يرتبط شهر رمضان في ذهني بجدّتي التي كانت تجمع العائلة كلّها حول سفرتها، بينما تبقى هي في سريرها في غرفة الجلوس. جدّتي كانت مقعدة. دهستها شاحنة كبيرة أثناء عبورها أمامها بينما كانت آتية من طرابلس إلى بيروت لكي تشتري بعض البضائع لمحل الألبسة الخاص بها. حدث ذلك في بداية التسعينيات. لا أعرف متى تحديداً. هرب السائق وتركها وحدها في الطريق ولم نعرف هويته يوماً.
في البداية، كان يمكنها المشي وهي تستند إلى الـWalker (المشاية). كنت تتنقل في أرجاء المنزل من الصالة إلى الشرفة والحمام وطبعاً المطبخ حيث أمضت معظم أوقاتها.
لا شيء كطعام جدّتي. لا شيء كرائحة السمن البلدي الذي كانت تصنعه في المنزل، ولا كطعم "الكوسى بلبن" الذي كانت تطبخه في وعاء ضخم أشبه بذلك الذي يستخدمونه في معسكرات الجيش.
لا شيء كصلابة امرأة مقعدة أمضت أكثر من عشر سنوات في سريرها، بعد أن فقدت قدرتها على المشي حتى بمساعدة الـWalker، وهي تجمع الأسرة من أبناء وأحفاد وأقرباء في رمضان. تحضّر أشهى أنواع الأكلات وأكثرها دسامة وتكتفي هي بعد يوم صومٍ طويل بالقليل من الهندباء أو السلطة أو كل ما من شأنه أن يطري معدتها ولا يصيبها بعسر هضم، قد يزيد من سوئه عدم مقدرتها على الحركة.
جدّتي كانت تصوم. لم يكن المرض حجّة بالنسبة إليها لكي لا تقوم بذلك. كانت تصوم بصمت، من دون "نق". لم يكن ذلك أمراً مبهراً بالنسبة لي وأنا طفلة، ولكن حين أفكّر بجدّتي الآن، يبدو كل شيء حولها مبهرا، حتّى نوبات غضبها القليلة أو البكاء الذي كان يخرج أحياناً منها لشدّة القهر ولم أكن أفهمه حينها.
أكثر ما يبهرني الآن هو تلك القدرة الهائلة التي تمتّعت بها على الحب والعطاء، رغم أن الحياة تركتها طريحة الفراش. كانت تشاهد البرامج السياسية كلّ يوم ونشرات الأخبار. وحين تنتهي نشرة الثامنة مساء على قناة LBC، تنادي لنا بأعلى صوتها كي نسرع ونقرأ لها كاريكاتور بيار صادق. كانت جدّتي أميّة، لكنها فاقت بحكمتها وخلاصة تجربتها بالحياة معرفة آلاف المتعلمين.
من موقعها في سريرها، كانت صديقة اللّحام وبائع الخضار وصاحب الدكان، كما لو أنّها تحفظ بضائعهم التي لم ترها منذ سنوات. كانت تعطينا نحن أحفادها الإرشادات حين نذهب لنشتري لها الخضار حول كيفية اختيار الباذنجان والكوسى ومدى استواء الموز والتفاح وكيفية اختيار البقدونس والطماطم وحتى البطاطا التي كانت تصرّ أن تكون خالية من أي لونٍ مائل للزرقة فيها لأنّ "البطاطا المزرقة" كما تقول قد تسبب الإصابة بالسرطان.
لم تكن عائلتنا متديّنة، أقلّه ليس التديّن بمعنى الالتزام بالصلاة والحجاب، ولكن الصوم كان ضرورياً للجميع. قرأت القرآن، ولكن لم أقرأ يوماً سيراً للأنبياء ولا تعمّقت في الصراعات الإسلامية ولا أردت أن أعرف قصة الخلاف السنّي الشيعي حتّى كبرت وصار عيباً ألا أكون مطّلعة عليها. وربما لأنّي بقيت بعيدة نوعاً ما عن الدين، كان الإيمان بالنسبة لي ضرورة للتمسّك بالأمل، أو مندفعاً، حتى في لحظات ترددي به، من رغبتي بأن يكون هناك إله ونهاية سعيدة.
كان الوهم بأنّه يسمعني وأنا أنعصر حرقةً ليلاً في أشدّ حاجتي للتمسّك بشخصٍ سيكون هو من ينصفني. والآن أشعر أنّ علاقتي مع الله آنذاك كانت مبنية على رغبتي بأن يميّزني، كأنها آتية من أنانية مفرطة، بأن ينصرني أنا على الآخرين، أن يأتي لي بحقي منهم، أن يدافع عمّا لا أستطيع أنا الدفاع عنه، ليس لأنّي لم أحاول، بل من شدّة ما حاولت ولوصولي لقناعةٍ ربما تكون سيئة بأنّنا يجب أن نأخذ الأمور كما تأتي. الناس لا يتغيرون ومحاولة تغييرهم ليست مجدية. والأحرى بنا أن نتقبلهم كما هم – بغض النظر عن احتياجاتنا الشخصية منهم – وأن نعيد ترتيب علاقاتنا معهم.
لا شيء سوى الذات لفهم الذات ولإرضائها لأنّ الآخر لن يحمل يوماً وزرها.
لم أفهم حين كنت صغيرة مدى ألم جدّتي، ولا مدى صبرها في تحمّله. وكنت – إن رأيتها تبكي أو تحارب بعض الدموع على وجنتيها – ينتابني شعور بأنّها ربما تحاول إثارة عطفنا. يا إلهي كم يمكن للإنسان أن يكون غير مبالٍ بألم الآخر، خاصّةً من هم الأقرب له.
كنت مراهقة آنذاك، أكثر حساسية تجاه ذاتي، معتقدة أن العالم يدور حول ألمي الشخصي، أنّ العالم ينتهي إن لم يتّصل بي ابن الجيران، أنّ العالم ضدّي، وأنّ بعض أصدقاء الطفولة سيبقون أصدقاء الأبد. يا إلهي كم كنت ساذجة، وربما لا أزال، فوحده الوقت قد يشكّل ميزان الأمور. المستقبل هو مفتاح الماضي وليس العكس كما الاعتقاد السائد. هو ما يجعلنا نفهم أو لا نفهم، من دون أن يتيح لنا أن نغيّر مجرى الأمور.
وربما حين نكتب عن الأشياء بعد وقتٍ طويل وبعد فقدها، تصبح النوستالجيا هي الطاغية وتنسينا الأمور السيئة أو تحاول على الأقل أن تخفّف من قبحها. وربما حين نكتب عن الأشخاص، نغيّر ملامحهم الشخصية والنفسية ليتناسبوا مع رغبتنا الشخصية، لأنّ الكتابة كما قال لي صديقي يوماً، تعويض عن الواقع.
لماذا أكتب عن جدّتي في رمضان ولماذا رغم كوني على بعد آلاف الأميال من بلادي، لا أشعر بأنّه يمكنني اقتطاع ذاكرتي. أتمنى في الكثير من الأحيان لو أنّي ولدت لأبوين آخرين ولأرضٍ أخرى، ولكن ليست تلك أمنية حقيقية. الحقيقة هي أنّي أتمنى لو أن الأمور كانت كلها على مستوى المثالية التي أحلم بها، ومن ضمنها حياتي السابقة.
في رمضان، كانت جدّتي أيضاً توزع الطعام على الفقراء وعلى من تعرفهم من محتاجين. كانت تعطي بلا حساب، لكن ما إن نضيء "لمبة" الممر (الكوريدور)، كانت تصرخ حسرة على تفريطنا بالكهرباء. الآن لأنّي كبرت أيضاً، بتّ أفهم أن لذلك ارتباط بالحرب والخوف من الإسراف لأنّه في وقت ما، كان هناك حرمان من كل شيء.
على عكس جدّتي، نسفت مدرّسة الدين في المدرسة الصيفية التي التحقت بها حين كنت صغيرة كل ما في الدين من روحية عطاء أو تسامح. وما علق في رأسي من دروسها كان عذاب القبر الذي ينتظرنا، وضرورة ألا نأكل في بيوت أصدقائنا المسيحيين لأنّهم لا يعرفون الطهارة ولا يغسلون أيديهم بعد دخول الحمام.
كانت تضع الكحل الأسود في عينيها وترسمهما بالآيلاينر، وتلبس ثوباً أسودا طويل أشبه بثياب الساحرات. وكان في ملامحها من القسوة والبرود ما لا يشبه عيني جدّتي بما حملاه من حزنٍ وعطف.
شكّل لي أسلوب المدرسة الإقصائي صدمة وبدل أن يقربني من الدين، تركني على مسافةٍ منه. وأدركت حين كبرت أن التديّن حين بتعد عن جانبه الروحي يصبح خطراً كبيراً وصرت متمسكة بما في الدين من أخلاق أكثر ممّا يحمل من تعاليم.
والآن حين أفكّر بالموضوع، أشعر أنّ جدّتي هي رمضان، الشوارع التي تفرغ من المارة حين نسمع ضرب المدفع وبعده الأذان. رائحة الأطعمة المتصاعدة من منازل الجيران، وهي أيضاً الصبر والقدرة على تحمّل الألم، هي تلك القيم الإنسانية مجتمعة في جسد امرأة عليل. وربما هي من أشعر أنّي تعلّمت منها الكثير من دون أن تلقنني يوماً أيّ درس دين.
أمّا مدرّسة الدين وغيرها ممّن شابهوها في تعسّف في المنطق والحديث، فهم من أبعدوني عن الكثير من التقاليد الدينية وجعلوني أنفر منها. منهم تعلّمت أنّ الترهيب والتخويف من الآخر والشعور بالفوقية الذي يعتمدونه محتجين بالدين لا ينجح في تقريب الناس من الله، بل كلّ ما قد يفعله هو إبعادهم عنه.