الأميرة نازلي فاضل، مي زيادة، ومريانا مراش أسسن صالونات ثقافية في القرن الماضي
الأميرة نازلي فاضل، مي زيادة، ومريانا مراش أسسن صالونات ثقافية في القرن الماضي

عرفت الحضارة العربية الإسلامية ظاهرة المنتديات الثقافية الأدبية النسائية منذ فترة مبكرة. في هذا السياق، تحضر أسماء السيدة سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وولادة بنت المستكفي. وجميعهن من النساء اللاتي احتضنّ حراكاً فكرياً في مجتمعاتهن وقدّمن له الدعم والمساندة بصور مختلفة.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، عادت ظاهرة الصالونات الثقافية النسائية في العالم العربي إلى الواجهة مرة أخرى بعد طول غياب. ما هي أبرز تلك الصالونات؟ وما هي أهم القضايا التي نوقشت فيها؟ وكيف لعبت تلك الصالونات دوراً مهماً في النهضة العربية الحديثة؟

 

صالون الأميرة نازلي

ولدت الأميرة نازلي فاضل في سنة 1853م. وهي ابنة أخي الخديوي إسماعيل الذي تولى حكم مصر في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر. في طفولتها، هاجرت نازلي مع أبيها إلى تركيا بعدما أختلف مع أخيه. وبعد وفاة الأب، عادت نازلي إلى مصر مرة أخرى. وشاركت بشكل فعال في مختلف الأنشطة الثقافية والأدبية التي راجت في مصر في تلك الفترة. وساعدها في ذلك إتقانها لأربع لغات وهي الفرنسية، والإنجليزية، والعربية، والتركية.

اشتهرت نازلي بسبب صالونها الثقافي الذي يُعدّ أحد أقدم الصالونات الثقافية التي عرفتها المنطقة العربية. عُقد هذا الصالون في منزل الأميرة نازلي، والذي كان يقع خلف قصر عابدين في القاهرة. بشكل عام، ضم الصالون عدداً كبيراً من المثقفين المصريين الأكثر بروزاً في أواخر القرن التاسع عشر. ومن أهمهم كل من الإمام محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ومحمد المويلحي. رغم ذلك يمكن القول إن: الصالون اتصف بالطابع الأرستقراطي إلى حد بعيد.

شهدت جلسات الصالون نقاشات معمقة في القضايا السياسية والفكرية الأكثر إلحاحاً. على سبيل المثال، نوقشت أفكار المستشرقين الأوروبيين حول الإسلام في الصالون. وكذلك أُثيرت الأفكار الخاصة بالنهضة والتحديث وحقوق المرأة والمساواة بين الجنسين. في هذا السياق، برزت أفكار قاسم أمين التي ناقشها مراراً في صالون نازلي. وهي الأفكار التي دعمتها الأميرة فطبعت كتاب أمين الأشهر "تحرير المرأة" على نفقتها وتحت رعايتها.

 

صالون مي زيادة

في سنة 1886م، ولدت ماري إلياس زيادة في الناصرة بفلسطين من أب لبناني وأم فلسطينية.  اختارت لنفسها اسم مي فيما بعد. بدأت تعليمها في الناصرة، وفي المرحلة الجامعية انتقلت إلى مصر لتدرس في كلية الآداب في القاهرة. وعُرفت في السنوات اللاحقة باعتبارها واحدة من أهم الناشطات النسويات اللاتي دافعن عن حقوق المرأة. كما اشتهرت في الوقت ذاته بسبب عملها الصحفي والحقوقي.

في سنة 1913م، انعقد صالون مي زيادة للمرة الأولى في القاهرة. واعتادت مي أن تقيم صالونها الادبي في يوم الثلاثاء من كل أسبوع لمدة تزيد عن عشرين عاماً متواصلة. شهد الصالون حضوراً مميزاً من قِبل العديد من المفكرين المصريين والعرب. ومنهم إسماعيل صبري، أحمد لطفي السيد، رشيد رضا، مصطفى عبد الرازق، الأمير مصطفى الشهابي، يعقوب صروف، شبلي شميل، سلامة موسى، أحمد شوقي، خليل مطران، عباس محمود العقاد، مصطفى صادق الرافعي.

بشكل عام، شهد الصالون العديد من النقاشات المثمرة في مجالات الأدب والفكر والشعر والسياسة. وحظي بإشادة المثقفين والشعراء. في هذا السياق وصفه عميد الأدب العربي طه حسين بأنه "كانَ صالوناً ديمقراطياً مفتوحاً، وقد ظَللتُ أتردد عَليه أيّام الثلاثاء إلى أن سافرتُ إلى أوروبا لِمُتابعة الدِّراسة، وأعجَبني مِنهُ اتِّساعَه لِمذاهب القَول وأشتاتِ الكلام وفُنون الأدب، وأعجَبَني مِنهُ أنّه مَكان لِلحديثِ بِكل لسان، ومُنتدى لِلكلام في كُل عِلم"، وذلك بحسب ما يذكر خليل البيطار في كتابه "مي زيادة... ياسمينة النهضة والحرية".

 

صالون مريانا مراش

ولدت الكاتبة والشاعرة السورية مريانا مراش في مدينة حلب في العام 1848م. وتمكنت في صغرها من الإلمام بقواعد اللغة العربية واللغة الفرنسية. كما مكّنها ثراء أسرتها من الاطلاع على الكثير من الآداب الأجنبية التي لم تكن مُتاحة للنساء العربيات في ذلك العصر. ودعت لتحرير المرأة من قيود العرف والعادات الاجتماعية.

من جهة أخرى، تأثرت مراش كثيراً بالصالونات الأدبية النسائية التي حضرتها خلال زيارتها للعاصمة الفرنسية باريس. حاولت مراش أن تنقل تلك التجربة المميزة إلى سوريا، فافتتحت صالونها الأدبي في منزلها بحلب. عُدّ هذا الصالون ملتقى ثقافياً اجتمع فيه كبار السياسيين والكتاب والأدباء والمفكرين. كما اضطلع بدور مهم في النهضة الفكرية بسوريا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

من أشهر المشاركين في هذا الصالون جميل باشا الوالي العثماني، وإيفانوف القنصل الروسي في حلب، والشاعر والناقد قسطاكي الحمصي، والشاعر جبرائيل دلال، ورزق الله حسون صاحب جريدة مرآة الأحوال أول جريدة عربية في إسطنبول، وحسني باقي زادة، وعبد الرحمن الكواكبي، وكامل الغزي. بشكل عام، اعتادت مراش أن تثير النقاش في صالونها حول القضايا الأدبية والاجتماعية والفكرية، كما شهد الصالون إلقاء القصائد وعزف الموسيقى والغناء. في كتابه "الأدب العربي المعاصر في سورية" تحدث الأديب السوري سامي الكيالي عن مراش وصالونها فقال: "عاشت مريانا حياتها في جو من النعم والألم، عاشت مع الأدباء والشعراء ورجال الفن، وقرأت ما كتبه الأدباء الفرنسيون وأدباء العرب فتكونت لديها ثقافة تجمع بين القديم والحديث".

صورة أمين الريحاني وكتابه "قلب العراق رحلات وتاريخ"- ارفع صوتك
"فيها كل المتناقضات المدهشات".. بغداد في رحلات الأديب أمين الريحاني
زيارتا الريحاني إلى العراق نتج عنهما كتابان دوّنهما الريحاني عن العراق وأحواله، الأول ضمن موسوعته الشهيرة "ملوك العرب" وهو عبارة عن "بورتريه" للملك فيصل الأول. والثاني حمل عنوان "قلب العراق رحلات وتاريخ" وقد وضعه بعد زيارته الثانية وفيه تفاصيل ومشاهدات مهمة لمن يريد دراسة تاريخ العراق وتطور نهضته بعيون مفكّر نقدي وأديب يجيد الوصف.

صالون صبيحة الشيخ داود

ولدت صبيحة الشيخ داود في بغداد سنة 1912م. كان والدها الشيخ أحمد الداود عضواً في البرلمان العراقي، ووزيراً للأوقاف في العهد الملكي. بينما عُرفت والدتها بنشاطها في "جمعية النهضة النسائية".

درست داود في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية في بغداد. وفي سنة 1936م التحقت بكلية الحقوق، وتخرجت منها في سنة 1940م. لتصبح أول امرأة عراقية تتخرج من كلية الحقوق. الأمر الذي مثّل إحدى المحطات المهمة في تاريخ الحركة النسائية في بلاد الرافدين. يذكر الباحث فرقان فيصل جدعان في دراسته "صبيحة الشيخ داود رائدة النهضة النسائية في تاريخ العراق المعاصر" أن داود مارست مهنة المحاماة لفترة. ثم عُينت مفتشاً في وزارة المعارف.  وفي سنة 1956م، تم تعيينها كقاضية في محاكم بغداد. وأضحت بذلك أول امرأة تتولى هذا المنصب في جميع الدول العربية.

من جهة أخرى، اشتهرت داود بصالونها الأدبي الذي اعتادت أن تعقده يوم الخميس من كل أسبوع في منزلها المُطل على نهر دجلة في بغداد. وكانت بذلك أول امرأة عراقية تعقد صالوناً أدبياً في العراق. ضم الصالون حضوراً مميزاً من مختلف الطبقات الثقافية والفكرية في المجتمع العراقي. ففي مجال الصحافة كان هناك نعمان العاني صاحب جريدة العرب، وتوفيق السمعاني صاحب جريدة الزمان، وصبيح الغافقي صاحب جريدة الحارس. وفي مجال السياسة ضم الصالون خليل مردم، وكاظم الصلح، ووصفي التل، واعبد الهادي التازي، ومحمد الناصري وهشام خليل.

في كتابه "هكذا عرفتهم" ألقى الأديب العراقي جعفر الخليلي الضوء على الأحداث المتعددة التي شهدها صالون صبيحة الشيخ داود على مدار السنوات المتعاقبة. فبيّن أن جلسات الصالون جمعت في أغلب الأحيان بين أهم الشخصيات العراقية على اختلاف أفكارهم ورؤاهم السياسية. كما أن أخبار الصالون كانت تُنقل إلى العامة بشكل منتظم عبر صفحات جريدتي "الحارس"، "والزمان"، ما يفسّر الشعبية الكبيرة للصالون بين جموع العراقيين. كذلك أوضح الخليلي بعض جوانب المناقشات الحامية التي دارت بين المشاركين. ومن ذلك الخلاف حول تعديل قانون الأحوال الشخصية العراقي والسؤال حول أحقية المرأة بالحصول على الطلاق بنفسها دون الرجوع للزوج.

 

صالون ماري عجمي

ولدت ماري عجمي في العاصمة السورية دمشق في سنة 1888م ودرست في المدرسة الإيرلندية ثم المدرسة الروسية وبعدها سافرت إلى بيروت لتدرس التمريض في الجامعة الأميركية. لكنها لم تكمل دراستها، وقررت السفر لزيارة مصر والعراق وفلسطين. وفي تلك الرحلة تأثرت بالحراك النسوي الثقافي الذي شهدته بعض العواصم العربية في تلك الفترة.

بعدها، عادت عجمي إلى سوريا، وفي سنة 1910م، أصدرت مجلة "العروس". وكانت تهدف على حد قولها إلى "تحرير المرأة من قيودها والرجل من جموده". في سنة 1926م، توقفت عجمي عن إصدار المجلة احتجاجاً على العدوان الفرنسي على دمشق. وفي هذا الوقت قررت الأديبة السورية أن تشارك في التجمعات الأدبية الثقافية، فأسست النادي الأدبي النسائي في دمشق. كما فتحت منزلها في حي باب توما أمام الأدباء والمثقفين بهدف تأسيس صالون أدبي فكري يناقش أهم الاحداث التي مرت بها سوريا في تلك الفترة العصيبة.

بشكل عام، حظي صالون عجمي باهتمام النخبة السورية. وحافظ على انعقاده يومي السبت والثلاثاء من كل اسبوع حتى مطلع ثلاثينيات القرن العشرين. يذكر الباحث السوري محمد عيد الخربوطلي في دراسته "الصالونات النسائية الأدبية ودورها في نهضة المجتمع" أن العديد من المفكرين البارزين قد شاركوا في فعاليات الصالون. من هؤلاء كل من خليل مردم بيك واحمد شاكر الكرمي، وفخري البارودي، وحبيب كحالة وشفيق جبري. بحسب الخربوطلي كان هؤلاء المفكرون يتناقشون لساعات في قضايا الأدب والنقد، وكانت هناك بعض الفقرات الفنية والموسيقية التي تتخلل هذا النقاش من وقت إلى آخر.

صالون سكينة

ولدت ثريا الحافظ في دمشق في سنة 1911م. لأسرة معروفة بنشاطها السياسي.  ودرست في دار المعلمات قبل أن توجه عزمها للمشاركة في العمل الخيري والتوعوي في سوريا. أسست الحافظ جمعية "دار كفالة الفتاة"، وجمعية "يقظة المرأة الشامية"، و"دوحة الأدب".

في سنة 1953م، دشّنت الحافظ على أهم مشاريعها الأدبية عندما أسست "صالون سكينة الأدبي". أخذ الصالون اسمه من السيدة سكينة بنت الحسين. وكان يُعقد في الطابق الأرضي من منزل الحافظ الكائن في حي المزرعة بدمشق مرة كل أسبوعين. ومن اللافت للنظر أن جميع أعضاء الهيئة الإدارية للصالون كن من السيدات فحسب.

يشير الكاتب عيسى فتوح إلى الدور المهم الذي لعبه الصالون في إثراء الحياة الثقافية في سوريا. فيقول في دراسته "ثريا الحافظ مؤسسة منتدى سكينة الأدبي بدمشق": "لا أستطيع هنا إحصاء عدد كل من تحدثوا فيه -أي الصالون- من أدباء وأديبات سورية والأقطار العربية الشقيقة، فلا يمكنني أن أغفل أسماء الأديبات والشاعرات اللواتي كن يتحدثن فيه بشكل دوري في السابع عشر من كل شهر منذ تأسيسه حتى توقفه....". يتطرق فتوح كذلك لتعدد الانشطة التي شهدها الصالون فيكتب: "لم يقتصر نشاط منتدى سكينة على إقامة الندوات الأدبية والفكرية، وإحياء الأمسيات الشعرية والفنية، والدبكات الشعبية... بل كان يهتم أيضاً بالمناسبات الوطنية والقومية...".

بعد عشر سنوات من تأسيسه، أمرت السلطات السورية بإيقاف جميع أنشطة الصالون. فاضطرت الحافظ وقتها للانتقال إلى مصر. واستأنفت أنشطتها الأدبية في منزلها الجديد في القاهرة. يتحدث فتوح عن طبيعة تلك الفترة، فيقول: "كان يلتقي في منتدى سكينة الأدبي في القاهرة شعراء وأدباء من مصر وسورية، والعراق والجزائر وفلسطين ... في جو مشبع بالحرية والديمقراطية والروح الأخوية والانسجام...". حظي الصالون بإشادة العديد من الشعراء والأدباء. على سبيل المثال، امتدحه الشاعر صقر بن سلطان القاسمي في إحدى قصائده، فقال:

إيه يا منتدى سكينة مني... لكَ أن أبقى في حماكَ صديقاً

فاهد مني تحيةً لثريا... وانشر الورد زاكياً وصديقاً

المزيد من المقالات:

مواضيع ذات صلة:

من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية
من تظاهرة احتجاجية في العاصمة العراقية بغداد حول تعديلات مقترحة على قانون الأحوال الشخصية- تعبيرية

 في مكتبها وسط العاصمة العراقية بغداد، تجتمع المحامية مروة عبد الرضا مع موكلها الشاب العشريني وزوجته (ابنة خالته)، اللذين يسعيان لتوثيق زواجهما المنعقد خارج المحكمة لصغر سن الزوجة (13 عاما)، وهي طالبة في السادس الابتدائي بمنطقة المدائن على أطراف العاصمة بغداد.

تقول عبد الرضا لـ"ارفع صوتك": "لا يمكن الحديث عن الزواج المبكر من دون أن يتم ربطه بشكل مباشر بالزواج خارج المحاكم لأنهما مرتبطان ببعضهما البعض".

بعد اكتشاف حمل الفتاة، قررت العائلة توكيل محام لتقديم طلب توثيق العقد. تضيف عبد الرضا "الإجراءات الحكومية بسيطة وغير معقدة في مثل هذه الحالات، فالقاضي يجد نفسه أمام الأمر الواقع بسبب حمل الفتاة، فيتم تصديق العقد وفرض غرامة أقصاها 250 ألف دينار على الزوج (نحو 150 دولاراً)".

الزيجة التي تشير إليها المحامية "ليست الأولى ولن تكون الأخيرة" على حدّ تعبيرها، "بل هي حالة اجتماعية متوارثة لاعتقاد سائد أن الرجل يرتبط بفتاة صغيرة ليقوم بتربيتها على ما يحب ويكره، لكن النتيجة كثيرا ما تكون سلبية بحسب القضايا التي تشغل أروقة المحاكم ونراها بشكل يومي. فالفتاة التي تتزوج بعمر الطفولة غير قادرة على استيعاب العلاقة الزوجية، وفي كثير من الحالات يكون الأمر أشبه بالاغتصاب".

تتحدث عبد الرضا عن ارتفاع كبير بنسب الطلاق في المحاكم العراقية: "كثير منها يكون نتيجة الزواج المبكر وتدخّل الأهل بسبب صغر أعمار الطرفين وهو ما يؤثر بشكل كبير على العلاقة الزوجية".

وتشير إلى أنه كثيرا ما يتم التزويج "لعدم وجود فتيات في منزل العائلة للرعاية والعمل المنزلي، فيكون مطلوب منها القيام بأعمال الكبار وهي بعمر الطفولة، وهذا أكبر من قدرة أي فتاة صغيرة".

ما تكشف عنه عبد الرضا تؤيده إحصاءات مجلس القضاء الأعلى، ففي شهر يوليو الماضي كان هناك 2760 عقد زواج خارج المحكمة، و1782 حالة طلاق خارج المحاكم و4562 حالة بتّ فيها، بعد رفع دعاوى قضائية.

وينقل المجلس الأعلى في أحد تقاريره عن القاضي عماد عبد الله قوله إن المحاكم العراقية "شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في حالات الطلاق. وأهم الأسباب ترجع إلى حالات الزواج المبكر التي تفتقر لمتابعة الأهل، وعدم توفر الاستقرار المالي الذي يسمح بإنشاء أسرة بالإضافة إلى التأثر بالسوشيال ميديا".

A woman holds up a sign reading in Arabic "the marriage of minors is a crime in the name of safeguarding (honour)", during a…
"خارج السرب".. رجال دين يعارضون تعديلات "الأحوال الشخصية"
مع أن طرح التعديلات على قانون الأحوال الشخصية العراقي لعام 1959، يحظى بدعم كبير من غالبية رجال الدين الشيعة والسنة في العراق، إلا أن بعض رجال الدين من الطائفتين، غردّوا خارج السرب وسجّلوا مواقف معارضة للتعديلات على القانون.

تداعيات الزواج خارج المحاكم

تتحدث شابة فضّلت عدم الكشف عن اسمها لـ"ارفع صوتك" عن سنوات طويلة حُرمت فيها من أبسط حقوقها، فلم تتعلم القراءة والكتابة، ولم تنل رعاية صحية لائقة، فقط لأن زواج أمها المبكر وإنجابها لها وهي في عمر صغير، جعلها من دون أوراق ثبوتية.

"تزوجت والدتي بعقد خارج المحكمة بعمر صغير، وانفصلت بعد أشهر قليلة عن والدي لعدم انسجامهما معاً، لتكتشف حملها بي"، تروي الشابة.

وضعت الأم حملها وتزوجت مرة ثانية، ورزقت بالمزيد من الذرية. تبين: "لم يتم إصدار أوراق ثبوتية لي، فحُرمت من التعليم ومن الرعاية الصحية، وكنت أحياناً استعين ببطاقة شقيقتي الأصغر للحصول على العلاج في المستشفيات".

توفيت والدتها التي قابلناها لصالح تقرير سابق قبل ثلاث سنوات، وفي أوائل العام الحالي وهي بعمر 23 عاماً تزوجت الشابة بعقد خارج المحكمة، واليوم تسعى لاستخراج هوية الأحوال المدنية لتوثيق زواجها "لا أريد أن تتكرر مأساتي مع أطفالي أيضاً".

من جهته، يقول المحامي خالد الأسدي لـ"ارفع صوتك" إن قضايا الزواج والطلاق خارج المحكمة في أغلبها تكون "بسبب صغر عمر الزوجة أو للزواج الثاني، كون القضاء يطلب موافقة الزوجة الأولى، ونتيجة لذلك أصبح لدينا جيش صغير من الأطفال غير الموثقين رسمياً والمحرومين من أبسط الحقوق".

الزواج المبكر كما يشرح الأسدي "لا يقتصر على الإناث فقط بل يشمل الذكور أيضاً، فقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 اعتبر سن الثامنة عشرة هو سن الأهلية القانونية لإجراء عقد الزواج".

القانون ذاته وضع استثناءات، يفنّدها الأسدي "فقد منح القاضي صلاحيات تزويج من أكمل الخامسة عشرة من العمر وقدم طلباً بالزواج، وفق شروط تتعلق بالأهلية والقابلية البدنية التي تتحقق بتقارير طبية وموافقة ولي الأمر". 

ستابع الأسدي "هذا الاستثناء لا يشجع زواج القاصرين قدر تعلق الأمر بمعالجة حالة اجتماعية بطريقة قانونية تتيح فيه القرار للسلطة القضائية".

مع ذلك، فما كان مقبولاً في الفترة التي تم تشريع القانون بها، لم يعد مقبولاً في الوقت الحالي؛ كون المسالة تتعلق برؤية اجتماعية جديدة فيها جوانب اقتصادية وتغيرات اجتماعية كبيرة شهدها العراق خلال العقود الستة الأخيرة، بحسب الأسدي.

 

قصص

لم تكن أم علي تتجاوز 14 عاماً حين تم تزويجها إلى ابن عمها، كان ذلك أواخر تسعينيات القرن الماضي. واليوم تواجه "مشكلة"، إذ تم الاتفاق - دون رغبة الأم- على تزويج ابنتها البالغة من العُمر 14 سنة.

عدم رغبة الأم هي نتيجة مباشرة لما تعرضت له خلال رحلة زواجها الطويلة. تقول أم علي لـ"ارفع صوتك": "صحيح أنني أمتلك عائلة وأبناء وبنات أصبح بعضهم بعمر الزواج. لكن، لا أحد يتحدث عن مرارة الرحلة".

وتوضح "أنا وزوجي كنا بعمر متقارب ومن عائلتين فقيرتين. بعد زواجي بشهر واحد حملت بطفلي الأول.. كنا مجرد طفلين نعتمد على مصروف يوفره والده، أو أعمال متقطعة في مجال البناء، ولم يأت الاستقرار إلا بعد عشر سنوات حين تطوع في الجيش، وأصبح لديه راتب ثابت وبات قادراً على الإنفاق".

على الرغم من عدم رغبتها بخضوع ابنتها للتجربة ذاتها، تقول أم علي "التقاليد والأعراف لا تسمح لنا بذلك، لا أريد لابنتي أن تواجه المصير ذاته ولكن ليس بيدي حيلة وليس لنا رأي".

على عكس حكايتها، تقول أم نور  إن أحداً لم يجبرها على الزواج حين كانت بعمر السادسة عشرة، مردفة "كل فكرتي عن الزواج كانت ترتبط برغبتي بارتداء فستان أبيض، وأن الجميع سيرقصون من حولي، لكن سرعان ما اكتشفت أنّي لم أكن مؤهلة لتكوين عائلة".

في العراق كما تشرح أم نور وهي على أعتاب الستين " كثيراً ما يكون الزواج مبكراً، ودون أن تكون هناك فكرة حقيقية عن المسؤولية ومدى قدرتنا على تحملها، أو تربية أطفال والتعامل مع بيئة جديدة مختلفة عن التي تربينا فيها بعد الانتقال إلى منزل الزوجية".

أفكار نمطية                       

الموروث الثقافي كما يرى أستاذ الاجتماع رؤوف رحمان يلعب دوراً كبيراً فيما يتعلق بالزواج المبكر للإناث والذكور بشكل عام في العراق.

يقول لـ"ارفع صوتك" إن البيئة العراقي التقليدية "تربّي الفتاة على أنها غير مؤهلة لإدارة شؤونها، فيكون مصيرها مرهوناً بقرار العائلة التي تفضّل تزويجها مبكرا لأنها مرغوبة اجتماعياً ومطلوبة للزواج ما دامت صغيرة في السن، وتقل حظوظها كلما تقدمت في العُمر".

في حالات كثيرة يذكرها رحمان "تسعى الفتيات للارتباط حين تفتقد الأسرة إلى الانسجام، أو للتخلص من العنف الأسري والفقر، خصوصاً ضمن العائلات الممتدة والريفية أو في أحيان أخرى للحصول على مهرها".

ويرى أن الزواج المبكر في العراق يرتبط أيضاً "بالعنف والصراعات والحروب المستمرة، فعدم الاستقرار الأمني يدفع العوائل لتزويج الفتيات بعمر مبكر للتخلص من مسؤوليتهن".

أما في ما يتعلق بالزواج المبكر للذكور، فيشير رحمان إلى وجود "فكرة خاطئة مفادها أن تزويج الذكر بعمر صغير يقيه من الانحراف أو الوقوع في المشاكل عندما يكون مسؤولاً عن زوجة وأطفال بعمر مبكر".

كل هذه التقاليد والأعراف النمطية المتوارثة تشكّل بحسب رحمن "مواطن الخلل في المجتمع، فنحن اليوم بحاجة إلى ثقافة مختلفة تماماً، في زمن تغيرت طبيعة الحياة فيه من ريفية بسيطة إلى مدنية معقدة، غزتها وسائل التواصل وغيرت الكثير من أساليب العيش وسط أزمة اقتصادية خانقة وزيادة مرعبة بأعداد السكان".

جزء من الحل كما ترى المحامية مروة عبد الرضا، يكمن في "تثقيف الشباب من الإناث والذكور عن الحياة الزوجية والمسؤولية المترتبة عن إنشاء أسرة عبر دروس ضمن مناهج وزارة التربية، ومحاضرات من الباحثين الاجتماعيين ضمن المحاكم العراقية قبل عقد القران، لتأهيل وتوعية المقدمين على الزواج".