في 15 أكتوبر 1923، أقدمت الصحافية العراقية بولينا حسون على خطوة تاريخية في بلادها، عبر تأسيس مجلة "ليلى"، كأول صحيفة نسوية في العراق.
انقسم المجتمع العراقي بين مؤيد ومعارض لهذه المجلة، ما جعل بولينا تحت الأضواء طيلة فترة إصدارها، حتى رضخت للضغوط، وأوقفت مجلتها، ثم هاجرت للخارج.
النساء لسن "كماليات"
أورد كتاب "تاريخ الصحافة والإعلام في العراق منذ العهد العثماني وحتى حرب الخليج الثانية" للدكتور خالد الراوي، أن مجلة "ليلى" ظهرت تحت شعار "في سبيل نهضة المرأة العراقية"، وعرّفت نفسها بأنها "مجلة نسائية شهرية تبحث في كل مفيد وجديد مما يتعلق بالعلم والفن والأدب والاجتماع وتدبير المنزل".
وبحسب التصنيف الذي وضعه الدكتور إسماعيل إبراهيم في كتابه "الصحافة النسائية في الوطن العربي"، فإن هذه المجلة هي رابع إصدار صحافي نسائي عرفه العالم العربي بعد مجلة "الفتاة" التي أصدرتها اللبنانية هند نوفل في مصر عام 1892، تلتها مجلة "الحسناء" في لبنان على يدي جرجي نقولا 1909، ثم مجلة "العروس" لصاحبتها ماري عبده عجمي في دمشق 1910.
في مقالها ضمن العددد الأول من المجلة، كشفت بولينا سبب اختيارها اسم "ليلى" للمجلة، وهو سماعها قصيدة للشاعر جميل صدقي الزهاوي يقول فيها (وإني بليلى مغرم وهي موطني.. وعلي أقضي في غرامي بها نحبي).
روت بولينا "هبطت الكلمتان (ليلى والوطن) على قلبي هبوط الوحي، فاندفعتُ إلى تسميتها ليلى، وقد كان في فكري بالبداية أن أسمّيها (فتاة العراق)".
وأضافت "البعض يعتقد أن ظهور مجلة نسائية في العراق من الكماليات، هؤلاء وأمثالهم معتادون على إطفاء الأرواح ولعلهم من بقايا الوائدين".
رغم عملها الرائد في الصحافة العراقية فإننا لا نعلم الكثير عن بولينا إلا كونها صحافية عراقية والدها من الموصل وأمها من الشام، وهي ابنة عم سليم حسون الصحافي العراقي البارز وصاحب جريدة "العالم العربي".
تضمّن العدد الأول من المجلة -48 صفحة- مساهماتٍ متعددة لشعراء عراقيين مثل كاظم الدجيلي، ومعروف الرصافي الذي كتب قصيدة جاء فيها "هي الأخلاق تنبت كالنبات.. إذا سُقيت بماء المكرمات"، فيما كتب جميل الزهاوي "ناديت ليلى من أصبح أن سلام عليك.. إني أوجهه وجهي قبل الجميع إليك".
بجانب هؤلاء كتب الدكتور جورج حيقاري مقالاً عن صحة المرأة الحامل، وكتب وزير المالية الراحل يوسف غنيمة عن الشاعرة العربية ليلى الأخيلية وغيرها من المقالات التي دارت في الفلك النسوي.
في الإصدارات اللاحقة، ناقشت المجلة قضية النهضة النسوية وكيفية تحقيقها في العراق. ونتيجة لهذه الدعوات افتُتح صالون نسوي عراقي بحضور زوجات نوري السعيد وزير الدفاع آنذاك وجعفر العسكري رئيس الوزراء وابنته بالإضافة إلى لبولينا حسون.
في الوقت نفسه، حرصت المجلة على تهدئة المخاوف التقليدية التي تربط بين أي حديث عن تحسين حياة النساء بالدعوة إلى التخلي عن الحجاب فذكرت بولينا في أحد مقالاتها "مهمة المجلة أعظم وأرفع من ذلك، إن غايتها هي لباب التمدن لا قشوره، ومطلبها الوحيد هو الرقي الحقيقي".
رغم ذلك فإن المجلة لم تخشَ انتقاد الأغلبية الذكورية المُسلطة على المجتمع منتقدة بعض السلوكيات التي كانت منتشرة بين رجال العراق وقتها مثل تناول الطعام أولاً على أن تأكل النساء ما تبقى منهم أو إطلاق بعض الرجال ألقاباً غير لائقة على زوجاتهن كمنحهن أسماء حيوانات.
أيضاً، طالبت بولينا عبر صفحات المجلة من المجلس التأسيسي العراقي الذي جرى انتخابه وقتها باتخاذ الإجراءات اللازمة لإنقاذ المرأة من "حضيض الجهل والجمود والخمول" بحسب تعبيرها.
في كتابهم الموسوعي "حضارة العراق"، اعتبر باحثون عراقيون أن هذا المقال أول صيحة تُطالب بالمزيد من الحقوق للنساء في دولة العراق الحديثة.
ودعت بولينا بالسماح للنساء العراقيات بدراسة الطب بسبب عادات المجتمع العراقي التي تفرض الحجاب على النساء وتمنعهن من الاختلاط بالرجال حتى لو كلّفهن ذلك عدم تلقي العلاج طالما كان الطبيب ذكرا.
هذه الدعوة استُجيب لها فعلاً بعدما التحقت ملك غانم بكلية الطب في بغداد لأول مرة عام 1927.
وخلال أزمة التنازع على "الموصل" بين الحكومة العراقية وتركيا، شنّت المجلة حملة عنيفة ردّت فيها على المزاعم التركية بأحقيتها في الموصل قائلة في أحد المقالات "العراقيات كالعراقيين متمسكات بإبقاء كل ذرة من ذرات الأراضي العائدة إلى العراق".
معارك لا تنتهي
بحسب خالد الراوي، رحّبت أغلب إصدارات الصحافة العراقية بمجلة ليلى وتواكبت مع هذا الحدث إيجاباً فغيّرت من خطابها الإعلامي وأكثرت من الاهتمام بالمرأة حتى أنها خصّصت صفحات من منشوراتها لعرض القضايا النسائية، لأول مرة.
بمرور الوقت أثار خطاب المجلة كثيراً من الجدل في المجتمع العراقي المحافظ، فشُنت حملات هجوم منتظمة ضد بولينا اتهمها فيها خصومها بأنها ليست صحافية إنما عملت سابقاً "ممرضة" و"صانعة برانيط" في مصر، وهي اتهامات لم يُقدموا أي دليل عليها.
شنّت جريدة "المفيد" لصاحبها إبراهيم حلمي العمر هجوماً حاداً على المجلة النسائية. ورد في أحد المقالات "عرفتُ صاحبة المجلة لا تُحسن كتابة خمسة أسطر من دون عشرات الأخطاء، فهي لا تكتب ولا تطيق الكتابة ولم يُسمع عنها أنها كتبت"، كما قال أحد الصحافيين إن "المجلة لا تحتوي إلا على كل تافه، لا تفيد الرجال والنساء".
هجوم ردّت عليه بولينا في مجلتها قائلة: "لا أكترث لتلك المطاعن، فمن شاء أن يُصدق فليصدق ومن شاء أن يكذّب فليكذّب. أما أنا فلا أهتم لما يقال، وضميري يشهد لي أني مشتغلة بحب وإخلاص في مشروعي".
في عام 1925 عيّنت وزارة المعارف (التربية) بولينا مديرة لمدرسة "بابا الشيخ" الابتدائية، الأمر الذي زاد من الجدل حول بولينا والمجلة، فنشرت جريدة "العراق" مقالاً لإحدى طالبات المدرسة جاء فيه "لا أعلم هل إصدار مجلة يمنح صاحبته الحق في أن تكون مديرة لمدرسة وهي لا تعلم ما يتطلب هذا المنصب من الجد والاجتهاد والعلم؟!"، ولم تنتهِ هذه الحملة إلا بإقالة بولينا من منصبها.
بسبب هذه المعركة الخاسرة، رفعت بولينا قضية ضد جريدة "العراق" وقضت لها المحكمة بإدانة صاحبها رزوق غانم بتهمة جريمة القذف وعاقبته بالحبس 20 يوماً وغرامة 1100 روبية.
العدد الأخير
بعد انتهاء السنة الثانية وصدور 20 عدداً من مجلة "ليلى"، كتبت بولينا مقالاً في جريدة "العالم العربي" أكدت فيه أن العدد الأول للسنة الثالثة من إصدارها النسائي سيصدر خلال شهر، وهو ما لم يحدث.
في كتابه، فسّر خالد الراوي هذا الانقطاع بقوله "الضغط الشديد والحملات التي جابهتها بولينا من قِبَل المتزمتين أو الصحافة دفعتها للعدول عن استكمال المجلة".
وفي كتابه "الخليج العربي: عربستان الأحواز في الوثائق البريطانية والفارسية"، كشف حامد الكناني سبباً آخر غير شائع لتوقف الجريدة وهو "أنها كانت تتلقى دعماً مالياً من الشيخ خزعل بن الكعبي أمير الأحواز الذي أُسر على يدي القوات الفارسية ونُقل إلى طهران حيث ظلَّ أسيراً 11 عاماً حتى قُتل في محبسه".
بحسب الكناني، فإن غياب الشيخ الكعبي حرم من بولينا من الظهير المالي الذي كانت تعتمد عليه لتمويل نفقات إصدار المجلة فاضطرت إلى التوقف عن النشر.
يضيف الراوي: "لم تكتفِ بولينا بذلك، إنما حزمت أمتعتها وغادرت العراق عائدة إلى فلسطين وخلّفت وراءها ذكرى امرأة عراقية باسلة استحقت أن يقال عنها إنها أول صحفية عراقية ورائدة في الحركة النسوية بالعراق"
بعد توقف مجلة ليلى، احتاج العراق إلى 10 سنوات كاملة لتظهر مجلة نسائية جديدة هي "المرأة الحديثة" التي ظهرت منها 8 أعداد فقط ثم توقفت في العام نفسه.
بعدها، ظهرت مجلة "فتاة العراق" وظلّت تصدر -بشكلٍ غير منتظم- حتى عام 1939.
ثم ظهرت مجلة "فتاة العرب" التي صدر منها 22 عدداً فقط ثم توقفت عام 1937.