متظاهرون في الساحة الخضراء في الخرطوم تكريما لذكرى المتظاهرين الذين قتلوا خلال التظاهرات
متظاهرون في الساحة الخضراء في الخرطوم تكريما لذكرى المتظاهرين الذين قتلوا خلال التظاهرات

بابكر فيصل/

نجحت الثورة السودانية، التي اندلعت منذ شهر ديسمبر 2018، في إزاحة الجنرال الديكتاتور عمر البشير من كرسي الحكم، الذي تربع عليه طيلة ثلاثين عاما. وما فتئت الجماهير تحقق كل يوم انتصارا جديدا من أجل تحقيق هدفها النهائي المتمثل في الانتقال من الحكم الشمولي الاستبدادي إلى الحكم المدني الديمقراطي.

توحدت مطالب ملايين السودانيين الذي غمروا الشوارع بمسيراتهم وتظاهراتهم رافعين شعارات الحرية والسلام والعدالة على ضرورة انتقال السلطة إلى "حكومة مدنية" بعد ثلاثة عقود من الحكم العسكري الذي وضع البلاد على شفير الهاوية.

في هذه الأثناء، خرج علينا "حزب التحرير الإسلامي ـ ولاية السودان" بمطلب في غاية الغرابة، حيث نادى على لسان الناطق الرسمي باسمه إبراهيم عثمان أبو خليل، بتسليمه السلطة من أجل إقامة دولة الخلافة.

اندلعت الثورة السودانية للخلاص من نظام ديني شمولي

​​وقال أبو خليل في ندوة أقامتها وكالة الأنباء السودانية الرسمية في الحادي عشر منشهر يوليو: "نخاطب المخلصين من أهل القوة والمنعة تسليمنا الحكم من أجل استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة وحمل الدعوة الإسلامية قضية المسلمين المصيرية إلى العالم".

إن مطالبة حزب التحرير للجيش "أهل القوة والمنعة" بتسليمه السلطة من أجل إقامة الخلافة تعتبر خروجا على شعارات الثورة المنادية بقيام الدولة المدنية التي تتناقض بصورة جذرية مع مفهوم الخلافة ذلك لأن أساس الحقوق والواجبات في الأولى ينبني على "المواطنة" بينما يقوم في الثانية على "الدين" حيث يعتبر غير المسلم مواطنا من الدرجة الثانية.

حزب التحرير لا يدعو فقط لإقامة الدولة على أساس الدين، بل هو لا يؤمن بالديمقراطية ويُحرِّمها، ويقول إنها "نظام كفر" يتناقض تناقضا تاما مع أحكام الإسلام، ويعتبر الدعوة إليها دعوة إلى أمرا باطلا، وقد أصدر الحزب كتيبا بعنوان: "الديمقراطية نظام كفر، يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها".

لا يكتفي حزب التحرير بالمطالبة بتسليمه السلطة ليقيم الخلافة، بل يمضي أبعد من ذلك ليتعهد بتصدير الدعوة لجميع أنحاء العالم، ويُفيد السياق الذي تحدث فيه أبو خليل بأن المقصود ليس التبشير السلمي بالديانة الإسلامية فذلك أمر لم يتوقف طوال التاريخ، بل هي تضمر الدعوة لنشر "قضية المسلمين المصيرية" عبر الجهاد الهجومي، وما الخلافة إلا المنصة التي سينطلق منها ذلك الجهاد.

إن أحد أسباب ثورة السودانيين على النظام العسكري للإخوان المسلمين الذي ترأسه الطاغية المخلوع عمر البشير، هو تبنيه لمشروع ديني عابر للحدود، لا يعترف بالوطن ككيان جامع بل يعتبر أن مجال عمله الحيوي هو "الأمة الإسلامية"، ولذلك عمل على تحويل البلد لملاذ آمن لمختلف الجماعات الجهادية المتطرفة مثل القاعدة والجماعة الإسلامية المصرية.

ومن ناحية أخرى، أعلن أبو خليل تحفظ حزبه على الاتفاق الذي تم بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير لجهة أنه قام على أساس باطل من الناحية "الشرعية والواقعية"، وأضاف أن "حزب التحرير بعمله هذا لا يُلقي بالا لرضا الكفار المستعمرين ومنظماتهم بل يجعل رضا الله سبحانه وتعالى هو الغاية المثلى والمقصد الأسمى".

الحديث عن أن هناك تصورا "كاملا للحياة الإسلامية" فهو مجرد أوهام أيديولوجية

​​إن توصيف الدول الغربية "بالكفار المستعمرين" يُعيد إلى الأذهان ذات توجهات نظام الطاغية المخلوع عمر البشير الذي أعلن حربا مفتوحة على الدول الكبرى بحجة أنها تعادي الإسلام، ورفع شعارات من شاكلة "أميركا وروسيا قد دنا عذابها عليَّ إن لاقيتها ضرابها" وهو شعار يجاري أهزوجة منسوبة للصحابي جعفر بن أبي طالب الملقب بالطيَّار في معركة مؤتة يقول فيها: "والروم روم قد دنا عذابـها.. كافـرةٌ بعيدة أنسابـها.. عليَّ إذ لاقيتها ضرابـها".

هذه الشعارات وما تبعها من سياسات معادية لدول الجوار الإقليمي والعالم أدخلت السودان في عزلة دولية خانقة جعلته دولة منبوذة وهو الأمر الذي أدى لنتائج كارثية على أصعدة الاقتصاد والسياسة والدبلوماسية وما يرتبط بها من قضايا الفقر والحروب والتنمية والتطرف وذلك بسبب العقوبات الاقتصادية ووضع اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب وغيرها من المشاكل التي نتجت عن تبني الشعارات الدينية المستندة إلى الأيديولوجية العابرة للحدود الوطنية.

إن الأساس الشرعي (الديني) الذي ينشده حزب التحرير لتأسيس الحكم في السودان يتعارض مع الطبيعة المدنية للدولة، ذلك لأن الأسس المطلوبة لتنظيم الشؤون السياسية والاقتصادية والقانونية في الدولة الحديثة ليست بالضرورة نابعة من الدين، وكذلك فإن التجربة البشرية أثبتت أن وقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان يشكل أحد العوامل الرئيسية في استقرارها وتقدمها.

إضافة لحديثه سابق الذكر، أكد أبو خليل أن لحزب التحرير الإسلامي "دستور واضح يقوم على الكتاب والسنة ويحوي 191 مادة وفق تصور كامل للحياة الإسلامية في أنظمة الحكم والاقتصاد والاجتماع والسياسة التعليم والسياسة الخارجية والتشريعات بل أنظمة شاملة لدستور الدولة وسائر القوانين".

من الجلي أن دستور حزب التحرير يعكس أيضا حالة واضحة من الانفصام مع طبيعة الأحزاب السياسية الحديثة، التي شأنها شأن الدولة المدنية، لا يجب أن تتأسس في إطار دين أو طائفة معينة، بل تنبني على المواطنة وبحيث تستوعب مكونات الشعب المختلفة بغض النظر عن أديانها أو أعراقها أو أجناسها.

لن تسمح الجماهير بالعودة لمثل ذلك النظام مرة أخرى وتحت نفس الادعاءات والحجج

​​أما الحديث عن أن هناك تصورا "كاملا للحياة الإسلامية" فهو مجرد أوهام أيديولوجية لا تجد لها سندا في الواقع أو التاريخ، حيث لا يستطيع حزب التحرير أن يعطينا مثالا واحدا لتلك الحياة الإسلامية في عالمنا الراهن على الأقل في مجال "أنظمة الحكم" دعك من الاقتصاد والسياسة الخارجية.

إن حزب التحرير في واقع الأمر، شأنه شأن جميع حركات الإسلام السياسي، لا يملك رؤية واضحة لكيفية الوصول للخلافة أو وسيلة اختيار الحاكم أو كيفية تداول السلطة أو تجاوز العقبات التي أفرزها تغير الزمان ومنها حقيقة وجود الدولة الوطنية، ولكنه يكتفي بطرح الشعار وإبراز صورة وردية لا تاريخية للخلافة.

اندلعت الثورة السودانية للخلاص من نظام ديني شمولي أدخل البلاد في أتون حروب أهلية عبثية أُزهقت فيها آلاف الأرواح، فضلا عن الدمار الاقتصادي واستشراء الفساد وقمع الخصوم وكبت الحريات وإهدار كرامة الإنسان السوداني، ولن تسمح الجماهير بالعودة لمثل ذلك النظام مرة أخرى وتحت نفس الادعاءات والحجج، وستقوم بحراسة ثورتها حتى تتحقق شعاراتها في مدنية السلطة وديمقراطية الحكم.

اقرأ للكاتب أيضا: التوظيف السياسي للدين: أبو حامد الغزالي نموذجا

ـــــــــــــــــــــ

الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لشبكة الشرق الأوسط للإرسال (أم. بي. أن).

المزيد من المقالات

مواضيع ذات صلة:

"الرغيف" بالفرنسية بترجمة فيفي أبو ديب
"الرغيف" بالفرنسية بترجمة فيفي أبو ديب

يحتفل العالم في 30 سبتمبر من كل عام باليوم الدولي للترجمة، الذي يراد به، بحسب تعريف الأمم المتحدة، "إتاحة الفرصة للإشادة بعمل المتخصصين في اللغة، الذين يلعبون دورًا مهمًا في التقريب بين الدول، وتسهيل الحوار والتفاهم والتعاون، والمساهمة في التنمية وتعزيز السلام والأمن العالميين". في هذه المناسبة التي تحتفي بالمترجمين الذين يمدّون جسوراً بين اللغات والثقافات، حاور "ارفع صوتك" الكاتبة والمترجمة اللبنانية فيفي أبو ديب التي تفخر بترجمتها لرواية "الرغيف" الشهيرة للأديب اللبناني توفيق يوسف عواد من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية.

ما الذي تعنيه الترجمة بالنسبة للمترجمين العرب؟

يزخر التاريخ العربي بالترجمات التي تركت أثرا مهماً وعابرا للغات سواء من العربية وإليها، أو إلى لغات أخرى لإتاحة المحتوى لأكبر شريحة ممكنة من الناس، وهكذا على سبيل المثال ترجم أرسطو في الأزمنة البعيدة، وعرفت الترجمة عصراً ذهبيا في العصر العباسي. ومن منا لا يعرف الجاحظ الذي ذهب إلى ما هو أبعد من الكلمة ليركز على ضرورة النظر في السياق الذي أتى منه النص الأصلي للوصول إلى انسيابية كاملة في النص.

بناء على تاريخ عريق، تجد الترجمة جذورها في السعي لاستقاء المعرفة من مصادر متنوعة والتعرف أكثر إلى الآخر، فاللغة هي مرآة أيضا للتقاليد والتطلعات. وبالنسبة لنا كمترجمات ومترجمين عرب، الترجمة أبعد من أن تختصر بوظيفة، وإنما هي رسالة، لنحمل الإنتاج من العربية أيضا إلى العالم، وهذا ما شعرت به وأنا أحمل رسالة بوزن "الرغيف" (2015) و"طواحين بيروت" (2012) وبإمضاء عواد العريق من جملة كتب ومنشورات أخرى بصيغ مختلفة.

كيف تتم عملية الترجمة وأين هو المترجم في العمل؟

يبدأ الأمر بالتعرف إلى المادة وهذا لا يعني حكماً أن المترجم يختار مواده. أحيانا، يختارها عملاؤنا وبغض النظر عن الرابط الذي ينشأ بين المترجم أو المادة، تبقى القاعدة نقل الرسالة بدقة وبالأسلوب الذي يتواءم معها. العملية تتم على مراحل عدة أهمها اكتشاف النص وقراءته بتمحّص مراراً وتكراراً والبحث بعمق عن السياق الزمني والمكاني الذي نشأ فيه، والتأكد من الأسماء والمفردات التقنية. هذا يعني الغوص في بحث حول الموضوع المتناول، قبل البدء بالعمل مع كل كلمة وسطر ومقطع وصفحة ثم قراءة ثانية وثالثة للتأكد من الإنسيابية في النص ومن الإتساق على مستوى الأفكار.. وقراءة أخيرة للتأكد من أن كل شيء يبدو جيداً.. أحيانا، نتوقف عند تفصيل صغير لأنه يغير شيئا ما بالنبرة.

خلال عملية الترجمة، يتوخى المترجم الإختفاء تماماً خلف هوية الكاتب، لكن ذلك ليس سهلاً على الدوام. ومع ذلك تبقى الأولوية للوفاء للكاتب ولرسالته بغض النظر عن نوع المادة. لا شك بأن المترجم له بصمته وهذا ما يتّضح جلياص من خلال الأعمال المترجمة على يد أكثر من شخص. لا تتشابه أي ترجمة مع الثانية لأن لكل إنسان بالمطلق بصمته وثقافته ومعرفته بالمواد وهي تختلف بدرجات.

ما الأثر الذي تركته ترجمة "الرغيف" للقارىء الأجنبي في نفسك؟

تسلط رواية "الرغيف" الضوء على فترة وضعت لفترة طويلة في الظل من عمر لبنان وهي فترة المجاعة(1915-1918)، بكل البشاعة والفضائح التي تحملها. بلغة سلسة أصفها "بالسهل الممتنع". يعرف قلة من الناس أن عواد كان على بعد ملايين الكيلومترات من البلاد وكان سفيراً في اليابان حين كتب الرواية وهذا يعني أنه استطاع رؤية الصورة بشكل أكثر شمولا وبأن الحنين للوطن لا بد وأنه كان يعتريه. أما عن الأثر في نفسي، فقد كان كبيراً للغاية. أذكر أني عشت فترة آمنت فيها بأن عواد يسكن جسدي وبات أسلوبي شبيهاً بأسلوبه للغاية. حين نترجم وعلى الرغم من كل محاولتنا "تحصين" أنفسنا بعض الشيء من المضمون، قد نصبح أحيانا مهووسين بكتاب أو بكاتب أو بحبكة.

حين ترجمت "الرغيف"، كنت على يقين بأنني أدين لبلدي أيضاً بنقل الحقيقة بلغة متاحة للقارئ الأجنبي. هذا جزء من المسؤولية الإجتماعية خصوصا وأن غض النظر عن الكتابات الإنسانية يعني التعتيم عليها وبالتالي المساهمة بشكل غير مباشر بإطالة الظلم. الترجمة تعني أيضا رفع الصوت ودعوة جمهور أكبر للإنضمام إلى القضية وهذا ما ينطبق على بعض الكتب ذات الأبعاد الفلسفية والإجتماعية.  

هل تنتهي مهمة المترجم مع تسليم العمل وهل يهدد الذكاء الإصطناعي وجوده؟

على العكس تماماً، في عالم الترجمة لا نتوقف عن اكتساب النضج ولذلك قد يعود البعض لترجماتهم فيغيرون فيها الكثير. تتأثر الترجمة بعوامل ذاتية وخارجية متنوعة أهمها الخبرة المكتسبة والتي نتعلم معها أن نصحح لأنفسنا. هذا لا يعني بأن الترجمة تكون خاطئة لكنه يمنح المساحة لبدائل أجمل. أما بالنسبة للذكاء الإصطناعي، فلا شك بأنه يساعد في تسريع وتيرة الأمور لكني لا أعتقد أنه قادر حتى الساعة على استبدال المترجم بكل ذكائه وإحساسه البشري وتقديره لما خفي بين السطور. لذلك، من الضروري للغاية أن يطور المترجم نفسه ويتقن استثمار أدوات الذكاء الإصطناعي الجديدة لتسهيل مهمته وإثرائها، عوضاً عن أن يفوته ركب التكنولوجيا. لغة التكنولوجيا هي لغة العصر ولا بد من أن تدخل في قائمة اللغات التي يتقنها المترجم الحريص على إدامة وجوده.

هل يحدث أن تتفوق الترجمة على النص الأصلي؟

لم لا؟ طالما أن ذلك يصبّ في مصلحة الكاتب ويروج لأفكاره في قالب أجمل. أحيانا قد يقع المترجم في عشق المادة فيزيد من نفسه ومن سعيه لإبرازها بكل تفاصيلها بأفضل طريقة. وأحياناً أيضا قد ننسى أن من يبحث عن الترجمة قد لا يفقه لغة المصدر، وبالتالي يحمل المترجمون ما يراد قوله إلى جمهور يتوق لقراءته وههنا ندين بالشكر للكتاب وللمترجمين وللقراء!