ولدت زينب فواز في بلدة تبنين في جبل عامل بلبنان عام 1844. (مصدر الصورة: مجلة "المصور"، عدد خاص، سنة 1950).
ولدت زينب فواز في بلدة تبنين في جبل عامل بلبنان عام 1844. (مصدر الصورة: مجلة "المصور"، عدد خاص، سنة 1950).

اشتهرت الكاتبة والناشطة النسوية اللبنانية زينب فواز (1846-1909) بدفاعها القوي عن فكرة المساواة التامة بين الرجل والمرأة، بما في ذلك العمل خارج المنزل، والمشاركة السياسية انتخاباً وترشحاً. وبذلك، عدت النسوية العربية الأكثر راديكالية في القرن التاسع عشر.

ولدت زينب بنت علي فوّاز في بلدة تبنين، في جنوب لبنان عام 1846. وكان والدها فقيراً؛ فخدمت السّيدة فاطمة بنت أسعد الخليل زوجة حاكم البلدة علي بك الأسعد. وكانت هذه السيدة صاحبة فضل عليها؛ إذ علمتها القراءة والكتابة قبل أن تتزوج برجل من حاشية خليل بك الأسعد، ولكنها سرعان ما انفصلت عنه لتفاوت الأفكار بينهما.

بعد طلاقها، التحقت بشقيقها محمد علي فواز المحامي المقيم في الإسكندرية، حيث درست الصرف والبيان والعروض على يد حسن حسني الطويراني صاحب جريدة "النيل"، كما درست على يد الشيخ محيي الدين النبهاني النحو والإنشاء، ثم ارتحلت مع شقيقها إلى القاهرة. وهناك نشطت في الصحافة وأصبح اسمها متداولا في المنتديات الأدبية، فأعجب بها الأديب والصجافي الدمشقي أديب نظمي، وتبادلا الرسائل طويلاً قبل أن يتفقا على الزواج، فارتحلت إلى دمشق عام 1879 ومكثت ثلاث سنوات، وأقامت صالوناً أدبياً في بيت زوجها ثم طلبت الطلاق عام 1882 بسبب خلافات دبت بينها وبين زوجة أديب نظمي الثانية، حيث كان صعباً عليها أن توضع في مثل هذه المواقف. وقد عبرت في مقالات لاحقة عن رأيها بموضوع تعدد الزوجات وعدته "وبالاً على العائلة".

اشتهرت مريانا بنت فتح الله مرَّاش (1848-1919) بأنها أول امرأة شرقية كتبت في الصحافة.
مريانا مراش.. رائدة حقوق المرأة في الشرق الحديث
اشتهرت مريانا بنت فتح الله مرَّاش (1848-1919) بأنها أول امرأة شرقية كتبت في الصحافة. ولكن ما يتم نسيانه هو أنها صاحبة الدعوة الأولى لتحرير المرأة العربية من الأفكار المسبقة الراسخة في المجتمع عن عدم أهليتها للخوض في الشؤون العامة، عن طريق دراسة العلوم والصنائع. وهي الدعوة التي أطلقتها عبر مجلة الجنان البيروتية في شهر يوليو عام 1870 (الجزء 15).

وحين عادت إلى القاهرة استأنفت نشاطها الصحافي بنشاط أكبر، فكتبت في عدة جرائد منها؛ "النيل"، و"لسان الحال"، و"المؤيد"، و"اللواء"، و"الأهالي"، و"الاتحاد المصري"، و"الفتاة"، و"أنيس الجليس". وتعددت أعمالها فمنها؛ الروائية كـ"حسن العواقب" و"غادة الزاهرة" و"كورش ملك فارس"؛ والمسرحية كـ"الهوى والوفاء"؛ والسيرة كـ"الدر المنثور في طبقات ربات الخدور"، ومجموعة مقالات بعنوان "الرسائل الزينبية"، وديواناً شعرياً جمع بعد وفاتها في العام 1909.

 

موانع شرعية

 

كانت زينب فواز واحدة من النساء السوريات اللواتي تواصلت معهن الأميركية بيرثا هونوريه بالمر، رئيسة المؤتمر النسائي العالمي في العام 1892 لحضور المؤتمر المزمع عقده في شيكاغو عام 1893، وقد ردت فواز على دعوة هونوريه بأنها لا تستطيع الحضور إلى الولايات المتحدة بسبب موانع شرعية إسلامية تتعلق بضرورة وجود محرم معها. ولكنها أكدت أنها مستعدة أن ترسل كتابها حول تراجم النساء "الدر المنثور" ليعرض في معرض الكتب النسائية. فردت عليها السيدة بالمر متسائلة عن هذه الأسباب الشرعية الإسلامية التي تمنعها من الحضور فكتبت: ".. كشف الوجه واليدين ليس محرَّماً على قول فريق عظيم من العلماء، ولكن منعته العادة قطعياً، وهي التي توارثناها؛ إذ إن البنت منا لا تتجاوز الثانية عشرة من سنها إلا وهي داخل الحجاب، والولد متى بلغ الحلم لا يحل له قطعًا النظر إلى النساء".

وتضيف: "أما عدم الإباحة لنا بالسفر، فعلى ما يفهم من أقوال بعض العلماء والأعلام لأنَّ عندنا في شريعتنا الغراء لا يباح مس جسم المرأة لرجل أجنبي عنها، قالوا وهذا إذا كانت شابة، ولو حل النظر فيها في مثل الوجه مثلًا. وعلى رأي من قال: بأنه ليس عورة فإنه يحل النظر إليه دون الشعر، ولكن لا يحل مسه إلا إذا كان لذي محرم، بخلاف العجوز الشوهاء، فإنه يجوز للأجنبي أن يمسها ويسافر بها أيضًا، أما الشابة فلا يحل لها السفر إلا بصحبة أحد ذوي قُرباها إن لم يكن الزوج، وأعني بذوي قرباها ذوي محرم منها؛ الذين لا يحل لها التزوج بهم..".

 

سجال مع هنا كوراني

 

ومع ذلك، شجعت زينب فواز بنات جنسها من القادرات على السفر إلى شيكاغو بأن لا يترددن بالذهاب، وفي الوقت نفسه انبرت للرد على مواطنتها الكاتبة والناشطة النسوية هنا كوراني (1870- 1898م) حين أبدت معارضتها لعمل المرأة وكذلك مساركتها السياسية. ودأبت كوراني، منذ تلقيها دعوة السيدة بالمر، على زيادة نشاطها الصحافي، حيث نشرت مقالات عدة في جريدتي "لسان الحال"، و"لبنان"، مؤداها أن "المرأة لا تقدر على عمل خارجي مع أداء واجبات ما يلزم لخدمة الزوج والأولاد"، وأن "الواجبات المنزلية طبيعة للنساء ولا يجوز لهن أن يتخطينها، لأنها سنة قد سنها الله لهن، ولو تجاوزنها لتغير نظام الكون، وتبدلت نواميس الطبيعة"، بحسب تعبيرها، وأنها ضد دخول النساء معترك السياسة، منتقدة نساء إنجلترا اللواتي طالبن بحق الانتخاب .

ولم تتأخر زينب فواز في الرد على كوراني، إذ كتبت في جريدة "النيل" القاهرية تقول: "قالت لبنان الغراء تحت عنوان "المرأة والسياسة" لحضرة الأديبة الفاضلة هنا كوراني: فهي وذمة الحق غاية في المبنى، وأعجوبة في رقة المعنى، إلا أنها جارت في حكمها، وشددت النكير على بنات جنسها، وضربت عليهن الحجر المنزلي، وعملت على منعهن من التدخل في كل الأمور الخارجية المختصة بأعمال الرجال من مثل قول حضرتها: إن المرأة لجهلها شرفَ مقامها تظن أن مساواتها بالرجل لا تتم إلا بعملها لما يعمله، وإن المرأة لا تقدر على عمل خارجي مع أداء واجبات ما يلزم لخدمة الزوج والأولاد وقول حضرتها: في هذه الخطة - أي الخطة المنزلية طبيعية للنساء، ولا يجوز لهن أن يتخطينها لأن هذه سُنة قد سنَّها لله لهن، ولو تجاوزنها لَتغيَّر نظام الكون، وتبدلت نواميس الطبيعة... ووجَّهت سهام اللوم على نساء إنكلترا كيف أنهن طلبن التداخل في الأمور السياسية.. فخطَّأتهن حضرة الفاضلة ووافقها على ذلك حضرة الأديب الفاضل صاحب جريدة لسان الحال".

 

المشاركة السياسية

 

دافعت زينب فواز عن حق المرأة في المشاركة السياسية. وكتب في ردها على هنا كوراني: "ما من أمة فشا فيها داء الكسل وسرت إليها علة الخمول إلا دمرتها وهدمت أركان عزها ودكَّت حصون تمدنها، ومما يؤيد لنا ذلك هو ما ظهر لنا من تقدم الغرب على الشرق في هذا العصر حينما عولج أهله، وشُفي جسمهم من داء الكسل والخمول؛ فازدهى عصرهم على جميع العصور وفاق كافة الدهور، إلى حد أنه صار النساء فيه يبارين الرجال ويشاركنهم في الأعمال، وحيث قد أجمع السواد الأعظم منهم على أن الرجل والمرأة متساويان بالمنزلة العقلية، وعضوان في جسم الهيئة الاجتماعية لا غنية لأحدهما عن الآخر، فما المانع إذنْ من اشتراك المرأة في أعمال الرجال، وتعاطيها الأشغال في الدوائر السياسية وغيرها متى كانت جديرة لأنْ تؤديَ ما نُدبت إليه".

وتابعت: "وإلا فما فائدة تعلُّم المرأة الغربية جميع العلوم التي يتعلمها الرجال من فلسفة وحكمة ورياضة وهندسة، وتدرس القوانين السياسية إذا كانت لم تعمل بمقتضاها وتخدم النوع البشري، وتعد من أعضاء الهيئة الرئيسية؛ لأنها ما خلقت لكيلا تخرج عن دائرتها المنزلية، وألا تتدخل فيما يختص بالأعمال الخارجية سوى ما يلزم من تدبير المنزل وتربية الأولاد والطبخ والعجن وما أشبه ذلك فقط - كما تعتقد حضرة الفاضلة".

 

المرأة كالرجل

 

وبعد أن فندت مزاعم كوراني بأن النساء غير مؤهلات للعمل خارج المنزل، قالت زينب فواز: "والحال أننا لم نرَ شريعة من الشرائع الإلهية، أو قانوناً من القوانين الدينية قضى بمنع المرأة أن تتداخل في أشغال الرجال، وليس للطبيعة دخل في ذلك...المرأة إنسان كالرجل ذات عقل كامل وفكر ثاقب وأعضاء متساوية، تُقدِّر الأمور حق قدرها، وتفصل بين الزمان والمكان، وكم من امرأة حكمت على الرجال وساست الأمور، ورتبت الأحكام وجندت الجنود، وخاضت المعامع ومارست الحروب، كالملكات اللواتي سُسْنَ ممالكهن أحسن سياسة!"

ولدت نبيهة عبود عام 1897 في مدينة ماردين في أعلى بلاد الجزيرة الفراتية، لوالد يعمل في التجارة، أصله من منطقة الموصل.
نبيهة عبود.. عالمة البرديات ورائدة البحث النسوي في التاريخ العربي
البروفيسورة العراقية-الأميركية نبيهة عبود (1897-1981)، رائدة بحوث البرديات العربية، وصاحبة الدراسات التاريخية حول النساء المسلمات في صدر الإسلام والعصر العباسي، وكذلك الملكات العربيات قبل الإسلام، والأشهر من كل ذلك، صاحبة التحقيب الزمني المعتمد حالياً في العالم أجمع لمسار كتابة "ألف ليلة وليلة".

وقدمت زينب فواز في دفاعها العديد من الأمثلة: "أنبأنا التاريخ عمن تقدمنا من قبلُ منهن، مثل كليوباترا والملكة زنوبيا ملكة تدمر، واليصابات وغيرهن ممن سلف، وما رأينا من تداخلهن في شؤون الرجال ما أخلَّ في نظام الطبيعة، أو نقص تدبير منازلهن، بل إن النظام العائلي ما زال باقيًا على ما كان عليه هو، وكأني بها تعترض عليَّ بقولها: إن هؤلاء ملكات وقادرات على تأدية وظائفهن المنزلية والإدارية، فأقول: نعم، ولقد أنبأنا التاريخ أيضًا عن نساء العرب كيف شاركن الرجال بالأعمال والحروب، وتكبدن الأخطار ومعاناة الشدائد والأهوال مع أنهن كن زوجات وأمهات، وكم درج من عشهن رجال وأي رجال؛ رجال ملكوا الدنيا بأجمعها، ولم تُخِلَّ بنظامها زوجاتهم وأمهاتهم، بل كن يساعدنهم على إعمارها وحسن نظامها".

 

جوهر الخلاف

 

 كان جوهر الخلاف بين هنا كوراني وزينب فواز يتركز على دور المرأة في المجتمع، وطبيعة علاقتها مع الرجل، هل هي مساواة أم تكامل؟ إذ كانت أفكار كوراني تدور في فلك الأفكار الإصلاحية الرائجة آنذاك في الأوساط المتعلمة في مدارس الإرساليات، والداعية للاكتفاء بتعليم المرأة وتأهيلها لمهمة بناء الأسرة فقط، بما يحقق "تكاملاً" بين دورها ودور الرجل، فيما كانت زينب فواز تدعو إلى مساواة كاملة بين الرجل والمرأة، بما فيها حق العمل خارج المنزل وحق ممارسة السياسة ترشحاً وانتخاباً، مستندة في طروحاتها إلى ثقافتها التاريخية الممتازة التي أنتجت كتابها الموسوعي "الدر المنثور في طبقات ربات الخدور"، بالإضافة إلى اعتمادها منهجا نقدياً للمفاهيم الإسلامية الشائعة عن تفضيل الإسلام للرجل على المرأة، وهو منهج بدا واضحاً ف كتابها "الرسائل الزينبية" وخصوصاً الرسالة الرابعة والثلاثون.

سبقت زينب فواز عصرها حين تبنت المساواة التامة بين الرجال والنساء، وهو أمر استغرق من هنا كوراني ثلاث سنوات عاشتها في الولايات المتحدة، واحتكت برائدات العمل النسوي الأميركي لتتوصل إلى ما توصلت إليهن زينب فواز التي لم تغادر الشرق طوال حياتها.

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".