من بين مصطلحات دينية كثيرة، لا تزال "الحاكمية" و"الولاء والبراء" من أخطر التأصيلات الفكرية للتكفير وأكثرها إثارة للجدل.
ويقصد بـ"الحاكمية" فقهيا "إفراد الله وحده في الحكم والتشريع"، استنادا إلى فهم معين لآيات قرآنية عدة. من بينها "إن الحكم إلا لله" (يوسف: 40)، و"ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" (المائدة: 44) .
أما "الولاء والبراء"، فيعني "حب المسلمين وموالاتهم" وبغض غيرهم والتبرأ منهم.
استخدمت التيارات الإسلامية المتشددة هذين المبدأين في تأصيل موقفها من الحكم ومؤسسات الدولة، والدستور، والتشريع والديمقراطية والانتخابات، والمواطنة المتساوية والتعايش المشترك والعلاقات الدولية.
واستنادا إلى هذا التأصيل المتطرف، تعتبر الأنظمة في البلدان الإسلامية أنظمة "كافرة" وأراضيها "دار حرب وجهاد" في أيديولوجيا الجماعات الإرهابية.
دار الحرب واقعا!
ساهمت التطورات السياسية والاجتماعية والأمنية التي عرفتها بعض البلدان العربية بعد "الربيع العربي" (2011) في تنامي الحركات والجماعات الجهادية، حسبما يذكر الباحث سهل الحبيب في دراسة بحثية بعنوان "الجهاد ضد الوطن".
يقول سهل الحبيب في الدراسة التي أصدرتها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود": "أصبحت دار الحرب واقعا سوسيولوجيا في تلك البلدان”.
ويؤكد بأن فكرة الحاكمية التي نقلها سيد قطب عن أبي الأعلى المودودي مثلت الخلفية الصلبة التي تأسست عليها -وما تزال- فريضة "الجهاد" لدى الحركات الإرهابية الإسلامية المعاصرة، باعتبارها "فريضة لتكريس التوحيد/الحاكمية".
ويعد الداعية الإسلامي الباكستاني أبو الأعلى المودودي والمنظر الجهادي المصري سيد قطب من أبرز الأسماء الحاضرة في أدبيات الجماعات الإسلامية المتطرفة.
ومع ذلك، يذهب المؤرخون للقول بأن من يطلق عليهم في التراث الإسلامي بـ“الخوارج” هم أول من طرح مفهوم الحاكمية، اعتراضا على واقعة التحكيم الشهيرة بين الصحابيين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان عقب معركة صفين (37 هجرية).
وكفر هؤلاء كل من ارتضى التحكيم البشري في قضية سياسية، قائلين: "لا حكم إلا لله".
ملابسات هندية
رغم أن هذا الشعار طوي لقرون طويلة، إلا أنه بعث مجددا على يد أبي الأعلى المودودي (1903-1979) وسيد قطب (1906-1966).
لكن محمد عمارة، وهو مفكر إسلامي مصري، يرى أن استدعاء المودودي لفكرة الحاكمية من تراث "الخوارج" جاء لـ"ملابسات" هندية خاصة.
يقول عمارة: "كان (المودودي) يريد أن يقول للإنجليز -في الهند- ليس لكم صلة بالحكم. الحكم للإسلام. فجاء بعض الناس ونقلوا هذا إلينا دون أن يعرفوا الملابسات التي أحاطت بالكلمة هناك”، في إشارة إلى سيد قطب في كتابه "معالم في الطريق".
ومنذ سيد قطب، استغلت الجماعات المتطرفة هذا المصطلح لتبرير تكفير الأنظمة الحاكمة في الدول الإسلامية، "بدعوى أنه لا حكم إلا لله وأنه يجب تطبيق شرع الله في الأرض"، حسب مرصد الأزهر.
أوامر الله!
استندت الجماعات الإرهابية المعاصرة إلى مؤلفات عديدة أخرى بعد المودودي وسيد قطب، ظهرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
من أهما "رسالة الإيمان" لصالح سرية، وكتاب "ملة إبراهيم" لأبي محمد المقدسي، “والفريضة الغائبة” لمحمد عبدالسلام فرج.. إلخ.
في كتابه “الجهاد.. الفريضة الغائبة”، يقول محمد فرج، الذي أعدم سنة 1982 بتهمة المشاركة في قتل الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، إن إقامة الدولة الإسلامية "أمر من أوامر الله جلا وعلا... وواجب على كل مسلم أن يبذل قصارى جهدة لتنفيذه”.
ويرى فرج أن ذلك لن يتم إلا بالجهاد ضد "حكام هذا العصر" الذين وصفهم بالمرتدين عن الإسلام.
بدوره، يعتبر أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، أن "المعركة" بين الجماعات الجهادية والأنظمة تدور على "هذا الركن الركين من عقيدة الإسلام: لمن حق الحكم والتشريع؟”.
أما سيد إمام، وهو من أبرز القياديين السابقين للحركات الجهادية، فيعتقد أن "مسائل التشريع والحكم والتحاكم.. داخلة في أصل الإيمان وصلب التوحيد”، بمعنى أنها تؤدي إلى الكفر أو الإيمان.
ويعتبر سيد إمام النظام في مصر كافرا منذ وصول محمد علي إلى السلطة في بداية القرن 19، بسبب اعتماده على القوانين الغربية.
وفي إحدى خطبه الصوتية، كفر أبو محمد العدناني، المتحدث باسم تنظيم داعش سابقا، جميع الأنظمة لأنها تحكم بالقوانين الوضعية، "ولا فرق بين مبارك ومرسي والغنوشي..."، على حد تعبيره.
ويقول الباحث سهل الحبيب، بأن الخطاب الأيديولوجي المنظر لهذه الحركات خلال السنوات القليلة الماضية لم يكتف باستثمار فكرة الحاكمية واستغلالها لـ"تكفير المسلمين والمجتمعات الإسلامية المعاصرة"، بل أضاف إليها فتوى تقول بتقديم "جهاد الكافر المرتد" الذي يمثل "العدو القريب" على "جهاد الكافر الأصلي" الذي يمثل "العدو البعيد".
أنت تواليهم.. إذن أنت منهم!
يمثل مفهوم الموالاة أو الولاء والبراء حجر الزاوية الثاني الذي تعتمد عليه الجماعات الجهادية في تكفير الأنظمة في الدول الإسلامية.
وتتخذ هذه الجماعات موقفا مبدئيا من غير المسلم، هو البراءة منه ومعاداته ورفض التعاون معه. وتعتبر من لم يلتزم بهذه المبادئ من المسلمين كافرا بدوره.
وعلى هذا الأساس، يقسم أبو مصعب السوري، وهو من أبرز منظري الجماعات الجهادية، العالم إلى "أهل الإيمان" و "أهل الكفر".
ويعتبر السوري البراءة من "الكافرين" قضية أساسية مرتبطة بأصل التوحيد، "يبنى عليها الإيمان أو الكفر".
وبما أن الحكام في الدول الإسلامية عقدوا تحالفات مع دول غربية، ورفضوا تحكيم الشريعة، فإنهم يكونون وفق هذا المبدأ "فقدوا شرعيتهم بكفرهم وردتهم وخروجهم من ملتنا".
وهكذا يصل أبو مصعب السوري إلى أن البلدان الإسلامية اليوم كافرة، حتى لو "كان عموم أهلها مسلمين".
أما الدول الإسلامية، في رأيه، فلا تتعدى أفغانستان خلال سيطرة حكومة طالبان عليها.
الباحث سهل الحبيب يعلق بأن البنية الأيديولوجية التي استندت إليها الحركات الجهادية الراهنة مكنتها بأن "تصنع أناسا متشبعين عقديا وأيديولوجيا بروح معاداة بلدانهم، ومنفصلين نفسيا ووجدانيا عن مجتمعاتهم الوطنية".