عُرف التصوف في العراق منذ فترة مبكرة من عمر الحضارة العربية الإسلامية. ظهرت واحدة من أقدم مدارس التصوف الإسلامي في البصرة في القرن الثاني الهجري. يقول ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "أول ما ظهرت الصوفية من البصرة... وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار ولهذا كان يُقال: فقه كوفي وعبادة بصرية".
لم يبرز الرجال وحدهم في ميدان التصوف في تلك الفترة، بل برزت كذلك العشرات من النساء المتصوفات اللاتي ورد ذكرهن في العديد من المصادر المهمة. من بين هذه المصادر كتاب "ذكر النسوة المتعبدات الصوفيات" لأبي عبد الرحمن السلمي، و"صفة الصفوة" لأبي الفرج ابن الجوزي، و"وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" لابن خلكان. فمن هم أشهر المتصوفات العراقيات؟ وما هي قصصهن؟ وكيف عبرت الأشعار المنسوبة لهن عن التجارب الروحية العميقة التي مررن بها؟
رابعة العدوية
تُعدّ رابعة العدوية أشهر النساء المتصوفات على مدار التاريخ الإسلامي. لا نعرف الكثير عن أصولها وأسرتها. عاشت رابعة في البصرة في القرن الثاني الهجري. ويُقال إنها سميت "رابعة" لأنها كانت البنت الرابعة لأبيها. توفيت في سنة 180هـ تقريباً.
تتحدث المصادر التاريخية عن المكانة المهمة التي حظيت بها رابعة العدوية بين أقرانها من العلماء والفقهاء. على سبيل المثال، يذكر ابن الجوزي في كتابه أن الفقيه الكبير سفيان الثوري كان يقصدها لطلب العلم والدين، كما أنه كان يصفها بـ"المؤدِّبة التي لا يستريح إذا فارقها". في السياق نفسه، وصفها ابن خلكان في وفيات الأعيان بأنها "كانت من أعيان عصرها. وأخبارُها في الصلاح والعبادة مشهورة".
اشتهرت رابعة العدوية "بحبها لذات الله"، حتى عُرفت بـ "شهيدة العشق الإلهي". وتُحكى عنها الكثير من الروايات، العجائبية أحيانا، التي تشير إلى هذا الحب. من ذلك أن بعض الأشخاص شاهدوها يوماً وهي تتمايل، فلما سألوها عن السبب قالت: "سكرت من حب ربي الليلة، فأصبحت وأنا منه مخمورة"!، وذلك بحسب ما يذكر أبو عبد الرحمن السلمي في كتابه.
وكذلك عُرف عنها الزهد والتفرغ بشكل كامل للعبادة. يُقال إن واحداً من أغنياء البصرة أرسل لها ليعرض عليها الزواج، وأغراها بمهر عظيم فأجابته برسالة جاء فيها: "أما بعد، فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن، فإذا أتاك كتابي فهيء زادك وقدم لمعادك، وكن وصي نفسك ولا تجعل وصيتك إلى غيرك، وصم دهرك واجعل الموت فطرك، فما يسرني أن الله خولني أضعاف ما خولك فيشغلني بك عنه طرفة عين، والسلام".
من جهة أخرى، تُنسب لرابعة العدوية العديد من القصائد الصوفية الرائعة التي اعتاد الصوفية على ترديدها جيلاً بعد آخر، ومن ذلك قولها في إحدى القصائد:
عرفت الهوى مذ عرفت هواك... وأغلقت قلبي عمن عاداك
وقمت أناجيك يا من ترى... خفايا القلوب ولسنا نراك
أحبك حبين حب الهوى... وحباً لأنك أهل لذاك
فأما الذي هو حب الهوى... فشغلي بذكرك عمن سواك
وأما الذي أنت أهل له... فكشفك لي الحجب حتى أراك
وتقول في قصيدة أخرى:
راحتي يا إخوتي في خلوتي... وحبيبي دائماً في حضرتي
لم أجد لي عن هواه عوضاً... وهواه في البرايا محنتي
حيثما كنت أشاهد حسنه... فهو محرابي إليه قبلتي
إن أمت وجداً وماثم رضا... واعناني في الورى وشقوتي
مريم البصرية
كانت مريم البصرية من المتصوفات اللواتي عاصرن رابعة العدوية. ويُحكى عنها أنها خدمت رابعة لسنين طويلة. اشتهر أمر مريم عقب وفاة رابعة عندما كان الناس يسألونها عن كيفية الوصول لطريق التصوف والحب الإلهي. يذكر أبو عبد الرحمن السلمي أن مريم كانت شديدة التفكر في القرآن، وأنها أقامت صلاة الليل ذات يوم وهي تقرأ آية واحدة، وهي "الله لطيف بعباده". وظلت تكررها في تدبر وخشوع حتى أصبح عليها الصبح!
تذكر بعض المصادر، في قصة غريبة، أن مريم توفيت في إحدى حلقات الذكر والتصوف. يقول ابن الجوزي إنها كانت حاضرة في أحد مجالس الوعظ، فلمّا تحدث الواعظ عن حب الله لم تحتمل فماتت في المجلس من شدة الوجد!
ريحانة الوالهة
من المتصوفات اللاتي اشتهر أمرهن في البصرة في القرن الثاني الهجري أيضا. لا نعرف عنها الكثير من المعلومات. يُقال إن الناس كانوا يسمونها بالمجنونة من شدة انجذابها إلى الله وبعدها عن الخلق! ونقل عنها ابن الجوزي بعض أشعار المناجاة الرائعة، ومنها قولها:
بوجهك لا تعذبني فإني... أؤمل أن أفوز بخير دار
وأنت مجاور الأبرار فيها... ولولا أنت ما طاب المزار
وقولها:
لا تأنسن بمن توحشك نظرته... فتمنعن من التذكار في الظلام
وأجهد وكد وكن في الليل ذا شجن... يسقيك كأس وداد العز والكرم
وينقل عنها أبو عبد الرحمن السلمي قولها:
أنت أنسي وهمتي وسروري... أبى القلب أن يحب سواكا
عزيـزي وهمتـي ومـرادي... طال شوقي متى يكون لقاكا
غير سؤلي من الجنان نعيم... غير أني أريد أن ألقاكا
شعوانة
عُرفت شعوانة كواحدة من كبار المتصوفات العراقيات اللاتي ظهرن في منطقة الأُبلة الواقعة بالقرب من البصرة في القرن الثاني الهجري. تحدث عنها ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية"، فوصفها بأنها "أمة سوداء كثيرة العبادة، رُوِي عنها كلمات حسان"، وذكر أنها توفيت في سنة 175ه.
يُقال إن شعوانة كانت معروفة بالتهتك والخلاعة في بداية حياتها. وفي أحد الأيام حضرت في أحد مجالس الوعظ وسمعت الواعظ يقرأ القرآن. فلما قرأ الآية الثانية عشرة من سورة الفرقان "إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً"، شعرت بالخوف الشديد، وعزمت أن تقضي ما تبقى من حياتها في العبادة. أقبلت شعوانة بعدها على الندم والبكاء، ويحكي أبو عبد الرحمن السلمي أن الناس لمّا قالوا لها إنها ستعمى من شدة البكاء، قالت لهم: "أعمى والله في الدنيا من البكاء أحب إلي من أن أعمى في الآخرة من النار". أما ابن الجوزي فينقل عنها قولها المشهور: "والله لوددت أني أبكي حتى تنفد دموعي، ثم أبكي الدماء حتى لا تبقى في جسدي جارحة فيها قطرة من دم".
تحكي المصادر أن قصة شعوانة انتشرت في عموم العراق، وأن الكثير من الفقهاء أقبلوا عليها للتبرك بها. من هؤلاء الفضيل بن عياض الذي قدم عليها وطلب منها أن تدعو له الله. من جهة أخرى نُقل عن شعوانة بعض الأبيات الشعرية المشهورة ومنها قولها:
يؤمل دنيا لتبقى له... فوافى المنية قبل الأمل
حثيثاً يروي أصول الفسيل... فعاش الفسيل ومات الرجل
كردية بنت عمرو
كانت كردية بنت عمرو خادمة عند شعوانة، وعلى يديها تلقت أصول الزهد والتصوف. وتذكر المصادر التاريخية أن كردية كانت من أهل البصرة أو الأهواز. ولا نعرف إذا كان اسم كردية اسماً حقيقياً لها، أم أنه كان وصفاً لأصول كردية. يتحدث أبو عبد الرحمن السلمي عن تأثير شعوانة في نفس كردية فيقول إن شعوانة وجدت خادمتها نائمة ذات ليلة فقامت بإيقاظها وتعنيفها وقالت لها: "ليس هذا دار النوم، إنما النوم في القبور". وظلت تلك الحادثة مؤثرة بشكل كبير في حياة كردية فيما بعد حتى أنها كانت تحدث الناس عن ذلك الموقف في كل مرة يسألونها عن حالها مع شعوانة. أيضاً يذكر ابن الجوزي أن الناس لمّا سألوا كردية عن الأثر الذي تركه فيها اتصالها بشعوانة، فإنها كانت تقول لهم: "ما أحببت الدنيا منذ خدمتها، ولا اهتممت لرزقي، ولا عظم في عيني أحد من أرباب الدنيا لطمع لي فيه، وما استصغرت أحداً من المسلمين قط".
مخة أخت بشر الحافي
كان بشر بن الحارث، المشهور ببشر الحافي واحداً من كبار المتصوفين العراقيين في القرن الثاني الهجري. كان لبشر ثلاثة من الأخوات - مضغة، ومخة، زبدة- اللاتي عُرفن بالزهد والورع، وضُرب بهن المثل في الدين والتقوى. ينقل ابن الجوزي عن بشر قوله واصفاً زهد أخته مخة: "تعلمت الورع من أختي فإنها كانت تجتهد ألا تأكل ما للمخلوق فيه صنع". وردت الكثير من القصص المبيّنة لزهد مخة وتقواها. من ذلك أنها ذهبت ذات يوم لبيت الفقيه المعروف أحمد بن حنبل وطلبت أن تقابله. فلمّا خرج للقائها قالت له: يا أبا عبد الله أنا امرأة أغزل بالليل في السراج فربما طفئ السراج فأغزل على ضوء القمر، فهل فعلي أن أبين غزل القمر من غزل السراج؟، فقال لها ابن حنبل: إن كان عندك بينهما فرق فعليك ان تبيني ذلك. ولمّا غادرته قال متعجباً من شدة تقواها: ما سمعت قط إنساناً يسال عن مثل هذا!