صورة تعبيرية من داخل مستشفى "الشفاء" في مدينة غزة الذي تعرض لحصار طويل واستهداف مباشر من قبل القوات الإسرائيلية
صورة تعبيرية من داخل مستشفى "الشفاء" في مدينة غزة الذي تعرض لحصار طويل واستهداف مباشر من قبل القوات الإسرائيلية

إشادة كبيرة نالتها أميرة العسولي، الطبيبة الفلسطينية في مستشفى ناصر، بعدما انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لها وهي تجازف بحياتها لإنقاذ شابٍ مصاب وتنقله إلى المستشفى رغم استهداف المنطقة بالإطلاقات النارية المتتالية من قبل جنود إسرائيليين.

هذا المشهد وعشرات غيره بدا شاهداً على المجهود الكبير الذي تبذله عشرات العاملات في القطاع الصحي الفلسطيني خلال الحرب التي فرضت عليهن ظروفاً قاسية، ربما لم يعرفها القطاع طوال تاريخه.

بدأت معاناة طبيبات غزة منذ اليوم الأول للمعركة بعدما استقبلت طبيبة فلسطينية جثمان زوجها ضمن عددٍ من أوائل القتلى الذين سقطوا جراء القصف الإسرائيلي الذي افتتحت به تل أبيب ردّها على عملية "طوفان الأقصى" ضد المستوطنات الإسرائيلية.

الأوضاع المزرية التي عاشها القطاع إثر اشتعال الحرب دفعت عدداً من الفلسطينيات العاملات في القطاع الطبي إلى بثّ رسائل استغاثة لتسليط الضوء على حالة الانهيار في المشافي والمراكز الطبية والعيادات.

في بعض الحالات قُتلت صاحبات الاستغاثات بعد أيام من إطلاقها، كما حدث مع بيسان حلاسا طالبة الطب ومع أسماء الأشقر الطبيبة في مستشفى القدس، لتلقيا مصير رزان النجار الممرضة الفلسطينية التي قُتلت برصاصٍ إسرائيلي في 2018 خلال محاولتها إسعاف الجرحى في احتجاجات اندلعت على الحدود الفاصلة بين غزة وإسرائيل، ومن يومها باتت "أيقونة" لضحايا القطاع الطبي الفلسطيني جرّاء الصراع الدائر.

حتى الآن لم تصدر إحصائية دقيقة تكشف عن حجم الضحايا من هؤلاء العاملات لكن إجمالي عدد قتلى القطاع الطبي في غزة وصل إلى 200 حتى منتصف هذا الشهر.

هذه المقتلة لم تنجُ منها ممرضات أجنبيات تطوعن للعمل في غزة تحت لواء منظمة "أطباء بلا حدود". قادت هذا الفريق الممرضة الأميركية إميلي كالاهان لكن كُتب لها النجاة بعدما استطاعت العودة إلى بلادها، حيث صرّحت أنها تشعر بالقلق على سلامة زميلاتها اللواتي أصررن على البقاء في أماكن عملهن رغم المخاطر المتزايدة ومقتل أخريات.

نتيجة لهذه الخسائر المتتالية نظّم عددٌ من الأطباء في شيكاغو ولندن وقفات احتجاجية لدعم الكوادر الطبية في غزة، كما أصدر المجلس الدولي للممرضات بياناً أعرب فيه عن قلقه على سلامة "الممرضات والعاملات في الخطوط الأمامية للرعاية الصحية".

 

آسيا الحسنات: لم أرَ عائلتي منذ شهرين

"طلبتُ من زوجي النزوح بأولادنا بعيداً لكني عجزتُ عن اللحاق بهم بسبب عملي في مستشفى العودة" تقول آسيا الحسنات، رئيسة الممرضات في قسم الولادة بمستشفى "العودة" شمال قطاع غزة، عن يومياتها في الحرب.

وتعتبر في حديث مع "ارفع صوتك" أن ما يمرُّ به القطاع ليس حرباً إنما "إبادة ممنهجة"، بسببها تدفقت أعداد ضخمة من الحالات الصعبة إلى المستشفى الذي تعمل به، وتطلّب الأمر من العاملين فيه بذل مجهودات "خارقة" للعناية بهم.

وتضيف الحسنات "منذ اللحظات الأولى لنقل الضحايا إلى المستشفى لم تلتزم الأقسام بتخصصاتها، لذا استقبل قسم الولادة الذي تعمل فيه العشرات من حالات كسور العِظام والحروق الذين أجريت لهم عمليات جراحية بعدما تعرضوا للقصف".

"في أوقات كثيرة كنا نضطر لكتابة خروج لحالات ما زالت تحتاج بعض الرعاية لنستقبل حالات أخري أشد خطورة"، تتابع الحسنات.

وبحسب الممرضة الفلسطينية، فإن التكدس الكبير في المستشفى دفع الطاقم الطبي إلى تسكين بعض الحالات والتعامل معها على أرضيات المبنى بسبب عدم توفّر أسرّة.

أمرٌ آخر ما زال يُقلق الحسنات، وهو أسرتها التي تعيش في شمال القطاع واضطرت للنزوح فور اندلاع العمليات العسكرية، لكنها لم تستطع الذهاب معهم، بسبب واجبها الطبي، حيث نزح زوجها بأطفالها وبقيت هي وحدها في المستشفى.

تشير إلى أنها لم تر عائلتها الصغيرة منذ شهرين، وقد تزايدت الضغوط الواقعة عليها بعدما تعرّض مستشفى "العودة" لحصارٍ إسرائيلي مُحكم دام 19 يوماً، تصفها الحسنات بأنها "أصعب فترات حياتها".

توضح: "لم نكن نستطيع الخروج من باب المستشفى، كنا نخاف من التحرك داخله، حتى الذهاب لمستودع الأدوية بات صعباً بسبب استمرار قنص الجنود الإسرائيليين لنا عبر النوافذ".

وكان القسم الذي تُشرف عليه يضمُّ 17 حالة خلال فترة الحصار، لكنها رغم ذلك أصرّت على استمرار العناية بهم بمعاونة زملائها، إذ كانوا يُعالجون الجروح بأقل الإمكانيات كما أن الأطباء كانوا يجرون عمليات جراحية على ضوء كشافات الهواتف.

وتستذكر الحسنات بعض أصعب الحالات التي مرّت عليها خلال عملها في الحرب المستمرة منذ قرابة خمسة شهور، "ليس فقط بسبب فداحة الإصابة إنما أيضاً لثقل المصيبة التي وقعت على الضحية، كالأم التي حملت في طفلٍ بعد 12 عاماً من الانتظار لكنه مات في بطنها بعدما تعرضت لإصابة في القصف، أو السيدة التي هُدم منزلها فوق رأسها واضطر الأطباء لبتر يدها ورجلها ولم تعد قادرة على العناية بطفلها الرضيع في عُمر الشهرين".

احتاجت مثل هذه الحالات من الممرضة الحسنات القيام بمهامٍ إضافية لمساعدة أصحابها على تجاوز الصدمة، فسعت إلى تقديم الدعم النفسي في "محاولة لعلاج جروح الروح أيضاً وليس الجسد وحده" وفق تعبيرها.

تقول "كنا نواسي السيدة التي تعرضت للبتر، ونحكي لها أنها ستتمكن من تركيب طرف صناعي تتدرّب عليه وتمشي به، رغم أننا نعلم أن حالتها صعبة ولن يتحقق ذلك بسهولة".

 

وفاء نُقلت إلى مصر للعلاج

كانت وفاء مطر تعمل كفنيّة أشعةفي مستشفى "يافا" بمدينة دير البلح جنوب مدينة غزة، لكنها اليوم لا تستطيع ممارسة هذا العمل بسبب تعرضت لإصابة كبيرة في الظهر والقدم على أثر غارة إسرائيلية قصفت منزلها.

لاحقاً، نُقلت مطر لتلقي العلاج في مستشفى "شبين الكوم التعليمي" في مصر. تقول لـ"ارفع صوتك"، إن مستشفيات القطاع "تعيش حالة مأساوية بعدما اكتظت بالجرحى والضحايا في ظِل عجز الطواقم الطبية عن معاونتهم بالشكل الكافي، نتيجة النقص الحاد في الإمكانيات حتى أنهم اضطروا إلى إجراء العمليات جراحية على الأرضيات وفي الممرات بسبب امتلاء الأسرّة".

وبعد أيامٍ طويلة من العمل الشاق، خرجت مطر في زيارة سريعة إلى منزل والدتها، لكن ما إن دخلت المبنى، حتى تعرض للقصف، فقُتل أخوها وأصيبت هي مع بعض أقاربها بإصابات خطيرة.

"نقلوني مع أقاربي إلى مستشفى (شهداء الأقصى) الذي عجز عن التعامل مع حالتي فتقرر سفري إلى مصر عن طريق معبر رفح، وما زلت أخضع للعلاج".

 

"كنتُ أرعى أطفال المصابين"

هبة النمنم الممرضة في قسم الجراحة بمستشفى "العودة" تروي لـ"ارفع صوتك" حكايتها مع الطبابة في غزة على وقع الحرب والقصف المستمر وعمليات الحصار.

نقول "أحد أصعب المواقف التي واجهتها، وجود طفل وحيد في المستشفى بعدما فقد عائلته سواءً بالإصابة أو الوفاة".

"كما جاءتنا طفلة مصابة من ذوي الاحتياجات خاصة، قُتل جميع أفراد عائلتها في قصف منزلهم. ظلّت في المستشفى لمدة شهرين وكنا نرعاها بأقصى ما نستطيع، حتى الملابس كنّا نوفرها لها"، تتذكّر النمنم.

وتتابع سرد بعض القصص المؤثرة: "وصل إلينا طفل صغير لم يبقَ له من عائلته إلا والده. خلال فترة حصار المستشفى رقد الطفل في قسم الجراحة دون أبيه، لأن التنقل بين الأقسام كان خطيراً، فلم نستطع إيصاله لأبيه. ولدعم الطفل نفسياً سمحنا له بالحديث عبر الهاتف رغم صعوبة الاتصالات، وخلال الحصار تولينا رعاية الطفل تماماً ووفرنا له الملبس والمأكل والعلاج".

وتلفت النمنم إلى أن انقطاع الكهرباء أدى لتعطيل المصاعد التي كانت تُستخدم في نقل المرضى للطوابق العلوية، حيث توجد غرفة العمليات، ما اضطر أفراد الطاقم الطبي لنقل  الجرحى بأنفسهم عبر الأدراج، "وكل مريض يحمله أفراد وينقلونه للأعلى".

نزحت أسرة النمنم كاملة إلى رفح المحاذية للحدود المصرية، ولم يبقَ حولها أحد بعدما رفضت الرحيل معهم بسبب إصرارها على عدم ترك المستشفى. تقول "أخاف من الصواريخ، لكني لو رحلت مَن يبقى لعلاج هؤلاء المرضى؟!".

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".