإعلان عن صدور مسودة قانون الأحوال الشخصية الجديد بمصر.
بدأت حالة الجدل المُثار حول تلك المسألة في يناير سنة 2017. دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وقتها إلى إصدار قانون ينظم حالات الطلاق الشفوي، بعد ارتفاع معدلات الانفصال خلال الفترة الأخيرة، والتي بلغت وفقاً لتقارير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء 900 ألف حالة سنوياً، 40% منهم ينفصلون بعد مرور 5 سنوات من الزواج.
بيّن السيسي "أن إصدار قانون ينظم حالات الطلاق الشفوي من شأنه أن يعطي الفرصة للأزواج إلى مراجعة قرار الانفصال". لكن مؤسسة الأزهر رفضت تقييد الطلاق الشفوي وعدّته حقاً شرعياً للرجل لا يجوز تعطيله بأي حال من الأحوال.
ما هو الطلاق الشفوي؟ وكيف يُطبق بحسب التقاليد الفقهية؟ وما هي الاجتهادات الفقهية التي قيدت حق الرجل في الطلاق الشفوي عبر القرون؟ وكيف انعكس كل ذلك على المدونات القانونية في الدول العربية؟
الشكل التقليدي للطلاق في الفقه الإسلامي
شجع الإسلام على الحفاظ على الزواج كرباط مقدس بين الزوجين قدر المُستطاع. يقول الحديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". رغم ذلك، منح الفقه الإسلامي التقليدي الرجل حق طلاق زوجته وقت ما أراد، ولم يلزمه بتبيان الأسباب التي دعته لذلك الفعل. وصار من المُتعارف عليه عند جماهير الفقهاء أن نطق الرجل لكلمة الطلاق يؤدي إلى وقوع الطلاق بشكل فعلي بغض النظر عن الظروف التي قيلت فيها تلك الكلمة، وذلك اعتماداً على ما ورد في سنن الترمذي عن النبي "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة".
وقد اتفق الكثير من العلماء السنة عبر القرون وإلى اليوم على وقوع الطلاق الشفوي. في ذلك المعنى، جاء بيان هيئة كبار العلماء في الأزهر بمصر سنة 2017، حيث يقول: "وقوع الطلاق الشفوي المستوفي أركانه وشروطه، والصادر من الزوج عن أهلية وإرادة واعية وبالألفاظ الشرعية الدالة على الطلاق، هو ما استقر عليه المسلمون منذ عهد النبي وحتى يومنا هذا، دونَ اشتراط إشهاد أو توثيق".
اجتهادات فقهية معارضة
على الرغم من إصرار الفقه التقليدي على وقوع الطلاق الشفوي، إلا أن بعض الفقهاء المعتبرين كان لهم رأي آخر في تلك المسألة. على سبيل المثال أجمع فقهاء الشيعة على ضرورة وجود شاهدين عدلين وقت الطلاق استناداً لما ورد في الآية الثانية من سورة الطلاق "فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ". يقول شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في كتابه "الخلاف" موضحاً ذلك الرأي: "...كل طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان -وإن تكاملت سائر الشروط- فإنه لا يقع".
في الحقيقة، لم يقتصر الإلزام بالشهادة في الطلاق على الشيعة وحدهم. يذكر الفقيه المصري السيد سابق في كتابه "فقه السنة" أن عددا من الصحابة، مثل عمران بن حصين، والتابعين، مثل عطاء بن أبي رباح وابن جريج وابن سيرين، ذهبوا إلى وجوب الإشهاد واشتراطه لصحة الطلاق.
في السياق نفسه، تذكر الكتب الفقهية أن الإلزام بالإشهاد عند الطلاق كان أحد الأقوال المعروفة في المذهب الشافعي. وورد في كتاب "المُحلى" أيضا أن ابن حزم (المذهب الظاهري) اختار هذا الرأي، إذ قال: "...قرن عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد ذلك عن بعض، وكان من طلق ولم يشهد ذوي العدل، أو راجع ولم يشهد ذوي العدل متعدياً لحدود الله تعالى".
حظي القول بضرورة توثيق الطلاق بدعم الكثير من الفقهاء المعتبرين في العصر الحديث كذلك. على سبيل المثال، يقول محمد أبو زهرة في كتابه الأحوال الشخصية: "لو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا ذلك الرأي، فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين، يمكنهما مراجعة الزوجين فيضيِّقان الدائرة، ولكيلا يكون الزوج فريسة لهواه، ولكي يمكن إثباته في المستقبل فلا تجري فيه المشاحة، وينكره المطلِّق إن لم يكن له دين. والمرأة على علم به، ولا تستطيع إثباته، فتكون في حرج ديني شديد".
الرأي نفسه ذهب إليه الشيخ التونسي محمد الطاهر بن عاشور في كتاب "التحرير والتنوير". يقول عند تفسيره للآية الثانية من سورة الطلاق: "ظاهر صيغة الأمر: الدلالة على الوجوب، فيتركب من هذين أن يكون الإشهاد على المراجعة وعلى بت الطلاق واجباً على الأزواج، لأن الإشهاد يرفع أشكالاً من النوازل".
وأيضاً، أيد المُحدث السلفي محمد ناصر الدين الألباني هذا الرأي في أشرطته المسماة بـ"سلسلة الهدى والنور". يقول الألباني: "العقل والنظر السليم يؤيد أن يشترط فيه -أي الطلاق- الإشهاد، ومعنى ذلك أن إنساناً ما قرر وعزم على الطلاق، ولكن هذا الطلاق وضع له الشارع الحكيم شروطاً، وهذه الشروط هي في الواقع كالعرقلة لمنع وقوع هذا الطلاق، لأن الطلاق يترتب من وراءه هدم الأسرة، فقال أن السُّنّـة الإشهاد، فكأن الشارع الحكيم يقول للمطلق: لو عزمت على الطلاق وأردت تنفيذه فائت بشاهدين، كما إذا أردت أن تنكح فخذ الولي وائت بشاهدين، وإلا فلا نكاح لك".
في المدونات القانونية
تنص الكثير من المدونات القانونية المعمول بها في الدول العربية على ضرورة توثيق الطلاق في المحكمة، وعلى عدم اعتبارية الطلاق الشفوي.
في العراق، جاء في المادة التاسعة والثلاثين من قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لسنة 1959: "على من أراد الطلاق أن يقيم الدعوى في المحكمة الشرعية بطلب إيقاعه واستحصال حكم به. فإذا تعذر عليه مراجعة المحكمة وجب عليه تسجيل الطلاق في المحكمة خلال مدة العدة".
يوضح الباحث حيدر حسين كاظم الشمري في دراسته "المعالجات التشريعية للحد من ظاهرة الطلاق في العراق" أن معظم حالات الطلاق في العراق لا تُنفذ بنفس الطريقة التي ورد النص عليها في المادة القانونية، "فقد يكون إيقاع الطلاق خارجياً، أي عن طريق رجل الدين ومن ثم يتم تصديق الطلاق أمام المحكمة سواء أثناء العدة أم بعدها، وسواء أكان المدعي هو الزوج أم الزوجة. وهذه أكثر الحالات شيوعاً في العراق".
في تونس، تم تعطيل الطلاق الشفوي بشكل قاطع. نص الفصل الثلاثون من مجلة الأحوال الشخصية التونسية سنة 1957م على أنه "لا يقع الطلاق إلاّ لدى المحكمة". ووضعت المجلة مجموعة من الضوابط التي يجب الرجوع إليها قُبيل الطلاق، إذ يجب أن "يختار رئيس المحكمة قاضي الأسرة من بين وكلائه. ولا يحكم بالطلاق إلاّ بعد أن يبذل قاضي الأسرة جهداً في محاولة الصلح بين الزوجين ويعجز عن ذلك. وإذا لم يحضر المدعى عليه ولم يبلغ الاستدعاء لشخصه، فإن قاضي الأسرة يؤجل النظر في القضية ويستعين بمن يراه لاستدعاء المعني بالأمر شخصياً أو لمعرفة مقره الحقيقي واستدعائه منه. وعند وجود ابن قاصر أو أكثر تتكرر الجلسة الصلحية ثلاث مرات على أن تعقد الواحدة منها 30 يوماً بعد سابقتها على الأقل، ويبذل خلالها القاضي مزيداً من الجهد للتوصل إلى الصلح، ويستعين بمن يراه في ذلك".
الأمر ذاته نصت عليه المدونة القانونية المعمول بها في المغرب. جاء في المادتين 79 و114 من مدوّنة الأُسْرَة الصادرة في سنة 2004: "يجب على من يريد الطلاق أن يطلب الإذن من المحكمة بالإشهاد به لدى عدلين منتصبين لذلك، بدائرة نفوذ المحكمة التي يوجد بها بيت الزوجية، أو موطن الزوجة، أو محل إقامتها، أو التي أبرم فيها عقد الزواج حسب الترتيب. فبعد أن تحاول المحكمة الإصلاح بين الزوجين ما أمكن، فإذا تعذر الإصلاح، أذنت بالإشهاد على الطلاق وتوثيقه".
يختلف الوضع القانوني للمسألة في مصر. ورد في نص المادة الرابعة من قانون الأحوال الشخصية أن "الطلاق لا يقع إلا بالنية"، كما ذكرت المادة الخامسة من القانون أنه "على المطلق أن يوثق إشهاد طلاقه لدى الموثق المختص خلال ثلاثين يوماً من إيقاع الطلاق... وتُرتب أثار الطلاق من تاريخ إيقاعه إلا إذا أخفاه الزوج عن الزوجة، فلا تترتب أثاره من حيث الميراث والحقوق المالية الأخرى إلا من تاريخ علمها به".
يعني ذلك إمكانية وقوع التعارض بين الناحيتين الشرعية والقانونية في حالة أن قام الزوج بتطليق زوجته دون أن يوثق ذلك في المحكمة. وقتها، سيقع الطلاق بشكل شرعي وتصبح الزوجة مطلقة في حكم الشريعة الإسلامية. على الجهة المقابلة، ستبقى المرأة زوجة لطليقها من الناحية القانونية. الأمر الذي سيمنعها من الزواج مرة أخرى إن أرادت ذلك.
التفت المشرع المصري لتلك النقطة الإشكالية في قانون الأحوال الشخصية الجديد الذي يُناقش حالياً. تضمن القانون مواداً تنظم الطلاق الشفوي أو الرجعة الشفوية، حيث هناك نصوص منضبطة في هذا الشأن تلزم الزوج الذي يطلق زوجته شفوياً، أن يوثق هذا الطلاق عند مأذون أولاً ويخطر زوجته به، والأمر ينطبق على الرجعة الشفوية أيضاً في حالة أراد إرجاعها إلى عصمته مرة أخرى. وتسري أحكام هذا الطلاق الشفوي أو الرجعة الشفوية من وقت علم الزوجة، حيث إن هناك حالات كثيرة لبعض الأزواج يخفون تطليق زوجاتهم أو إرجاعه إليهم، ويتم اكتشاف ذلك في المحاكم.