مع كل فيديو يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي يوثق جرائم التحرش في العراق، يعود الجدل وتتجدد المطالبات الشعبية للجهات الرسمية بإصدار تشريعات واتخاذ إجراءات رادعة لهذه الظاهرة.
أحدث تلك الفيديوهات كان لامرأة في مدينة البصرة تسير في أحد الشوارع الفرعية بكل أمان حاملة أكياس التسوق إلى منزلها، ليقوم فجأة سائق دراجة نارية بالتقرب منها ولمسها ثم المضيّ قدماً دون توقف وسط دهشة وصدمة المرأة.
في هذه الحادثة التي صورتها كاميرا مراقبة، تمكنت الجهات المسؤولة من إلقاء القبض على الجاني بعد ساعات ورفع أوراقه إلى القضاء.
وقبلها بعدة أيام وقفت فتاة جامعية بكل صلابة خلال اجتماع لكلية الطب البيطري في بغداد للإبلاغ عن تعرض الطالبات للتحرش من قبل عناصر أمن الكلية.
ومع كل فيديو جديد يتم تداوله على مواقع التواصل، تعود المطالبات لإصدار قانون يجمع شتات الفقرات القانونية المبعثرة الخاصة بالتحرش ضمن ما الناف هو نافذ.
أولاً، التبليغ بالدليل
يقول العميد نبراس محمد علي من دائرة العلاقات والإعلام في وزارة الداخلية أن ظاهرة التحرش: "بشكل عام تعتبر من الأمراض المجتمعة الموجودة في كل دول العالم"، لكن هذه الظاهرة "تتباين نسبها حسب الثقافة القانونية والمجتمعية لدى تلك البلدان".
وتنتشر الظاهرة بصورة أكبر "عند انخفاض تلك الثقافات وتراجع مستوى التعليم، والتخلي عن العادات والتقاليد في ظل عدم وجود قوانين صارمة لمحاربتها"، وفق علي.
ولا ينكر العميد خلال حديثه لـ"ارفع صوتك" تزايد حالات التحرش خلال السنوات السابقة، لكنه يقول في نفس الوقت، إن "الظاهرة تراجعت حالياً بفضل الإجراءات التي اتخذتها وزارة الداخلية من حيث تسهيل طرق التبليغ عبر خط هاتفي ساخن يحمل رقم 533 أو 104 للنجدة ويتم من خلالها التحرك المباشر من قبل الأجهزة الأمنية".
ويرى علي أن "المتحرش يعتمد على عدم التبليغ من قبل الفتيات خوفاً من الأحكام الاجتماعية أو عنصر الخجل، وهذا الأمر يزيد من نسب التحرش، فعملية الإبلاغ تشكل رادعا قويا وتقلل من الغلو بالتحرش في المستقبل".
ورداً على سؤال حول الإجراءات المتبعة في عملية التبليغ ضد المتحرشين، يوضح العميد علي، أن الإجراءات تتنوع بين "إبلاغ الضحية للمفرزة الأمنية أو الذهاب إلى أقرب مركز شرطة" مستدركاً لتسهيل العملية وضعنا الخط الساخن وعن طريقه تصل العديد من الشكاوى من ضحايا التحرش".
ويشدد: "يجب أن يكون التبليغ مصحوباً بالأدلة التي تثبت عملية التحرش كالشهود. وبفضل التطور التكنلوجي أصبح إثبات الواقعة أكثر سهولة من حيث كاميرات المراقبة أو التسجيل بالهاتف النقال، لكن ورغم تشجيعنا على تصوير الجناة فإننا نرفض بشدة نشر التصوير على مواقع التواصل، ليأخذ القضاء مجراه ويقف المتحرش عند حده بالطرق القانونية".
أما العنصر المهم لتقويض التحرش، كما يؤكد العميد علي، "فهو سرعة الإبلاغ وعدم السكوت وكسر حاجز الخجل عند الفتيات".
ثانياً، القانون
التحرش كمفردة لم يرد في قانون العقوبات العراقي، ويتعامل القضاء معه تحت عنوان "الجرائم المخلة بالحياء"، التي وردت في قانون العقوبات (رقم 111 لسنة 1969)، وأفرد له المواد (400-401-402) وعقوبتها الحبس ثلاثة أشهر أو ستة أشهر أو لمدة لا تزيد عن سنة، أو غرامة مالية بسيطة إذا ما كان الاعتداء لفظياً.
كما يفرق القانون بين التحرش اللفظي، والانتهاك أو الاعتداء الجنسي التي وردت في فقرات مختلفة من قانون العقوبات ولم يتم جمعها في قانون موحد خاص بقضايا التحرش. حيث تصل عقوبة الشروع بالاعتداء بين 7-10 سنوات في حالة كون الفتاة قاصراً، وفي بعض الحالات تصل العقوبة إلى السجن المؤبد أو الإعدام إذا وقع اعتداء جنسي.
لكن المؤبد أو الإعدام يمكن إلغاؤه بموجب المادة (398) من قانون العقوبات العراقي في حالة زواج المعتدي جنسياً من الفتاة المُغتَصبة.
وفي عام 2015 أقر البرلمان العراقي قانون العمل (37)، الذي أورد مفردة التحرش في المادة (11) منه. ونصت على أن "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على مليون دينار (نحو 750 دولار)، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من خالف أحكام المواد الواردة المتعلقة بتشغيل الأطفال والتمييز والعمل القسري والتحرش الجنسي".
ووفقا لتقرير نشر على الموقع الإلكتروني لمجلس القضاء الأعلى يتناول ظاهرة التحرش في العراق، فإن أغلب النساء لا يقمن بتحريك شكوى عن جرائم تحرش تطولهن لارتباط الموضوع بجوانب عشائرية.
ونقل التقرير عن القاضي عماد الجابري قوله، إن المُشرع لا يفرق بين "شخصية المتحرش سواء كان على علاقة عائلية بالمرأة أم لا، لأننا أمام جريمة وننظرها وفق القانون، بالتالي يصدر القرار من محكمة الموضوع بحسب الأدلة المتوفرة".
ورغم عدم توفر إحصاءات محددة تتعلق بعدد شكاوى التحرش سواء لدى وزارة الداخلية أو مجلس القضاء الأعلى، إلا أن تقرير المجلس نقل عن القاضي ناصر عمران قوله، إن "قلة دعاوى التحرش ترجع إلى طبيعة المجتمع العراقي إضافة إلى الردع القانوني والمجتمعي الذي سيتعرض له الفاعل أو المتحرش".
أما كيفية النظر إلى حالة التحرش، فيبين عمران، أن "شكاوى التحرش قد تحتاج إلى رأي خبير فقد تعني بعض الكلمات أو التصرفات في مجتمع أو بيئة اجتماعية معنى التحرش، في حين تكون في غيرها ليست كذلك. وهناك سلوكيات مجرمة تدخل في مفهوم التحرش رافقت التطور التقني واستخدام الشبكة العنكبوتية، منها ظاهرة التحرش الإلكتروني كما أن هناك ظواهر خطيرة يجب الوقوف عندها وتجفيف منابع تغذيتها وهي ظاهرة التحرش بالأطفال".
ثالثاً، الأثر النفسي
للتحرش أنواع كثيرة كما تقول الاستشارية النفسية الدكتورة رحمة علاء لـ"ارفع صوتك"، منها "اللفظي والجسدي والمعنوي".
وتضيف لـ"ارفع صوتك": "يصنف المتحرش من الناحية النفسية على أنه "شخص غير متزن ومضطرب، يسمح لنفسه بالتحرش لتركيبته وبيئته التي عاش فيها، لكن ذلك لا يبرر تصرفاته وسلوكياته لأنه يحتاج إلى تقويم وإعداد جديد للوعي".
أما أغلب المتعرضين للتحرش فهن الإناث، بحسب علاء، معللةً أن "السبب الأساس طريقة التربية المعتمدة في المجتمعات الشرقية عموماً والمجتمع العراقي بشكل خاص، التي تتيح للذكر فعل ما يحلو له بينما تعاقب الفتاة لأبسط الأشياء".
وتبين أن "هذا الاختلاف بالتعامل يؤدي إلى تسهيل عملية التحرش بالفتيات، فعدم القدرة على البوح خوفاً من النظرة المجتمعية ينتج جروحا نفسية عميقة لا تندمل مهما تقدم العمر بالضحية"، ضاربة المثل بضحية تحرش داخل العائلة "طُلب منها الصمت عندما كانت بعمر المراهقة، وهي الآن بعمر الستين عاماً، ورغم مرور وقت طويل على ما حصل معها، إلا أنها اليوم تأتي إلى العيادة وتتحدث عن الأمر كأنه حصل بالأمس فقط".
وتضيف علاء أنها وخلال جلساتها مع عشرات ضحايا التحرش، حين تطرح فكرة فضح المتحرش ترفض الضحية ذلك بشكل قاطع، خوفاً من اتهامها بالمقابل، وربما تُقَتل في حالات معينة.
والتعرض للتحرش ليس حكراً على الإناث "فالذكور أيضا يتعرضون لهذه الحالات خصوصاً خلال الطفولة من قبل ذكور آخرين أكبر سناً وأقوى بنية، وكثيراً ما يصمتون"، تتابع علاء.
وتوضح أن صمت الذكور سببه "طبيعة المجتمع الشرقي الذي ينظر للرجل على أنه قوي وليس أنثى حتى لا يتمكن من الدفاع عن نفسه".
وتستذكر الاستشارية النفسية "حالة مراهق قتل رجلاً قام باستدراجه واغتصابه، ووصم الشاب وعائلته بالقتل واضطرت العائلة لترك منطقتهم والرحيل باعتبار أن ابنهم قاتل. لكن، لا أحد يتحدث عما فعله المقتول من جريمة"، مؤكدة أن "القتل ليس حلاً صحيحاً، لكنه كان نتاجا لأذى تعرضت له الضحية".
والحل للتخلص من هذه السلوكيات كما تقول علاء، يكمن في "إدراج منهج الوعي الذاتي والمجتمعي من خلال محاضرات في المدارس والجامعات كافة، عبر المرشد النفسي سواء للطلاب أو الطالبات. بالإضافة إلى الحضور الإجباري للعوائل لإنتاج جيل سليم خال من التشوهات النفسية".
لماذا الخوف من الإبلاغ؟
يقول الباحث الاجتماعي أحمد الربيعي لـ"ارفع صوتك"، إن المتحرش "تتوفر لديه في العادة مساحة من الأمان يتحرك من خلالها مجتمعياً، حيث يستغل خوف الضحية من الشكوى ضده تجنباً للوصم الاجتماعي، وأحياناً قد تتعرض الفتاة إلى اللوم والتوبيخ أو المساءلة وقد تُحرم من الدراسة أو العمل إذا نقلت حالات التحرش تلك إلى العائلة خوفاً عليها".
أما موضوع التبليغ لدى مركز الشرطة "فهو أصعب بكثير بالنسبة للفتاة، خصوصاً صغيرات السن، وهن الأكثر تعرضاً للتحرش والأكثر ضعفا، ولكل هذه الأسباب فالفتيات كثيراً ما يفضلن الصمت على البوح في مثل هذه الحالات"، يضيف الربيعي.
ويؤكد أن هذه الثقافة "يجب أن تتغير ويتم سماع صوت الضحية ذكراً كان أو أنثى، وتشجيعها وتقديم الدعم لها"، مردفاً "مجتمعنا صعب وأحيانا ينسى مرتكب الجريمة نفسه ويتعامل معه بشكل طبيعي، بينما تبقى الضحية موصومة وتفقد الإحساس بالأمان ومثل هذه المواقف تؤدي بالنتيجة إلى إحجام الضحايا عن التبليغ".