تُعرف الحركة النسوية عموما على أنها مجموع الأنشطة الاجتماعية والسياسية والأيديولوجيات التي تهدف إلى تعريف وتأسيس المساواة السياسية والاقتصادية والشخصية والاجتماعية بين الجنسين.
على مر العقود السابقة، طالبت الناشطات والناشطون في الحركة النسوية بالحصول على العديد من الحقوق المرتبطة بالمرأة. ومنها على سبيل المثال حق التصويت، والمساواة في الأجور، والإجهاض القانوني، والحماية من التحرش والعنف الأسري. في هذا السياق، برزت أسماء العشرات من الناشطات النسويات في العالم الغربي. ومنهن كل من الإنجليزية إيميلين بانكهرست، والأمريكية لوكريشا موت، والفرنسية سيمون دي بوفوار.
بدوره، عرف العراق الحراك النسوي منذ فترة مبكرة. وظهرت العديد من الأفكار التقدمية الداعية لتحرير المرأة، ولإشراكها بشكل فعال في مختلف الأنشطة المجتمعية. نلقي الضوء في هذا المقال على مجموعة من أشهر الناشطات النسويات العراقيات، لنرى كيف تمكن الحراك النسوي من التأثير على الأوضاع السياسية والاجتماعية.
بولينا حسون
ولدت الصحافية بولينا حسون في مدينة الموصل العراقية سنة 1895م. وتنقلت في السنوات الأولى من حياتها بين مصر وفلسطين والأردن. وعادت إلى العراق مرة أخرى في سنة 1922م. بعد أن تأثرت -بشكل كبير- بالنهضة النسوية التي عايشتها أثناء فترة إقامتها في القاهرة على وجه الخصوص.
في سنة 1923م، أصدرت حسون العدد الأول من مجلة "ليلى"، وهي أول مجلة نسائية تصدر في العراق. ركزت المجلة على نشر موضوعات متنوعة حول تعليم المرأة وتحريرها ومشاركتها في ميادين العمل السياسي فضلاً عن بعض الجوانب الخاصة بتربية الأبناء والاقتصاد المنزلي والفنون والآداب.

تضمن العدد الأول من مجلة ليلى نداء موجه إلى أعضاء أول مجلس تأسيسي عراقي. جاء في هذا العدد: "إن نجاح النهضة النسوية الناشئة منوط بخبرتكم وشهامتكم أيها الرجال الكرام، ولاسيما أنتم الذين تحملتم أعباء مسؤولية تأسيس الحياة الديمقراطية العراقية على قواعد عصرية راسخة في الحياة، وأنتم تعلمون أنها ليست حق الرجل فقط".
في سنة 1923م، خطت حسون خطوة أخرى مهمة في نشاطها النسوي، عندما أسست أول نادي نسوي في العراق. وكان اسمه "نادي النهضة النسائية". لعب النادي جهوداً كبيرة في سبيل الحصول على الحقوق السياسية للمرأة العراقية بعد سنوات.
صبيحة الشيخ داود
ولدت صبيحة الشيخ داود في بغداد سنة 1912م. كان والدها الشيخ أحمد الداود عضواً في البرلمان العراقي ووزيراً للأوقاف في العهد الملكي، بينما عُرفت والدتها بنشاطها في "جمعية النهضة النسائية".
درست داود في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية ببغداد. وفي سنة 1936م التحقت بكلية الحقوق، وتخرجت منها في سنة 1940م لتصبح أول امرأة عراقية تتخرج من كلية الحقوق. مثل هذا الأمر إحدى المحطات المهمة في تاريخ الحركة النسوية في بلاد الرافدين. يذكر الباحث فرقان فيصل جدعان في دراسته "صبيحة الشيخ داود: رائدة النهضة النسائية في تاريخ العراق المعاصر" أن داود مارست مهنة المحاماة لفترة، ثم عُينت مفتشاً في وزارة المعارف. وفي سنة 1956م، تم تعيينها قاضية في محاكم بغداد. وأضحت بذلك أول امرأة تتولى هذا المنصب في جميع الدول العربية.
بالتوازي مع عملها الحكومي، شاركت داود كعضو فعال في العديد من المنظمات الحقوقية والنسوية، من أبرزها الاتحاد النسائي والهلال الأحمر، كما شاركت في العديد من المؤتمرات النسوية التي عُقدت داخل العراق وخارجه. فضلاً عن ذلك، نشرت العديد من المقالات التي دعت الى سفور المرأة، وطالبت بحقوق المرأة السياسية والاجتماعية.
في سنة 1958م، قامت داود بخطوة مهمة في مسارها عندما نشرت كتاب "أول الطريق إلى النهضة النسوية في العراق". تناول الكتاب دور المرأة العراقية في ثورة العشرين، وألقى الضوء على أهم مراحل تطور التعليم النسوي في العراق.
خصصت داود أيضا فصلاً كاملاً من الكتاب للحديث عن أهم المفكرين والمثقفين الذين دعموا المرأة العراقية في سعيها للتحرر والتنوير. ووثق الكتاب العديد من الأحداث المهمة في تاريخ الحركة النسوية العراقية، كما اعتبر إحدى المحاولات العربية النادرة لكتابة التاريخ الحديث من وجهة نظر نسائية.
نزيهة الدليمي
ولدت نزيهة الدليمي سنة 1923 في محلة البارودية ببغداد. بدأت دراستها الابتدائية والمتوسطة في مدرسة تطبيقات دار المعلمات النموذجية. وفي سنة 1939، أكملت دراستها الثانوية في المدرسة المركزية للبنات. ثم في سنة 1941م، التحقت الدليمي بكلية الطب. بعد تخرجها من الكلية، عملت في بعض المدارس الحكومية، ومنها المستشفى الملكي ببغداد، ومستشفى الكرخ. وتنقلت بين بعض المدن العراقية، قبل أن يتم اختيارها ضمن إحدى البعثات العلمية التي درست مرض السل الذي تفشى بين السكان المقيمين بالقرب من المياه.
بدأ النشاط النسوي لنزيهة الدليمي في أربعينيات القرن العشرين، عندما التحقت بـ"الجمعية النسوية لمكافحة الفاشية والنازية". بعد هزيمة دول المحور في الحرب، تغير اسم الجمعية إلى "رابطة نساء العراق". وصارت الدليمي واحدة من قيادات تلك الجمعية. وأشرفت على إصدار مجلة تعرف باسم "تحرير المرأة". بعد فترة، قامت الحكومة العراقية بتفكيك الجمعية ومنعت نشر المجلة.
لم تيأس الدليمي، وحاولت أن تعيد النشاط النسوي إلى الواجهة مرة أخرى، فجمعت العشرات من العراقيات اللائي تخرجن من الكليات. وقدمت إلى الحكومة مقترحاً بتأسيس جمعية "تحرير المرأة". ولكن طلبها قوبل بالرفض.
يذكر الباحث موفق خلف غانم في كتابه "الدكتورة نزيهة الدليمي ودورها في تاريخ الحركة الوطنية والسياسية العراقية" أن الدليمي تابعت أنشطتها الحقوقية مع مطلع الخمسينيات. ففي 1950م، شاركت في حركة أنصار السلم العالمية. وكانت عضواً في اللجنة التحضرية التي كانت يرأسها الشاعر المعروف محمد مهدي الجواهري. وبعد سنتين فحسب، أُتيحت الفرصة للدليمي لمواصلة النشاط النسوي عقب تأسيس "رابطة الدفاع عن حقوق المرأة العراقية"، والتي انتخبت نزيهة كأول رئيسة لها.
في سنة 1959م، كُللت مجهودات الدليمي في مجالي الطب والعمل النسوي، عندما تم اختيارها لتشغل منصب وزيرة البلديات في حكومة عبد الكريم قاسم. بموجب ذلك الاختيار أضحت الدليمي أول امرأة تتسلم منصب وزير في تاريخ العراق والعالم العربي. من خلال منصبها الوزاري الرفيع، تمكنت الدليمي من دعم الحركة النسوية في العراق. حدث هذا عندما أسست "رابطة المرأة العراقية"، وهي الرابطة التي شاركت في صياغة قانون الأحوال الشخصية العراقي سنة 1959م. اهتم هذا القانون بحقوق المرأة العراقية. ووصف بأنه "أول قانون تقدمي ليس في العراق فحسب، بل في المنطقة العربية كلها. وخطوة جريئة على طريق تطوير وضع المرأة"، وذلك بحسب ما يذكر موفق خلف غانم في كتابه.
زينب سلبي
ولدت سلبي في سنة 1969م ببغداد. كان والدها الطيار الشخصي للرئيس العراقي الاسبق صدام حسين. في التاسعة عشر من عمرها، انتقلت مع أسرتها إلى الولايات المتحدة الأميركية. والتحقت بجامعة جورج ماسون، وحصلت على درجة البكالوريوس في علم الاجتماع والدراسات النسائية. ثم تابعت دراسة الماجيستير في حقل دراسات التنمية في كلية لندن للاقتصاد.
في الثالثة والعشرين من عمرها، بدأت سلبي عملها في مجال التوعية النسائية عندما سافرت إلى البوسنة. وقدمت الدعم والتدريب للعشرات من النساء اللاتي تعرضن للعنف بسبب الحرب الأهلية. بعدها، أقدمت سلبي على خطوة مهمة عندما أسست منظمة "نساء من أجل النساء" الدولية، وهي منظمة إنسانية غير ربحية مكرّسة لخدمة النساء الناجيات من الحروب وتقديم الدعم المعنوي والعملي الضروريين لإعادة بناء حياتهن.

في سنة 2015م، اقتحمت سلبي ميدان الإعلام المرئي عندما قدمت برنامج "نداء" وهو النسخة العربية عن برنامج أوبرا وينفري الشهير. لاقى البرنامج شهرة واسعة بعدما تم بثه في 22 دولة عن طريق قناة تي إل سي عربية.
من جهة أخرى، ألفت سلبي العديد من الكتب التي ركزت على الجانب النسوي. منها "بين عالمين: الهرب من الطغيان: النشوء في ظل صدام"، و"الجانب الآخر من الحرب: قصص النساء من البقاء على قيد الحياة والأمل"، و"لو كنت تعرفني لاهتممت"، و"الحرية مهمة داخلية".
حصلت سلبي على التكريم والدعم من جانب العديد من المنظمات والجهات الحكومية، على سبيل المثال في سنة 1995م، تم تكريمها من قِبل الرئيس الأميركي بيل كلينتون في البيت الأبيض على العمل الإنساني الذي قادته في البوسنة، كما اُختيرت من قِبل "مبادرة تكريم" في القاهرة، لنيل جائزة المرأة العربية في سنة 2017م.
ينار محمد
ولدت الناشطة النسوية العراقية ينار محمد في بغداد في سنة 1960م. درست الهندسة في جامعة بغداد، وتحصلت على درجة البكالوريوس سنة 1984م، قبل أن تنهي دراسة الماجيستير في سنة 1993م.
انضمت ينار منذ فترة مبكرة إلى الحزب الشيوعي العراقي. ودافعت عن حقوق المرأة، كما نددت بالتسلط الذكوري على المجتمع العراقي. في التسعينات، هاجرت ينار مع أسرتها إلى كندا. وبعد ما يقرب من10 سنوات، رجعت مرة أخرى إلى العراق بعد سقوط نظام صدام حسين في سنة 2003م.
بعد رجوعها، عملت ينار محمد على استئناف عملها في مجال النشاط النسوي والدفاع عن حقوق المرأة العراقية. فأسست "منظمة حرية المرأة في العراق". والتي تُعرف نفسها باعتبارها "منظمة نسوية جماهيرية تهدف إلى تنظيم النضالات النسوية لتمكين المرأة بالضد من القمع الواقع ضدها في المجتمع، وتحقيق المساواة التامة بين المرأة والرجل في العراق في ظل دستور علماني مساواتي والدفاع عن حقوق المرأة-الانسان عن طريق القضاء على جميع أشكال التمييز القائم على أساس الجنس بحق المرأة وتحريرها من كل أشكال السيطرة والعبودية والدفاع عنها من شتى انواع الظلم الواقع عليها في العراق".

على مدار السنوات السابقة، لعبت المؤسسات التي تقودها ينار محمد دوراً مهما في دعم العراقيات. على سبيل المثال، تم إجراء عشرات اللقاءات مع الفتيات الفقيرات، وقُدم لهن الدعم لحمايتهن من العمل في مجال الدعارة. ولعبت محمد كذلك دوراً مهماً في إنقاذ العديد من الفتيات من القتل على أيدي أهلهن بسبب ما يُطلق عليه جرائم الشرف. من جهة أخرى، أجرت منظمة حرية المرأة في العراق لقاءات متعددة مع السجينات للتعرف على أحوالهن، وللتأكد من كونهن يحظين بالرعاية والمعاملة اللائقة.
حازت ينار محمد العديد من الجوائز العالمية المهمة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة. على سبيل المثال، في سنة 2008م، اختيرت للحصول جائزة مؤسسة غروبر للدفاع عن حقوق المرأة. أما في سبتمبر سنة 2016م، فاختيرت للفوز بجائزة "رافتو" النرويجية لحقوق الانسان، وذلك تكريماً "لعملها من أجل النساء والأقليات في العراق".