يتعرض عدد كبير من النساء العراقيات للتحرش/ Shutterstock
يتعرض عدد كبير من النساء العراقيات للتحرش- تعبيرية

مع كل فيديو يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي يوثق جرائم التحرش في العراق، يعود الجدل وتتجدد المطالبات الشعبية للجهات الرسمية بإصدار تشريعات واتخاذ إجراءات رادعة لهذه الظاهرة.

أحدث تلك الفيديوهات كان لامرأة في مدينة البصرة تسير في أحد الشوارع الفرعية بكل أمان حاملة أكياس التسوق إلى منزلها، ليقوم فجأة سائق دراجة نارية بالتقرب منها ولمسها ثم المضيّ قدماً دون توقف وسط دهشة وصدمة المرأة.

في هذه الحادثة التي صورتها كاميرا مراقبة، تمكنت الجهات المسؤولة من إلقاء القبض على الجاني بعد ساعات ورفع أوراقه إلى القضاء.

وقبلها بعدة أيام وقفت فتاة جامعية بكل صلابة خلال اجتماع لكلية الطب البيطري في بغداد للإبلاغ عن تعرض الطالبات للتحرش من قبل عناصر أمن الكلية.

ومع كل فيديو جديد يتم تداوله على مواقع التواصل، تعود المطالبات لإصدار قانون يجمع شتات الفقرات القانونية المبعثرة الخاصة بالتحرش ضمن ما  الناف هو نافذ.

 

أولاً، التبليغ بالدليل

يقول العميد نبراس محمد علي من دائرة العلاقات والإعلام في وزارة الداخلية أن ظاهرة التحرش: "بشكل عام تعتبر من الأمراض المجتمعة الموجودة في كل دول العالم"، لكن هذه الظاهرة "تتباين نسبها حسب الثقافة القانونية والمجتمعية لدى تلك البلدان".

وتنتشر الظاهرة بصورة أكبر "عند انخفاض تلك الثقافات وتراجع مستوى التعليم، والتخلي عن العادات والتقاليد في ظل عدم وجود قوانين صارمة لمحاربتها"، وفق علي.

ولا ينكر العميد خلال حديثه لـ"ارفع صوتك" تزايد حالات التحرش خلال السنوات السابقة، لكنه يقول في نفس الوقت، إن "الظاهرة تراجعت حالياً بفضل الإجراءات التي اتخذتها وزارة الداخلية من حيث تسهيل طرق التبليغ عبر خط هاتفي ساخن يحمل رقم 533 أو 104 للنجدة ويتم من خلالها التحرك المباشر من قبل الأجهزة الأمنية".

ويرى علي أن "المتحرش يعتمد على عدم التبليغ من قبل الفتيات خوفاً من الأحكام الاجتماعية أو عنصر الخجل، وهذا الأمر يزيد من نسب التحرش، فعملية الإبلاغ تشكل رادعا قويا وتقلل من الغلو بالتحرش في المستقبل".

ورداً على سؤال حول الإجراءات المتبعة في عملية التبليغ ضد المتحرشين، يوضح العميد علي، أن الإجراءات تتنوع بين "إبلاغ الضحية للمفرزة الأمنية أو الذهاب إلى أقرب مركز شرطة" مستدركاً لتسهيل العملية وضعنا الخط الساخن وعن طريقه تصل العديد من الشكاوى من ضحايا التحرش". 

ويشدد: "يجب أن يكون التبليغ مصحوباً بالأدلة التي تثبت عملية التحرش كالشهود. وبفضل التطور التكنلوجي أصبح إثبات الواقعة أكثر سهولة من حيث كاميرات المراقبة أو التسجيل بالهاتف النقال، لكن ورغم تشجيعنا على تصوير الجناة فإننا نرفض بشدة نشر التصوير على مواقع التواصل، ليأخذ القضاء مجراه ويقف المتحرش عند حده بالطرق القانونية". 

أما العنصر المهم لتقويض التحرش، كما يؤكد العميد علي، "فهو سرعة الإبلاغ وعدم السكوت وكسر حاجز الخجل عند الفتيات".

 

ثانياً، القانون

التحرش كمفردة لم يرد في قانون العقوبات العراقي، ويتعامل القضاء معه تحت عنوان "الجرائم المخلة بالحياء"، التي وردت في قانون العقوبات (رقم 111 لسنة 1969)، وأفرد له المواد (400-401-402) وعقوبتها الحبس ثلاثة أشهر أو ستة أشهر أو لمدة لا تزيد عن سنة، أو غرامة مالية بسيطة إذا ما كان الاعتداء لفظياً.

كما يفرق القانون بين التحرش اللفظي، والانتهاك أو الاعتداء الجنسي التي وردت في فقرات مختلفة من قانون العقوبات ولم يتم جمعها في قانون موحد خاص بقضايا التحرش. حيث تصل عقوبة الشروع بالاعتداء بين 7-10 سنوات في حالة كون الفتاة قاصراً، وفي بعض الحالات تصل العقوبة إلى السجن المؤبد أو الإعدام إذا وقع اعتداء جنسي.

لكن المؤبد أو الإعدام يمكن إلغاؤه بموجب المادة (398) من قانون العقوبات العراقي في حالة زواج المعتدي جنسياً من الفتاة المُغتَصبة.

وفي عام 2015 أقر البرلمان العراقي قانون العمل (37)، الذي أورد مفردة التحرش في المادة (11) منه. ونصت على أن "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة لا تزيد على مليون دينار (نحو 750 دولار)، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من خالف أحكام المواد الواردة المتعلقة بتشغيل الأطفال والتمييز والعمل القسري والتحرش الجنسي".

ووفقا لتقرير نشر على الموقع الإلكتروني لمجلس القضاء الأعلى يتناول ظاهرة التحرش في العراق،  فإن أغلب النساء لا يقمن بتحريك شكوى عن جرائم تحرش تطولهن لارتباط الموضوع بجوانب عشائرية. 

ونقل التقرير عن القاضي عماد الجابري قوله، إن المُشرع لا يفرق بين "شخصية المتحرش سواء كان على علاقة عائلية بالمرأة أم لا، لأننا أمام جريمة وننظرها وفق القانون، بالتالي يصدر القرار من محكمة الموضوع بحسب الأدلة المتوفرة".

ورغم عدم توفر إحصاءات محددة تتعلق بعدد شكاوى التحرش سواء لدى وزارة الداخلية أو مجلس القضاء الأعلى، إلا أن تقرير المجلس نقل عن القاضي ناصر عمران قوله، إن "قلة دعاوى التحرش ترجع إلى طبيعة المجتمع العراقي إضافة إلى الردع القانوني والمجتمعي الذي سيتعرض له الفاعل أو المتحرش".

أما كيفية النظر إلى حالة التحرش، فيبين عمران، أن "شكاوى التحرش قد تحتاج إلى رأي خبير فقد تعني بعض الكلمات أو التصرفات في مجتمع أو بيئة اجتماعية معنى التحرش، في حين تكون في غيرها ليست كذلك. وهناك سلوكيات مجرمة تدخل في مفهوم التحرش رافقت التطور التقني واستخدام الشبكة العنكبوتية، منها ظاهرة التحرش الإلكتروني كما أن هناك ظواهر خطيرة يجب الوقوف عندها وتجفيف منابع تغذيتها وهي ظاهرة التحرش بالأطفال".

 

ثالثاً، الأثر النفسي

للتحرش أنواع كثيرة كما تقول الاستشارية النفسية الدكتورة رحمة علاء لـ"ارفع صوتك"، منها "اللفظي والجسدي والمعنوي".

وتضيف لـ"ارفع صوتك": "يصنف المتحرش من الناحية النفسية على أنه "شخص غير متزن ومضطرب، يسمح لنفسه بالتحرش لتركيبته وبيئته التي عاش فيها، لكن ذلك لا يبرر تصرفاته وسلوكياته لأنه يحتاج إلى تقويم وإعداد جديد للوعي".

أما أغلب المتعرضين للتحرش فهن الإناث، بحسب علاء، معللةً أن "السبب الأساس طريقة التربية المعتمدة في المجتمعات الشرقية عموماً والمجتمع العراقي بشكل خاص، التي تتيح للذكر فعل ما يحلو له بينما تعاقب الفتاة لأبسط الأشياء".

وتبين أن "هذا الاختلاف بالتعامل يؤدي إلى تسهيل عملية التحرش بالفتيات، فعدم القدرة على البوح خوفاً من النظرة المجتمعية ينتج جروحا نفسية عميقة لا تندمل مهما تقدم العمر بالضحية"، ضاربة المثل بضحية تحرش داخل العائلة "طُلب منها الصمت عندما كانت بعمر المراهقة، وهي الآن بعمر الستين عاماً، ورغم مرور وقت طويل على ما حصل معها، إلا أنها اليوم تأتي إلى العيادة وتتحدث عن الأمر كأنه حصل بالأمس فقط".

وتضيف علاء أنها وخلال جلساتها مع عشرات ضحايا التحرش، حين تطرح فكرة فضح المتحرش ترفض الضحية ذلك بشكل قاطع، خوفاً من اتهامها بالمقابل، وربما تُقَتل في حالات معينة.

والتعرض للتحرش ليس حكراً على الإناث "فالذكور أيضا يتعرضون لهذه الحالات خصوصاً خلال الطفولة من قبل ذكور آخرين أكبر سناً وأقوى بنية، وكثيراً ما يصمتون"، تتابع علاء.

وتوضح أن صمت الذكور  سببه "طبيعة المجتمع الشرقي الذي ينظر للرجل على أنه قوي وليس أنثى حتى لا يتمكن من الدفاع عن نفسه".

وتستذكر الاستشارية النفسية "حالة مراهق قتل رجلاً قام باستدراجه واغتصابه، ووصم الشاب وعائلته بالقتل واضطرت العائلة لترك منطقتهم والرحيل باعتبار أن ابنهم قاتل. لكن، لا أحد يتحدث عما فعله المقتول من جريمة"، مؤكدة أن "القتل ليس حلاً صحيحاً، لكنه كان نتاجا لأذى تعرضت له الضحية".

والحل للتخلص من هذه السلوكيات كما تقول علاء، يكمن في "إدراج منهج الوعي الذاتي والمجتمعي من خلال محاضرات في المدارس والجامعات كافة، عبر المرشد النفسي سواء للطلاب أو الطالبات. بالإضافة إلى الحضور الإجباري للعوائل لإنتاج جيل سليم خال من التشوهات النفسية".

 

لماذا الخوف من الإبلاغ؟

يقول الباحث الاجتماعي أحمد الربيعي لـ"ارفع صوتك"، إن المتحرش "تتوفر لديه في العادة مساحة من الأمان يتحرك من خلالها مجتمعياً، حيث يستغل خوف الضحية من الشكوى ضده تجنباً للوصم الاجتماعي، وأحياناً قد تتعرض الفتاة إلى اللوم والتوبيخ  أو المساءلة وقد تُحرم من الدراسة أو العمل إذا نقلت حالات التحرش تلك إلى العائلة خوفاً عليها".

أما موضوع التبليغ لدى مركز الشرطة "فهو أصعب بكثير بالنسبة للفتاة، خصوصاً صغيرات السن، وهن الأكثر تعرضاً للتحرش والأكثر ضعفا، ولكل هذه الأسباب فالفتيات كثيراً ما يفضلن الصمت على البوح في مثل هذه الحالات"، يضيف الربيعي.

ويؤكد أن هذه الثقافة "يجب أن تتغير ويتم سماع صوت الضحية ذكراً كان أو أنثى، وتشجيعها وتقديم الدعم لها"، مردفاً "مجتمعنا صعب وأحيانا ينسى مرتكب الجريمة نفسه ويتعامل معه بشكل طبيعي، بينما تبقى الضحية موصومة وتفقد الإحساس بالأمان ومثل هذه المواقف تؤدي بالنتيجة إلى إحجام الضحايا عن التبليغ".

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".